ريم البنا: نحلم ونفيق لنجد فلسطين بلا نكبة!
حملت بلدها من بيتها في الناصرة وجاءت لتغنيه في ابو ظبي
سليم البيك
ريحتك زعتر ، قلت لها حالما رأيتهما وغمرتهما هي وليونيد في لوبي الأوتيل. لم أكن أتخيل أن بامكان أحد ما حمل وطن كفلسطين أينما حلّ، فلسطين المثقلة والمخضّبة بالآلام وما ترسب عنها من آمال. نظرت الي وجهها، أردت البكاء قليلا، تكثفت قطرات الدمع علي حواف عينيّ المشغولتين بتأمل الجليل في وجه ريم. كنت أضحك! كدت أبكي! كالمجنون الذي ما استطاع الرحيل الي وطنه بعد، فرآه بكليّته حالًّا ضيفا عليه في ذكري نكبته. أغمرُ هذا الوطن أمام تلبد الناس في اللوبي حولنا، ناس بلا مشاعر ولا أوطان ربما.
هيّو هون ، قالت عن الزعتر مشيرة الي كيس في يدها. وعدتني منذ ما يزيد عن سنة ونصف بأن تجول بالـ ويب كام في حديقة بيتها في الناصرة لتحمل فلسطين اليّ كما قالت. لم يحدث ذلك، ولم أتوقع، ولا هي ربما، أن آخَرنا سيذكر ذلك الوعد. جلسنا قليلا، تحدثنا وشكوتها لزوجها ليونيد بأنها لم تحملني الي حديقتها وقتــــها، ففتحت الكيس وأخرجت ما بداخله: كيلو من الزعتر الجليلي الأخضر الطري، ثلاث حبات ليمون لم أر كأصفرها، كيسا رقيق يحمل حجارة وترابا لحديقة بيتها، وما لم أستطع الحصول عليه من ألبوماتها في شتاتي.
لم تكتف بكلّيّة فلسطين فيها تمنحها لي بغمرها، لم تكتف بوطن بالمجمل، انتزعت حفنة من خلايا قلبه في الناصرة وحفظتها في كيس، من الناصرة، الي أبوظبي، الي لوبي فندق بارد في مدينة حارة تعج بالسيارات وتعج بالناس، ناس كالسيارات بلا أوطان. تحملت هي وحديقتها وناصرتها وجليلها وفلسطنتها هذه الغربة في اللوبي، وهي ـ وترابها ـ تعرف المعاناة الجديدة لحبيبات التراب هذه في حياة أخري، غير العالم الآخر هناك خلف حدود حوّلت ما خلفها خيالات، لست أكيدا بعد من مدي قربه للحقيقة.
كانت ريم ككل ناس وبيوت وقري ومدن الجليل، كانت خيالا، له صوت وصورة ويتحرك ويتكلم في لقطات الفيديو أحيانا. صارت حقيقية فجأة. حينما أكدت لي مجيئها الي أبوظبي خفت قليلا، سأخضع لتحدي واقعية هذا التخيل، قد ينتهي حلم سلسلة التخيلات هذه وأفيق لأجدني في فلسطين بلا نكبة حدثت قبل ستين عاما، ولا مخيمات، وريم تغني عن الحب، وعن كل شيء غير الشهداء والأسري واللاجئين. وقد أكون في حياة واقعية، ليس حلما، ولكن الحياة هناك خلف الحـــدود، قد تكــــون كلها مجرد خيالات حين يأـتي موعـــــد قدومها لاحياء حفلتـــــها الأولي هنا، ولا تأتي، قد أتأكد حينها من خيــــــــالية الناس والأشياء هناك، وهي حالة أكثر استقرارا علي كل حال.
ولكـــنها أتت وتجسّدت، فما عدت أصدق بأنها، ريم ووطن ريم، مجرد خيالات قد اخترعها انحراف ما في عقلي، خيالات لا يدركها غيري ربما.
شممت رائحة الجليل في شعرها وجاكيت الجينز والكــــوفية الفلسطينية المرقطة التي تلفها حول رقبتـــــها بأسلوبها الموسيقي، وفي الكلمات الأولي التي لفظتها بلهجة فلســـــطينية نصراوية نقية. كان كل شيء حقيقيا، كان لها رقم تلفون هنا في الامارات، أكبسه رقما رقما فترد بصوتها المغسول بالزيت المقدس، كانت حقيقية اذن.
ولم تعد كذلك ربما..
اختفت كما أتت، أو أسرع قليلا ربما. وكأن كل فترة الانتظــــار هذه، والايمان المتفاقم بخيــــالية ريم ووطنها معها، وكأنه يقتل ذاته ان زادت حقيقيتها عن يومين، أو كأن الحقيقة ذاتها تنتحر بالسم ان طالت لأكثر من يومين. ما كان حقيقيا هو أن خيالية الجليل ورِيمها هبطت، بعد رحيلها، عليّ كلوح زجاج انهار علي رأسي وتبعثر رذاذه ليصير دخانا يمحي صور اليومين الماضيين، ويرجع الخيال أكثر ضبابية منه قبل مجيئها.
سأنسج خيالا جديدا يا ريم، أو سأبقي علي خيالي السابق عن الجليل مع تعديلات ليست بسيطة في الصوت والرائحة والشكل، لأقول يوما اني غمرت وطني وجذر جذري.. هل منكم من غمر وطنه؟
كاتب فلسطيني مقيم في أبوظبي
www.horria.org
www.rimbanna.com