الجمهورية الإسلامية الايرانية تواجه تحديات الداخل والخارج
د. بشير موسى نافع
كانت حركة الاحتجاج التي شهدتها إيران، لا سيما العاصمة طهران، بعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية في 12 حزيران/يونيو الماضي تطوراً جدياً وغير متوقع في الساحة السياسية الداخلية. صحيح أن حركة الاحتجاج آنذاك لم تجذب قطاعات واسعة من الشعب الإيراني، وأنها بدت أقرب إلى التعبير السياسي الاجتماعي منها إلى الحركة الشعبية العابرة للطبقات. ولكن الحركة استمرت لعدة أسابيع، على أية حال، مؤشرة إلى عمق الدوافع خلف انطلاقها، وإلى تصميم الآلاف التي شاركت فيها على تحدي إرادة الحكم.
حرص قادة الحركة، المرشحان الخاسران في الانتخابات الرئاسية، المهندس مير حسين موسوي وحجة الإسلام كروبي، طوال أسابيع الاضطرابات، على تأكيد ولائهما للجمهورية الإسلامية والأسس التي قامت عليها، وعلى أن تحركهما يقتصر على معارضة الممارسات الاستبدادية، التي تمثلها حكومة الرئيس أحمدي نجاد وبعض مؤسسات الجمهورية، ومعارضة سياسات الحكم الخارجية، التي وصفوها بعدم الاكتراث بحاجات إيران الوطنية والانخراط في دعم قوى إسلامية خارجية تمثل عبئاً على مصالح البلاد وازدهارها. ولكن خارطة حركة الاحتجاج كانت أعقد بكثير، من حيث دلالتها على حقيقة التوجهات التي جمعت أجنحة المعارضة والآلاف من المحتجين.
عبرت شعارات المشاركين في مظاهرات الصيف الساخن عن معارضة لمبدأ ولاية الفقيه، الذي ترتكز إليه الجمهورية الإسلامية، ونادت بسقوط آية الله خامنئي، مرشد الجمهورية وقائدها؛ وطالبت بمزيد من الحريات، وحملت توجهات معادية لروسيا، التي بدا أنها تخالف القوى الغربية في موقفها من الحكم في طهران؛ كما جمع المحتجين اعتقاد مشترك بأن نتائج الانتخابات الرئاسية قد تعرضت للتزييف. وليس من الواضح إلى أي مدى ضمت الحركة محرضين مرتبطين بالخارج، بالرغم من تأكيد دوائر الحكم على وجود مثل هذه العناصر. ولكن بروز مسألة ولاية الفقيه بتلك القوة والوضوح في الحركة الاحتجاجية، وصمت قادة الحركة ورموزها على تلك التعبيرات، أشارت إلى أن موسوي وكروبي يتحركان هما أيضاً بدوافع إعادة النظر في الموقع السياسي لمبدأ ولاية الفقيه، والأساس الدستوري للجمهورية.
تلقت الحركة دعماً من الرئيس السابق، ورجل الدين، محمد خاتمي، وعدد من الذين التفوا حوله أثناء فترتي رئاسته للجمهورية. كما تلقت، على الأقل لعدة أسابيع، دعماً مماثلاً من الرئيس الأسبق، ورئيس مجلس الخبراء، حجة الإسلام رفسنجاني. وقد بدا أن خاتمي لا يشارك الحركة احتجاجها على ما اعتبرته ممارسات استبدادية وحسب، بل ويعتقد بضرورة إعادة النظر في مؤسسة ولاية الفقيه. رفسنجاني، على الأرجح، حركته دوافع أخرى.
بيد أن دعماً هاماً للحركة، ودعما أثقل وزناً بالمقاييس الدينية، جاء من آية العظمى منتظري، تلميذ الخميني وخليفته المفترض حتى عزله قبل شهور قليلة من وفاة مؤسس الجمهورية، وأحد أبرز الفقهاء الإيرانيين المعارضين للحكم طوال العقدين الماضيين. بدأت معارضة منتظري لنظام الجمهورية، الذي كان أحد بناته الأساسيين، من منطلقات سياسية بحتة، سواء في مطالبته بوقف الحرب العراقية الإيرانية بعد أن استردت إيران أرضها التي استولى عليها الجيش العراقي في مطلع الحرب، أو في إدانته للأساليب القمعية وغير القانونية التي مارستها أجهزة الحكم الثوري ضد القوى المعارضة، مثل مجاهدي خلق، التي سعت إلى إطاحة النظام الإسلامي خلال سنوات الثمانينات. ولكن موقف منتظري من مبدأ ولاية الفقيه ظل غامضاً، ومدعاة للتساؤلات. ففي نصوصه الأولى بعد انتصار الثورة الإسلامية، تبنى منتظري موقفاً أقرب إلى موقف الإمام الخميني في اعتقاده بالولاية المطلقة؛ ولكن رؤيته لمسألة الولاية أصبحت أكثر تحفظاً بتطور موقفه السياسي المعارض. وفاة منتظري عن 87 عاماً، وتشييع جنازته في 21 من كانون الأول (ديسمبر)، كانت مناسبة لاندلاع حركة المعارضة من جديد. شهدت مراسم التشييع في مدينة قم اجتماعاً لرموز المعارضة السياسية في العاصمة، كما شهدت حشداً يصل إلى مائة ألف من الإيرانيين، جاء عدد كبير منهم من مدينة أصفهان وجوارها، المنطقة التي يتحدر منها منتظري. هذه هي المرة الأولى في تاريخ الجمهورية التي تعرف فيها مدينة قم تجمعاً معارضاً للحكم الإسلامي. فالمدينة هي واحدة من أهم مراكز العلوم الدينية في البلاد، ومنها بدأ الإمام الخميني حركته في الستينات من القرن الماضي؛ وهي فوق ذلك أكثر المدن الإيرانية محافظة. عندما تتمكن القوى المعارضة، حتى في مناسبة مثل وفاة منتظري، إطلاق مثل هذا التجمع الاحتجاجي، فمعنى ذلك أن الانقسام الإيراني حقيقي وعميق، وليس عابراً. خلال الأيام التالية، كان على قوات الأمن أن تتدخل لتمنع تحول مجالس عزاء منتظري إلى سلسلة من التحركات المعارضة المتصاعدة. ولكن التطور الأهم برز في أيام الاجتماع الديني الشيعي التقليدي في الاحتفال بيوم عاشوراء، عندما شهدت طهران، ومدن أخرى، حشوداً جماهيرية موالية للنظام وأخرى معارضة، تتواجه أحياناً في الميدان أو الموقع نفسه، وسقوط قتلى وجرحى، معيدة التأكيد على الانقسام الذي تعيشه البلاد.
لم تنته موجة الاحتجاج الأولى في الصيف الماضي إلا بعد أن تراجع رفسنجاني عن دعمه لمعسكر المعارضة، بعد أن أدرك ربما حجم المخاطر التي بدأت تهدد النظام كله. لم يكن رفسنجاني معارضاً راديكالياً للحكم، ولا حتى معارضاً على مستوى موسوي وكروبي. ولكن دعمه المبكر للمعارضة كان بالغ الأهمية، ليس فقط لكونه أحد أعمدة الجمهورية الإسلامية الرئيسة، ولكن أيضاً لأنه أشار إلى الانقسام في صفوف المعسكر المحافظ، الذي يرتكز إليه نظام الحكم الإسلامي ومؤسسة ولاية الفقيه. بدأ الانشقاق في صفوف المحافظين منذ 2004 بين تيار أيديولوجي راديكالي، يمثله أحمدي نجاد ومن حوله، وتيار محافظ براغماتي، ارتبط دائماً برفسنجاني ونمط إدارته لشؤون البلاد والدولة. بدون هذا الانقسام لم يكن لحركة الاحتجاج أن تندلع في أعقاب الانتخابات الرئاسية، أو على الأقل ما كان لها أن تتحول من حركة احتجاج على نتائج الانتخابات الرئاسية إلى تحرك معارض متعدد الشعارات والأهداف. وكان من المفترض بعد أن خمدت الموجة الاحتجاجية الأولى، واستقر الرئيس أحمدي نجاد في ولايته الرئاسية الثانية، أن تبذل جهود جادة وملموسة لعقد مصالحة بين كافة الأجنحة السياسية، أو على الأقل بين تياري المعسكر المحافظ الرئيسيين، وأن يعاد بناء كتلة الثقل التي يستند إليها نظام الجمهورية الإسلامية. ولكن مثل هذه المصالحة لم تقع؛ بل إن الخطاب السياسي الإيراني المحافظ شهد بروز لغة أكثر راديكالية في توصيفها لولاية الفقيه، كأن يقال مثلاً ان الولي الفقيه لا ينتخب، بل يجري التعرف عليه، لأن تعيينه يرتبط أصلاً بإرادة إلهية. غياب المصالحة، وافتقاد البلاد للكتلة المركزية، وفر المناخ المناسب لاندلاع الحركة المعارضة من جديد. وهذا ما تشهده إيران اليوم.
في موازاة الانقسام الداخلي، لا يبدو أن ملف البرنامج النووي الإيراني سيشهد حلاً حاسماً في القريب العاجل؛ وقد تحول الملف إلى صراع إرادات وسياسات بين طهران وإدارة الرئيس باراك أوباما. احد المسارات الممكنة للملف النووي، أن يتطور الصراع إلى ضربة أمريكية عسكرية هائلة على المواقع الإيرانية النووية الرئيسية. ولأن طهران لا بد أن تواجه الهجمة الامريكية بالرد، على الأقل بإغلاق ممر الخليج النفطي، فلا بد أن تطال الهجمة الامريكية مقدرات إيران الدفاعية، إضافة إلى إمكاناتها العسكرية في منطقة الخليج. تدرك القيادة الإيرانية، بالطبع، أن الهجمة الامريكية، في حال وقوعها، لن تقتصر على المنشآت النووية؛ لذا فليس من المستبعد، إن تيقنت طهران من أن الهجمة الامريكية واقعة لا محالة، أن تبادر بإشعال المعركة العسكرية، بدلاً من انتظار ضربات متوازية، تجهض القدرات الإيرانية على الرد. لذا، فإن احتلال إيران للآبار النفطية العراقية في حقل فكة الحدودي لا بد أن ينظر إليه من منظار أوسع. احد أهداف طهران من احتلال الآبار يتعلق بإشعار الشركات الأجنبية، التي تتنافس على عقود تطوير صناعة النفط العراقية، أن حقل فكة يقع في منطقة متنازع عليها. الهدف المحتمل الآخر يتعلق بالضغط على المالكي للانضواء تحت راية التحالف الشيعي، من أجل تأمين السيطرة الشيعية الطائفية على الحكم العراقي في الفترة البرلمانية القادمة. ولكن الهدف الثالث يتعلق بإرسال رسالة للأمريكيين بأن طهران لن تتردد في المبادرة بالهجوم إن تيقنت من انتقال الإدارة الامريكية إلى الخيار العسكري في تعاملها مع الملف النووي.
في كل الحالات، تبدو طهران في وضع حرج، ينذر بخسائر فادحة. استمرار الانقسام الداخلي خدش شرعية النظام، ويهدد الجمهورية بفترة طويلة من عدم الاستقرار، ستضطر النظام إلى اللجوء لمزيد من الأساليب القمعية. كما أن هشاشة الوضع الداخلي ستتسبب في إرباك القرار الإيراني في الصراع المحتدم على الملف النووي. من جهة أخرى، وبينما تعمل طهران على تأمين السيطرة الشيعية الطائفية على مقاليد الحكم في العراق، فإن خطوة مثل احتلال آبار نفط فكة، ستضعف مصداقية قوى التشيع السياسي المرتبطة بإيران، وتعزز الاتهام الموجه لها بالتفريط بالمصالح الوطنية العراقية. الجمهورية الإسلامية، باختصار، تواجه تحديات بالغة الصعوبة والتعقيد، داخلياً وخارجياً. كيف ستخرج إيران من هذا الاشتباك بالغ التعقيد بين الفكري الديني، وسياسات الحكم، والصراع الدولي والإقليمي، بات أمراً في كفة الاحتمالات.
‘ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
القدس العربي