رسائل اوكتافيو باث غير المنشورة الى الشاعر توماس سيغوفيا
خلافاتنا عميقة لكننا متفقون حول الأساس: الشعر ليس كالحجارة
في صوت خفيض وراء الكلمة والصورة، انبثق شعر اوكتافيو باث. تلبّس تمرّده تمرّد الكون، ولم يشأ التفتّح في منأى عن عصيان الجسد والمرء والطبيعة، وبعيدا من أدران الأنا وأشباهها. أدرك أن اللغز، اللغز برمّته، كامن في الفعل الشعري. منذ ثمانية عشر عاما، تذكّرت جائزة نوبل للآداب الشاعر والباحث المكسيكي قبل أن يخطفه الموت، فكرّمت بذلك سورياليا ساجل انتماءه لهذا التيار، مستبقيا منه موقفه الأخلاقي على حساب جمالياته.
بعد عقد على غيابه، من الصعب العثور على مخطوطة غير منشورة لأوكتافيو باث. ونظرا الى أن النادر نفيس، تصير “رسائل الى توماس سيغوفيا 1957-1985″، التي أصدرها “صندوق الثقافة الاقتصادية” في إطار تكريم وطني للشاعر الكبير، استعادة استثنائية له وبعثا لحضوره وفكره. تزدحم النصوص المتواترة في خمس وخمسين محطة، بحركة لا تستكين، وبشفافيات الفعل الماضي اللانهائي الذي تمرس به الشاعر من جهة، كما تحتضن من جهة ثانية، ذائقة شاعر إسباني شاب باسم توماس سيغوفيا، جعل نفسه مكسيكيا خلال فترة نفيه المديدة، والتحق بغنائية تلمّس خطواتها ليصير عبرها، أحد أكبر شعراء القشتالية. في النصف الثاني من القرن الماضي، وفي حيّز مكسيكي تتجاذبه الصراعات، تظلّل هذه المراسلات صداقة رمزية شابتها أحيانا فسحات من الصمت، في موازاة ميل الى التصدع والفتور. غير ان باث عقد خلال معظم تلك السنوات، حوارات نديّة فكرية مع هذا الأديب الإسباني. لم يتحفظ باث عن الحديث في باكورة رسائله عن اكتشافه “السعادة المتأتية من إمكان التحدث الى شخص ما، في لغة مشتركة، دونما حاجة الى مترجمين”، وهو المسحور بمفهوم الشخصية التوأم، والمحتج على “أنا القصيدة”. في ثنايا هذا الكتاب، تأتينا نصوص كُتبت غالبيتها في موئل طاغور، وهي تظهير للصلات الثقافية وتزكية للصداقة والدعوة الأدبية والحب والتساؤل الضروري، في ماهية المرء المكسيكي والأميركي اللاتيني، وسط هنات الحياة ومروحة الأفكار. يغزر فيها الحديث عن مشاريع تنطلق شديدة الخصوصية وترتقي الى العموميات لتصير بحثا صاحياً وجدياً عن التجربة الاسبانوية التي نقّب عنها باث بدءا من “متاهة الوحدة”، فضلاً عن الايروتيكية وتخلّف الدول عن النمو والسوريالية والثقافة الأوروبية.
نُشرت الرسائل على سجيتها دونما تصحيح، واكتنفتها موضوعات يحرّكها الشغف وفوران المضمون والإيقاع على السواء، والوفاء لحيوية باث وقدرته السجالية والنقدية. في سن النضج وعلى مرّ ثمانية وعشرين عاما شكّلت الحقبة الأشد خصباً في مسار باث، تظهّر هذه الرسائل مسار مؤلفاته المحورية، كمثل “صخرة الشمس” و”انعطاف” و”أبيض”، واهتمامه بما كان يجري في المكسيك. ينطلق التبادل البريدي في1957 إثر تلقي باث مراجعة توماس سيغوفيا البالغ ثلاثين عاماً لمجموعته الشعرية “القوس والقيثارة” التي كان نشرها في “مجلة الآداب المكسيكية” قبل عام من ذلك التاريخ.
في رسالة أولى موجزة لا تزيد على عشرين سطرا، يردّ باث الخمسيني بما يأتي: “خلافاتنا عميقة ولا يمكنها أن تكون أشد عمقا، غير أني أظننا متفقين حول الأساس. أوافقك الرأي، الشعر لا يشبه الحجارة وإنما النظرة”. كان باث آنذاك قد صار قامة أدبية عالمية وتسلّم مهمات ديبلوماسية، فراح يجوب القارات، ويحاضر في صروح جامعية، ويساهم في مجلات رفيعة. على رغم ذلك، راق له المكوث في عين الزوبعة، وتعاطف مع ما يضجّ في أصقاع العالم، معتنقاً التحديات الملازمة للكتابة. هذا ما يمنح الرسائل سمة اليومي الموشّى بحوادث عالمية، وهذا ما يجعلها فهرسا لصداقات الشاعر ولا سيما مع اندره جيد. في نظر جيل سيغوفيا المتخم من العقائد والنضالات، كان باث مثالا يحتذى، فقد بات الجسر الى آداب مكسيكية تجاري الحداثة على أكثر من صعيد. ثمة مقتطفات فسيحة في الرسائل تتناول الشعر التي يكتب عنه باث وسيغوفيا.
يصنّف باث نفسه شاعرا قبل كل شيء، ويتعمد المراوغة، بل الخداع والتواري، محاولا قذف وجه الباحث الإشكالي والعقائدي، الدمث والقلق والبائس، الى براثن النسيان. آثر باث عدم الانتساب الى حقيقته، وعدم البوح بأنه شاعر منذ الأزل وباحث أيضا منذ الأزل. غير أنه، مع سيغوفيا، لم يبخل بالكتابة كماً وقيمة. شيّد الرجلان علاقتهما على صخرة الإعجاب، ومدّ باث سيغوفيا بمقارباته للأدب اللاتيني وحيوية السوريالية. كتب متحدثا عن المكسيكيين والاسبان: “فقدنا شيئاً ما، لا أعي ما هو، أهو الروح أم العبقرية والحب واحترام الآخرين وحس الماضي والحاضر والمستقبل؟ جعلنا أنفسنا قرودا!” يغلب على الرسائل الخمس أو الست الأولى ميل الى المجاملة، يخاطب أحدهما الآخر بعبارة “حضرتك”، لا تلبث أن تُستبدل بضمير المخاطب إفساحا في المجال للموضوعات الشخصية. في إحدى الرسائل مثلا، يتطرق باث الى لقائه المتجدد (والنهائي) في باريس، بماري جو، التي ستصير زوجته. غير أن الرسائل تخيّب بلا ريب، ظنون الفضوليين الباحثين عن مصادر للتشفي أو النميمة. تتحرك معظم هذه النصوص التي جمعته بسيغوفيا على خلفية الأفكار وليس على الدواخل العميقة أو الاعترافات. يتقاسم باث وسيغوفيا، الى الإعجاب المتبادل الذي لا يتزعزع، توقهما الى تحويل الواقع، وهذا ما يفسّر أن الرسائل تفرد مساحة وافرة لمشروع بناء مجلة. قارب الرجلان مشروع المجلة على نحو شغوف، كأنْ تكون مطرحاً يتعرف فيه كتّاب القشتالية الى أنفسهم ويتحاورون مع نظرائهم في أوروبا وأميركا الشمالية.
المجلة إذاً كانت الوتد الآخر المحوري في التبادل الكتابي. تأثر باث بالمثال الفرنسي الذي تحلّق فيه الكتّاب حول مجلات كانت سبيلهم الى دمغ حقبتهم بأفكار مجددة. يكتب باث انطلاقا من كابول: “في ما مضى كان أساسيا جعل الناس يواكبون ما يحدث يوماً بيوم. غير أن الملحّ راهناً هو تواصلنا. أؤمن بوجود آداب بالقشتالية في الحاضر والمستقبل”، ليضيف: “لا يمكن المحافظة على آداب بلاد معينة من طريق مؤلفاتها فحسب. الآداب دوران ذهني، مدّ وجزر من التأثيرات”. ومن أجل ضبط هذا النظام ينبغي في رأيه، إنشاء مجلة تسمح بولادة نقد ونقد ذاتي وبتعايش النظرات المتباعدة والمناقشة في شأن ما هم عليه وما يريدون أن يصيروه.
يواصل باث منطقه في رسالة تحمل تاريخ الثامن والعشرين من كانون الثاني 1968، يكتب من نيو دلهي: “يجب أن نتطلّع الى نمطين ونموذجين: مجلة شهرية من ثمان وعشرين صفحة كمثل “مجلة الآداب المكسيكية” أو شهرية من ثلاثين صفحة كمثل La Quinzaine Littéraire”. في عزّ حماسته لتحقيق مشروعه الثقافي، أدمت مجزرة تلاتيلوكو مسقط باث فعزف عن مهماته الديبلوماسية، وباتت المجزرة مصدر وجع روحاني. قارنها بطقوس الأزتيك في تقديم أضحية جماعية تصطفّ في خط مستقيم. في تشرين الأول 1971 أصبح مشروع تحقق المجلة على مرمى حجر، بفضل دعم تعاونية صحيفة “اكسيلسيور”. كان المصدر المادي وضمان الاستقلالية في النشر جواز العبور الى مطبوعة على قدر طموح الشاعرين. فكانت مجلة “بلورال” أي “متعدد”. تناقش الرسائل أيضا مسائل بديلة أو ثانوية تستحق التوقف عندها أيضا. تحوم إحداها حول صلة باث بالسوريالية، في رسالة تعود الى 20 أيلول 1965 تنم عن تقويمه لاندره بروتون، ومحصلتها مزيج ملتبس ومركّب من عواطف وأفكار تتنازع الشاعر. في كل حال، تنطوي هذه المراسلة بين الرجلين على الجدية والحماسة إزاء الصداقة، في حقبة كانت الاتصالات العابرة المحيطات ترفا نادرا.
شهدت العلاقة بين الرجلين “طلعات ونزلات”، غير أنها لم تسقط الى درك التهشيم، في حين أسرف كل من باث وسيغوفيا في العتاب بعدما خفّ اهتمام أحدهما بالآخر خلال سعيهما الى التكامل. يكتب باث: “يحق لك التذمر من صمتي. سامحني”، غير أنه يبدّل نبرته لاحقا: “أتظن نفسك مترفعا عن الذنب؟ خلال وجودك في المكسيك كان موقفك أكثر من متفاد ومتخاذل، لكي لا أقول أنه مُزدر”. في مكان آخر يعتبر أن ما جمعهما طوال سنوات لم يتعدّ “المونولوغ المزدوج”. في الرسائل الأخيرة، ينهره باث تكرارا. في رسالة نيويورك في 1966 يؤكد: “لا أظن الحب نهاية، وإنما بداية. بداية ماذا؟ لا أدري تماما، على الرغم من أنني أحدس بهذه البداية: بداية ذواتنا. تماثل جمالي وتكافؤ شعري”. بقرار من أرملة باث، ماري جو، التي أشرفت على نشر الكتاب، من موقع احتفاظها بإرث الكاتب المكسيكي، لا يوثّق الكتاب للأجوبة التي بعث بها سيغوفيا الى باث، غير أن من السهل استنتاج مضمونها انطلاقا من ردود فعل باث وتعليقاته. للمرة الخامسة تُجمع رسائل باث الموجهة الى أدباء من معاصريه بين دفتي كتاب.
“رسائل الى توماس سيغوفيا 1957-1985″، تكشف النقاب عن بعض أرشيف ضخم من المراسلات، في مقدمها مع الأرجنتيني خوليو كورتاثار والمكسيكي كارلوس فوينتيس وسواهما، والتي سيكون صدورها حدثاً بالتأكيد. ليس من النافل ان حياة أوكتافيو باث شهدت حزمة متألقة من المقرّبين انتظموا في اليسار واليمين. وقد تلقّف بغض الأعداء السخيّ واحترام عشّاق الحرية بخفّة جناحين وتصلّب المتقزز من الحداثة وتدهور البشرية وتنميط الروح. أليس هو من قال “أسير ولا أتقدم/ تحوطني مدينة/ يعوزني هواء/ يعوزني جسد“.
رلى راشد