وكأن الأكراد مهاجرون إلى وطنهم
حسين العودات
حظرت المحكمة الدستورية التركية حزب المجتمع الديموقراطي الكردي وهو الحزب الكردي الوحيد المرخص، وألغت عضوية رئيسه ونائب الرئيس في المجلس النيابي، كما حظرت العمل السياسي على عشرات من أعضائه بحجة (دعوته للإرهاب) ودعمه لحزب العمال الكردستاني المحظور بقيادة عبد الله أوجلان المعتقل منذ حوالي عشر سنوات، بل واعتبرته حزباً إرهابياً وليس فقط داعماً للإرهاب،
وقرر نواب الحزب ـكرد فعل على قرار المحكمة ـ تقديم استقالتهم من المجلس النيابي، ثم تراجعوا وقرروا الانتساب لحزب آخر، ولاشك أن هذه الإجراءات تزيد الخلافات بين الأكراد والحكومة التركية، وتهدد بفشل سياسة حزب العدالة والتنمية ورئيسه رجب طيب أردوغان التي تهدف إلى حل مشكلة الأكراد وإعطائهم بعض حقوقهم والتعامل معهم كمواطنين أتراكاً كاملي المواطنة، وسد ذرائع دول المنظومة الأووربية التي من جملة شروطها لقبول تركيا عضواً فيها حل المشكلة الكردية.
تشكل الشعب الكردي وهو من أصول هندو ـ أوروبية، قبل آلاف السنين من امتزاج عدة شعوب تسكن محاذاة جبال زاغروس وطوروس، وقد حافظ على لغته وعاداته وتقاليده، وأقام خلال تاريخه كيانات مستقلة عديدة، كانت تُقمع وتُستعمر من إمبراطوريات عظمى كالرومان واليونان والفرس، ولعل الأكراد الآن من أكبر الأمم (وربما أكبرها) في العالم التي ليس لها كيان مستقل معترف به أو دولة مستقلة، ومعروف عنهم خلال التاريخ بأنهم محاربون أشداء، وقد أطلق عليهم المؤرخ اليوناني (زينون) هذه الصفة في القرن الرابع الميلادي. ويقدر عددهم حالياً بحوالي أربعين مليون نسمة، يتبعثر ربعهم في بلدان العالم المختلفة وفي القارات كلها، وتتقاسم العدد الباقي من السكان تركيا (15) مليون، وإيران حوالي (8) مليون، والعراق (5) مليون، وسورية ما يقارب المليونين، وقد وزعت معظم أراضي وطنهم على هذه البلاد منذ مطلع القرن الماضي (حسب نتائج الحرب العالمية الأولى إضافة لبنود اتفاقية سايكس بيكو) وأخلت الدول الكبرى بوعودها للأكراد بتوحيد بلادهم وإقامة دولة واحدة مستقلة لهم على أرضهم الوطنية، وخدعتهم أكثر من مرة طوال ذاك القرن، وورطتهم بمواقف سياسية وحركات تمرد غير مجدية عادت عليهم بالضرر والمآسي، وأسست لأحقاد بينهم وبين الشعوب المجاورة لهم رغم التاريخ المشترك والثقافة المشتركة والمصير المشترك.
منذ إعلان مصطفى كمال أتاتورك دولته (العلمانية) قرر هضم حقوق الأقليات والجور عليهم وعلى رأسهم الأكراد انطلاقاً من موقف قومي متعصب، فأطلقت عليهم السلطات التركية المتعاقبة اسم (شعب شرق الأناضول) وأحياناً (أتراك الجبال) إنكاراً لهويتهم، ومنعتهم من التحدث بلغتهم أو تعلمها أو نشر الكتب بها أو ممارسة عاداتهم وتقاليدهم القومية، ورفضت حتى الاعتراف بهم كمواطنين مساوين لغيرهم، فثاروا عام 1925 بقيادة (سعيد بيران) فعاقبتهم السلطات التركية في ذلك الوقت ـ بحسب مؤرخيهم ـ بهدم ثلاثة آلاف قرية من قراهم وتشريد ما يقارب الأربعمئة ألف شخص، ويقول مؤرخوهم أن عدد القتلى بسبب تلك الثورة وتهديم القرى وعمليات التشريد تجاوز مليون مشرد وقتيل.
تجاهلت السلطات الإيرانية بدورها حقوق الأكراد القومية والثقافية ورفضت مطلقاً الاعتراف بحقوقهم السياسية، فقمعتهم طوال ما يقارب القرن بقسوة وعنف وشدة، وقضت على ثوراتهم المتتابعة، ومنعتهم من إقامة الحكم الذاتي وتعلم لغتهم الوطنية، وتشكيل أحزابهم، كما تصدت لثورتهم في ثمانينات القرن الماضي بقيادة عبد الرحمن قاسملو بقسوة وشدة، ثم اغتالت قاسملو نفسه في أوروبا، وفعلت السلطات العراقية الأمر نفسه حتى عام 1972 حيث وافقت في ذلك العام على إقامة حكم ذاتي لأكراد العراق، وتجاهلت السلطات السورية بدورها حقوقهم الثقافية ومعاملتهم كبقية المواطنين، ورفضت منح بعضهم بطاقات شخصية، أو قبولهم في وظائف الدولة، وبقيت أمورهم معلقة حتى الآن، رغم تعاطف رئيس الجمهورية مع قضيتهم.
لاجدال أن للأكراد وطنهم وأرضهم منذ آلاف السنين، واسم هذا الوطن التاريخي هو (كردستان) أي أرض الكرد، وهو مجزأ بين عدة دول محيطة به تتقاسمه كغنائم الحرب، وتحرم سكانه ليس فقط من حقوقهم السياسية والقومية، وإنما أيضاً من حقوقهم كمواطنين في هذه الدول، ومازالوا يعاملون (عملياً) كمواطنين من الدرجة الثانية، وتلوح وحدة أراضي وطنهم أمامهم كحلم صعب التحقيق أو أمنية بعيدة المنال، وقد أعيتهم الحيلة خلال التاريخ وفشلوا في توحيد أراضي بلادهم، وهاهم مازالوا يناضلون من أجل هدف بديهي حصلت عليه معظم شعوب الأرض.
أدرك حزب العدالة والتنمية التركي برئاسة رجب طيب أردوغان جور السياسة التركية على الأكراد خلال القرن الماضي بطوله، وفي الوقت نفسه اعتبر الأوروبيون أن حل المشكلة الكردية يقع على رأس شروطهم لقبول تركيا في صفوفهم، فبدأ أردوغان تنفيذ سياسة جديدة تجاههم منها توسيع صلاحيات البلديات، والاعتراف باللغة الكردية، والسماح بالدراسة فيها، والموافقة على تأسيس إذاعات تبث باللغة الكردية، وربما كان في طريقه للموافقة لهم على حكم ذاتي في مناطقهم في جنوب شرق تركيا، إلى أن جاء حكم المحكمة الدستورية الأخير هذا، فأضاع جهود أردوغان، وبدد آماله وآمال الأكراد، وخلق توتراً بين الأكراد والدولة التركية، وأربك حكومة حزب العدالة والتنمية وأوقعها في ورطة يصعب الخروج منها.
يبدو أن للعسكر التركي ألف يد ويد، فكلما قطعت يد نبتت غيرها، وها هم يدفعون أكراد تركيا دفعاً للالتحاق بصفوف الإرهاب، بعد أن قبلوا التطور التدريجي السلمي والدخول في نسيج المجتمع، وتجفيف منابع الإرهاب.
البيان