سـوريـا بيـن نـزهـة 2009 وطمـوحـات 2010
زياد حيدر
بالمقارنة مع الأعوام الستة الماضية، يمكن القول إن العام 2009 كان بالنسبة لسوريا أشبه بنزهة. لقد شهدت دمشق بين العامين 2004 و2007 ظروفا قاهرة، لكن من دون أن تتمكن هذه الظروف من الإساءة لإرث السياسة السورية التقليدية، التي امتدت عقودا في الحفاظ على استقرار داخلي متين، ودور إقليمي محوري.
ففي العام 2000 تسلم الرئيس بشار الأسد الحكم، على موجة من الأفكار الإصلاحية، بعضها ذو طابع ليبرالي حذر وبعضها الآخر منفتح سياسيا للغاية. كان يمكن للعامين 2002 و2003 أن يشهدا تحولا حقيقيا في شكل التركيبة السياسية والاقتصادية الحاكمة، لولا «الزلزال» الذي وقع في واشنطن في 11 أيلول العام 2001.
كان التحليل المباشر في دمشق أن عاصفة ستهب على العالم، ولن ينجو منها الشرق الأوسط. عاد الحكم للتركيز على اللحمة الداخلية، ومراجعة قوته الإقليمية استعدادا للحظة مواجهة كانت بلا شك آتية. في العام 2003 بات مؤكدا أن العراق سيغدو خلال أشهر تحت الاحتلال الأميركي، ما ينقل المواجهة مع إدارة الرئيس السابق جورج بوش المتطرفة من مجلس الأمن إلى الحدود الشرقية السورية، وهو ما يعني أن وسائل الصراع مع واشنطن لم تعد تقتصر على الرسائل الدبلوماسية.
نجحت سوريا في أوج معركتها مع واشنطن على الساحة العراقية في الحفاظ على خلفية صلبة من العلاقات كانت أبرزها مع باريس، وذلك حتى عدل الحليف الفرنسي من تموضعه، وأراد «صفحا» أميركيا بعد موقفه من احتلال العراق، فعقد مع بوش في النورماندي اتفاق الـ «1559» الذي يخطط لخروج القوات السورية من لبنان، وتجريد «حزب الله» من سلاحه. كان على سوريا أن تنقل تركيزها من جبهة إلى أخرى، لكن مع الانفجار الذي هز لبنان في العام 2005 باغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري، تبين أن الحرب في العراق أتت نتائجها في لبنان، فقررت دمشق سحب قواتها من الأراضي اللبنانية، والاستعداد لمعركة تلوح في الأفقين الإقليمي والدولي.
عملت واشنطن ومن خلفها فرنسا على محاصرة سوريا، فحرمت على المحايدين في أوروبا فتح حوار مع دمشق، ومنعت حلفاءها من ذلك، ودفعتهم إلى معسكرها. تبع أغلب العرب أهواء واشنطن، وبقيت سوريا على علاقة وثيقة مع قلة من الدول العربية التي لم تغير من نهجها تجاه دمشق، فبقيت صداقات سوريا قائمة مع قطر وليبيا والجزائر والسودان.
إقليميا، أصبحت العلاقة مع إيران متينة، كلما اشتد التحدي الخارجي، كما فتحت دمشق بوابة واسعة مع تركيا، سمحت لرياح اقتصادية وسياسية منعشة في الدخول. مع الوقت تبين أن إرادة العاصمة السورية لم تكن تلين، ولم تكن لتكسر.
جاء العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز العام 2006 بـ «مخاض لشرق أوسط جديد» على حد تعبير وزيرة خارجية الولايات المتحدة كوندليسا رايس، لكن لتلد مولودا مفاجئا لعرابيها، وأعلن انتصار المقاومة اللبنانية على إسرائيل. وهو انتصار اعتبرته دمشق انتصارا لها أيضا، ولكل ما تمثله سياستها في المنطقة. وعاد الغرب للاعتراف بدور سوريا في المنطقة وصعوبة تجاهلها. زار دمشق موفدون غربيون تمنوا على القيادة السورية «لعب دور بناء» في المنطقة، بعد أعوام من محاولة محاصرة هذا الدور.
بدأت ملامح تغير مع فرنسا التي كانت تستعد للانتخابات. وتوج العام 2007 باتفاق فرنسي سوري سعودي، برعاية قطرية، على تمكين لبنان من إدارة نفسه بانتخاب رئيس جديد وحكومة وحدة وطنية. رغب الفرنسيون في شكر دمشق. زار الأسد باريس، ووضع الطرفان عبر قنواتهما الدبلوماسية الرفيعة المستوى أسس علاقتهما الثنائية التي تنسق في الملفات من دون أن تجعلها رهينة لها.
بقيت العلاقات العربية متوترة، وحصل تقدم على صعيد عملية السلام، عبر الرعاية التركية، لكن عدوان إسرائيل على غزة جمد اللحظات الأخيرة ما قبل الاتفاق، ودفع أنقرة إلى الزاوية القصوى في عداء إسرائيل، وزاد الانشقاق العربي، حتى جاءت خطوة مصالحة الملك السعودي عبد الله تجاه دمشق، وهي خطوة تلتها خطوات أخرى توجت مؤخرا بزيارة رئيس وزراء لبنان سعد الحريري لاحقا.
كان الأسد قد توج الانفتاح الأوروبي بزيارة للنمسا، اعتبرت بوابة العبور لعلاقات ثنائية مع الدول الأوروبية. ورغب الرئيس السوري في توسيع آفاق هذه العلاقة التي بدأت مع تركيا، وتمتد الآن إلى أوروبا، بشريك آسيوي وشرقي، فزار كلا من أرمينيا وأذربيجان وكرواتيا وسلوفاكيا شارحا رؤيته لـ «شرق أوسط جديد» متكامل اقتصاديا، يتبادل أهله التجارة والطاقة، وتمتد طرق النقل المختلفة البحرية والبرية عبر بلدانه لتصل أقاصي الأرض. وظل التنسيق التركي السوري حجر الزاوية في هذه الرؤية، لكن تبقى عقبته الرئيسية في معارضة مصرية، وارتباك عراقي داخلي.
داخليا أثبتت القيادة السورية التزام قاعدتها الشعبية بخياراتها السياسية. لم تشهد دمشق حوادث تذكر العام 2009، إلا أن الهم الاقتصادي ظل يحاصر الطموحات السياسية، خصوصا في ظل موسم الجفاف الذي شهدته البلاد هذا العام. إلا أن ارتفاع نسبة الأمطار بداية هذا الشتاء ثلاثة أضعاف العام الماضي، ومؤشرات النمو المرتفعة للاقتصاد المحلي، قد تكون فرصة أخرى لهذا الاقتصاد للتحرك للأمام خلال العام الجديد، خصوصا في ظل الانفراج السياسي الذي ستتوجه علاقات اقتصادية مميزة مع الخليج، ولا سيما مع السعودية ربيع العام 2010، واتفاقيات ثنائية طموحة مع كل من تركيا وفرنسا.
لذا ينظر السوريون إلى عام 2010 على أنه «عام الفرج»، بعد رحلة السنوات الصعبة التي صبرت فيها دمشق حتى حققت غايتها من الاعتراف والاحترام.
السفير