إدوارد سعيد: المتفرج المغترب!
تزفتان تودوروف ترجمة: محمد غرافي
النص أدناه ترجمة لمقال الفيلسوف والناقد الفرنسي (من أصل بلغاري) تزفتان تودوروف بمناسبة صدور كتاب إدوارد سعيد تأملات عن المنفي إلي الفرنسية (عن دار آكت سيد). ويعتبر تـودوروف أحد أصدقاء الراحل إ.سعيد منذ السبعينيات حيث كانا يحاضران معا بجامعة كولومبيا بنيويورك. وتجدر الإشارة إلي أن تودوروف هو الذي اقترح علي دار النشر لوسوي ترجمة كتاب الاستشراق الشهير لإدوار سعيد إلي الفرنسية. وقد صدر الكتاب بالفرنسية سنة 1980 مع مقدمة لتزفتان تودوروف.
(المترجم).
كان إدوارد سعيد أحد المثقفين الأكثر شهرة وتأثيرا في العالم. لقد ألف حوالي عشرين كتابا، وكان يبدو وكأنه يعيش أكثر من حياة في الآن نفسه. فهو الذي بدأ ناقدا أدبيا علي طريقة جوج لوكاش وإيريخ أورباخ، يدين بشهرته لأعمال عن الهويات الثقافية والتقاء الثقافات، وكذا القوميات والإمبرياليات. وكان أيضا أحد الأصوات المسموعة أكثر لصالح القضية الفلسطينية، ولكنه كان حريصا علي أن يكون الدفاع عنها يأخذ بالاعتبار كليا الشعب اليهودي وآلامه منذ الاضطهادات حتي الإبادة .
كان شغوفا أيضا بالموسيقي ومعترفا بانتمائه بنفس القدر لاتجاه الفيلسوف الألماني ثيودور أدورنو وعازف البيانو الكندي جلين جولد. كما كان يشتغل بلا هوادة وذا تطلع لا ينضب إلي المعرفة، ولم يعرف طيلة حياته لحظة راحة واحدة.
ولد إدوارد سعيد سنة 1935 بالقدس ونشأ في القاهرة حيث درس في إعدادية بريطانية. سافر إلي الولايات المتحدة في سن السادسة عشرة وولج بعد ذلك جامعات النخبة في بريستون وهارفارد قبل أن يصبح مدرسا منذ 1963 بجامعة كولومبيا بنيويورك، حيث مكث بها إلي آخر حياته. في أولي سنواته هناك، كان يبدو ذائبا في القالب الأمريكي، إلي أن جاءت الحرب العربية الإسرائيلية سنة 1967 التي تكلفت بتذكيره بانتمائه الأصلي ودفعه إلي البحث عن توازن بين جانبي ذاته: الشرق ـ أوسطي والغربي، وهو ما حققه في كتابه الاستشراق سنة 1978فكان أولَ نجاح كبير له (ترجم إلي ست وثلاثين لغة وأعيد نشره في طبعة مزيدة عن دار لوسوي سنة 2005). وهو كتاب كرسه لخطابات مألوفة عن الشرق لكُتاب وعلماء وساسة غربيين.
في سنة 1991، اكتشف إدوارد سعيد فجأة أنه مصاب بمرض ابيضاض الدم المزمن مما أرغمه علي التخلي عن نشاطاته السياسية المباشرة ودفعه إلي الاهتمام بكينونته الخاصة: فقام برحلات عدة إلي فلسطين وإسرائيل وكتب بالخصوص سيرة ذاتية متميزة عنوانها بمحاذاة خط السكة (كتاب الجيب 2003) تعطي شكلا ومعني للثماني عشرة سنة الأولي من حياته. وإلي حين وفاته سنة 2003 ظل إدوارد سعيد علي نفس القدر من الحيوية والنشاط، بل وأكثر. فقد أسس بتعاون مع دانيال بارنبوام الفرقة الموسيقية العربية ـ الإسرائيلية، الديوان الغربي ـ الشرقي، واستمر في الكتابة عن النزعة الإنسانية والموسيقي ، الأسلوب المتأخر لرجال الفن.
كان كتابه تأملات عن المنفي آخر مجموعة مقالات نشرها إدوارد سعيد نفسه (الكتاب الأصلي يعود إلي سنة 2000) وهو يعد مع كتابي الاستشراق و بمحاذاة خط السكة أحد كتبه الأكثر نجاحا. فقد جمع فيه خمسين دراسة كتبها بين 1967 و 1999. وتعد الدراسة القصيرة شكل التعبير الذي يفضله سعيد أكثر. كما أن هذه المجموعة تتيح الإحاطة بنظرة واحدة بمختلف مراكز اهتماماته، بدءا من النقد الأدبي حتي السيرة الذاتية مرورا بالاستشراق والنظرية النقدية والثقافة المصرية وفلسطين والموسيقي. المقالات الأربعة أو الخمسة الأخيرة في المجموعة والمتميزة بالكثافة تواصل مسألة التفكير حول المنفي التي كان قد بدأها من قبل. ووجودها رفقة آخر مقدمة لكتاب الاستشراق يمثل نوعا من الوصية الروحية.
العودة المستحيلة
لقد وعي إدوارد سعيد في فترة مبكرة من حياته بأنه يحمل هوية من أكثر الهويات غموضا: فهو فلسطيني درس بمصر ويحمل اسما انكليزيا وجواز سفر أمريكيا مما جعله عند نهاية دراسته العليا لا يحس بأية رغبة في العودة إلي بيته (هذا لا وجود له) ويفهم سريعا أن العودة أو العودة الشاملة أمر مستحيل . وهكذا تعلم أن يقرن النصفين اللذين لا يتجزآن من ذاته وانتهي إلي معرفة نفسه في صورة مثقف الشتات الذي يقطن بمدينة عالمية كنيويورك، ولم يكن يجهل بالطبع أنه بذلك يسلك نفس طريق العديد من المثقفين ورجال الفن اليهود. كما اكتشف أيضا أن هذه التجربة التي ليست استثنائية، تمثل إحدي السمات المتميزة للعالم الحديث: تسارع وتيرة التواصل بين الثقافات، الخاصية المتغيرة لهذه الأخيرة والتعدد الداخلي لكل هوية. إن الاستشراق تكوين مصطنع، ولكن الأمر نفسه ينطبق علي الاستغراب السائد عند خصوم الغرب. لذلك يعتبر سعيد خصما عنيدا لنظرية صدام الحضارات .
وإذا كان الاغتراب يُنتََج في ظل شروط مساعدة عليه، فإنه يولّد عدة إيجابيات، لأن المغترب يري كل ثقافة من ثقافاته من الداخل والخارج معا، مما يسمح له بتفحصها بنظرة نقدية. فهو لا يغتر بالكلمات ولا بالعادات. إن المغترب يعيش دائما خارج المكان وبمحاذاة خط السكة، إنه مهمش ولكنه متشبث بشرطه كتشبثه بامتياز. لقد قام سعيد بعقد تقارب بين هذا الشرط وشرط المثقف بشكل عام. إن علي هذا الأخير أن يبتعد مثاليا عن السلطات وأيضا عن كل انتماءات مفروضة ـ عرقية وقومية ودينية ـ لأنها قد تمنع أن يكون فعله تحت توجيه أفكار العدالة والحقيقة وحدها. لقد كان سعيد مدافعا شرسا عن اللائكية ومناهضا لكل قومية وهذا ما سمح له بأن ينتقد بنفس الحدة الحكومة الأمريكية والإدارة الفلسطينية.
وإذا كان لا بد من الواجب أن نبحث له عن أسرة إيديولوجية، فإنها لن تكون، رغم بعض التشابهات، لا الماركسية ولا ما بعد ـ البنيوية كموضة في الجامعات الأمريكية (النظرية الفرنسية)، وإنما النزعة الإنسانية، شريطة أن تكون هذه الأخيرة كونية حقا وأن تكف عن الاختلاط بنزعة المركزية الأوروبية: إنه من الممكن، بل من الضروري، أن يتم ـ باسم المثال الأنَسي ـ نقد الممارسات التي نسبت نفسها في الماضي إلي النزعة الإنسانية.
النزعة الإنسانية
لن نستغرب إذا رأينا أن هذه النزعة لا تريد البقاء عند تحليل شكلي محض للنصوص الأدبية يفصلها عن علاقتها بالتجربة الإنسانية.
هنا أيضا يجب فتح الآفاق وعدم خلط الإنسانية ببعض النقاد الأوروبيين الذين أصابهم الوهن. يقول إدوارد سعيد: وحدها الأذهان التي لم تتعرض للتجربة الفورية لدوي الحرب والتطهير العرقي والهجرة القسرية والتمزقات المأساوية، قادرة علي صياغة مثل هذه النظريات .
كان سعيد، كمثقف متشبع بالنزعة الإنسانية، مستعدا لتحدي السلطات القائمة والتوافقات الثابتة وذلك باسم انخراط متصلب في القيم الكونية، وكان في الوقت نفسه يعرف كيف يكون مفتونا متحمسا. لقد أدي ثمن التزامه غاليا: تم إحراق مكتبه في الجامعة، وتلقت عائلته تهديدات كثيرة بالموت، وكانت كتاباته وما تزال مثار شبهة في بلدان عدة.
ومع ذلك ظل متشبثا بقناعته بأن السؤال الأساسي الذي يجب طرحه علي المثقف اليوم هو سؤال العذاب الإنساني وكانت ممارسته مطابقة لأفكاره. لقد كان إلي جانب كونه مفكرا فذا، رجلا كريما وودودا لا يُنسي عند كل الذين عرفوه.
عن صحيفة لوموند 16 ايار (مايو) 2008
القدس العربي