صفحات سورية

سورية: النجاح الخارجي مقابل القمع الداخلي

null
د. عبد الباسط سيدا
قيل الكثير حول تمكّن سلطة الحكم في سورية من تجاوز عنق الزجاجة، ونجاحها في كسر طوق الحصار الدبلوماسي الذي كان قد فُرض عليها عربياً ودولياً إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري. فقد تغيرت الأمور مع مجيء الرئيس الفرنسي الجديد ساركوزي الذي اعتمد سياسة الانفتاح على سورية – أو ربما الاحتواء كما يحلو لبعض المراقبين- في سبيل دفعها نحو تسهيل الأمور في لبنان، وإبعادها – ولو تدريجياً وضمن الحدود الدنيا – عن سياسة الاندماج مع التوجه الإيراني النجادي المندفع الذي يلتزم أسلوب تصدير الثورة بما ويخدم المصالح الخاصة بالنظام الإيراني. وما عزز فرص فك الطوق عن السلطة المعنية هنا هو الشعار الذي أعلنه الحزب الحاكم في تركيا (حزب العدالة والتنمية): “صفر مشاكل مع الجيران”. ومن هنا كان الانفتاح التركي الكبير على سورية بهدف دمجها مع المحيط الإقليمي، والتخفيف من النزعة المغامراتية التي اتسمت بها مجموعة القرار في سورية، تلك المجموعة التي التزمت تصفية الخصوم الواقعيين والمحتملين، وتبنت نهج تفجير الأوضاع سواء في لبنان أم في العراق وحتى فلسطين، وذلك بقصد فرض سياسة الأمر الواقع، ورفع سقف الصفقة مع القوى الدولية الفاعلة لتتمكن من الحصول على عقد جديد يطلق يدها في الداخل السوري، مقابل التزامات واضحة أكيدة في الواقع الإقليمي.
ومع مجيء أوباما إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية، وتبنيه سياسة المرونة والاحتواء مع سورية وإيران تحديدا، وجد النظام الحاكم في سورية أن الفرصة قد باتت مواتية للاستفادة من الانفتاحات الفرنسية والتركية، وإلى حد ما السعودية من أجل بلوغ الانفتاح الأكبر المنشود مع الإدارة الأمريكية، وبأي ثمن، شرط عدم ممارسة هذه الأخيرة أي ضغط على النظام السوري لدفعه نحو الإصلاح الداخلي، وإطلاق سراح سجناء الرأي، واحترام أبسط الحقوق الديمقراطية للمواطنين مثل حق التعبير عن الرأي والنقد والانتخابات الديمقراطية الشفافة، وفتح أبواب سورية أمام عشرات الآلاف من أبنائها المنفيين في شتى أصقاع الدنيا؛ إلا أنه على الرغم من كل ما يبدو للعيان، ما زالت الأمور بالنسبة إلى مستقبل النظام المعني على المستويين الإقليمي والدولية مفتوحة على مختلف الاحتمالات، وذلك يتوقف إلى حد كبير على سلوكية النظام عينه، ومدى صدقيته في التزاماته، خاصة أن سجله القريب حافل بالمتناقضات.
أما السر الكامن وراء حرص النظام على الاحتفاظ بمفاتيح الأقدار والمصائر الداخلية – إذا جاز لنا اعتباره سراً – فهو يتمثل في تيّقنه من عدم قدرته على الاستمرار لدى بروز أي تحول ديمقراطي، وذلك ناجم عن تصرفاته اللامسؤولة، والتزامه أسلوب الاستخفاف بعقول الناس عبر رفع شعارات المقاومة والممانعة غطاء لصفقات الغرف المغلقة. ورغبة منه في ترسيخ ذلك الأسلوب الاستخفافي استند النظام المعني إلى جملة تكتيكات تساعده في بلوغ مآربه، من بينها حرصه على تعميم نزعة التسطيح في المؤسسات العلمية والإعلامية، وسعيه الدائب من أجل ترسيخ الولاءات ما قبل الوطنية عبر مخاطبة الجانب الغرائزي في النفوس؛ ودعم كل ذلك بتبني خطة فرّق تسد على الصعيد الوطني ليتخاصم السوريون فيما بينهم انطلاقا من الاعتبارات المذهبية والطائفية والقومية والمناطقية، الأمر الذي يسهّل مهمة النظام في ميدان التطويع والترويض، فيعلن نفسه حكما فوق الجميع، ينتزع منهم الإرادة الحرّة الخيّرة بعد أن انتزع منهم السلطة والثروة.
إننا إذا قرأنا السياسة الداخلية للنظام السوري بدقة وإمعان، لما استغربنا إقدام هذا الأخير على اعتقال الأستاذ القدير المحامي هيثم المالح، الشيخ الثمانيني ابن دمشق الفيحاء، باعتباره – وفق المنطق المعكوس للنظام- تجاوز الخطوط الحمراء، فقد نبّه المالح الناس إلى ما يُحاك ضدهم؛ وكشف من موقع الحقوقي العارف مدى تهافت الشعارات التي يتشدق بها النظام، شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية والمقاومة والممانعة التي باتت مجرد قنابل دخانية تنجز التمويه لعمليات الانقضاض على الدولة والمجتمع في سورية.
لقد أدرك المالح مرامي النظام الإيقاعية بين أبناء الوطن الواحد، لذلك كان حريصاً على التواصل مع الجميع بعيداً عن خلفية الانتماءات الفرعية، يكفيه الانتماء الوطني، والاعتزاز بالولاء الوطني لسورية. وهنا أذكر موقفا معبّرا سمعته من المالح نفسه أثناء لقاء تم بيننا قبل سنوات في باريس؛ ما ذكره المالح أنه قد دُعي في وقت ما من قبل منظمة شيوعية في السويداء لإلقاء محاضرة تخص الشأن السوري الوطني، فلبى الدعوة عن طيب خاطر. وحين عودته إلى دمشق استدعي للتحقيق، وسئل عن السر أو الدافع الذي يربط بين الشيوعيين الدروز وهيثم المالح السني المتدين. وما زلت أذكر تعليق المالح على الموقف وخلاصته، أن أفضل رد على ممارسات النظام هو أن نعمق التواصل فيما بيننا، نتلاقى، نتحاور، نتفاهم، نتخلص من جدران الشك التي تفرّق الصف وتبعثر الطاقات، ففي كل ذلك نصر للمشروع الوطني السوري الذي يتنافى مع سياسة الاستئثار والتسلط التي يبدو ان النظام غير مستعد للتخلي عنها.
إن كل ما يُقال عن قوة النظام السوري ونجاحاته الخارجية يبقى مجرد وهم عابر، طالما أن السوريين بكل انتماءاتهم وتوجهاتهم يدركون علم اليقين مدى خوف الأخير وقلقه من الداخل الذي من المفروض انه منه يستمد المشروعية، وأكبر تجسيد لهذا الخوف الهستيري المرضي أنه يعتقل الشيخ (المالح نموذجاً) والمرأة (فداء الحوا رني) واليافع (شهاب عثمان – أيدن)، وربما الرضيع مستقبلاً في استماتة من النظام المعني للمصادرة على احتمالية وقوع غير المرغوب فيه.
* كاتب سوري
أخبار الشرق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى