عباقرة
صبحي حديدي
جرياً على ما صار تقليداً دائماً في اختتام السنة، اختارت شهرية Foreign Policy الأمريكية أن يدور استفتاؤها السنوي حول أفضل 100 ‘مفكر كوني’، هم ‘أصحاب الأفكار الكبرى التي صاغت شكل عالمنا في سنة 2009’؛ وهم، بالتالي، ‘الأذهان الـ100 الأهمّ في السنة’.
حسناً… يفهم المرء، دون عناء، أن يأتي بن برنانك، رئيس الإحتياطي الفدرالي الأمريكي في رأس اللائحة، بسبب إنقاذ أمريكا من غائلة ركود جديد مديد، كما أوضح التحرير. ما لا تقوله المجلة، المنحازة قلباً وقالباً إلى فلسفة اقتصاد السوق، هو أنّ إجراءات برنانك كانت قد اتكأت بقوّة على نقيض ما تراه تلك الفلسفة في وظيفة المصرف المركزي.
كذلك في وسع المرء أن يتفهم، دون أن يتقبّل بالضرورة، مجيء الرئيس الأمريكي باراك أوباما في المرتبة الثانية، بسبب ‘إعادة تخيّل دور أمريكا في العالم’، خاصة بعد حصوله على جائزة نوبل، وربما من قبيل كسر القاعدة القديمة: لا كرامة لنبيّ في أهله. والتحرير يقول إنّ أوباما بدا أقرب إلى ‘رجل إصلاح الأعطال’ منه إلى الرئيس ‘الرؤيوي’، لكنّ المجلة لا تبخل عليه بصفة حامل الأفكار الكبرى، في ميدان السياسة الخارجية تحديداً: ألم يخاطب العالم المسلم من القاهرة، وجسر بعض الهوّة مع أوروبا، ومدّ يده إلى ‘دول مارقة عاصية’.
لكنّ المرتبة الثالثة هي المفاجئة: السيدة زهرة رهنورد، زوجة الزعيم الإصلاحي مير حسين موسوي، لأنها ‘كانت وراء الثورة الخضراء وحملة زوجها المعارض’، مع إشارة تثمين خاصة إلى مؤتمر صحفي ‘لاهب’ اتهمت خلاله الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد بممارسة الكذب. ومن دون أي انتقاص من قيمة ما فعلت السيدة موسوي، وكذلك الدور الخاصّ اللافت والحيوي الذي لعبته المرأة الإيرانية في ذلك الحدث، قبله وبعده، فإنّ اختزال حركة الإحتجاج الشعبية الإيرانية في شخص هذه السيدة يبدو بمثابة إحياء لتلك الاستيهامات الاستشراقية حول دور المرأة السحري في الواقع والمتخيَّل على حدّ سواء.
ورغم أنّ البون شاسع بين الاسمين، ولا مجال البتة للمقارنة بينهما إلا على صعيد هذا النهج المحدد الخاصّ الذي تعتمده المجلة، فإنّ وضع الصومالية أعيان حرسي علي في المرتبة الـ 48 (أي قبل أمثال هنري كيسنجر، 55؛ القاضي الإسباني بالتازار غارزون، 57؛ الاقتصادي الكبير أمارتيا سين، 58؛ 63؛ فرنسيس فوكوياما، 65؛ رئيس الوزراء البريطاني غوردن براون، 74؛ الاقتصادي الفرنسي جاك أتالي، 86؛ البريطانية الباحثة في الأديان المقارنة كارين أرمسترونغ، 87…)؛ وذلك بسبب ‘نقدها الإستفزازي للإسلام، دين يفاعتها’، إنما يتابع نهج الاستيهام ذاته. الإبتذال لا يتوقف عند هذا الدرك، بل يهبط إلى أسفل حين يطالب التحرير القارئ بالنظر إليها في صورة ‘نيتشة الإسلام’… نعم، ليس أقلّ من صفة الفيلسوف الألماني العظيم!
ثمة هنا وضاعة معلَنة لا حياء فيها، عن سابق قصد، إذْ لا يعقل أنّ ينسى التحرير أحدث مأثورات هذه الـ ‘نيتشة’، حين قرّرت إدارة الظهر لهولندا، وللبرلمان الذي انتُخبت إليه، حين اتضح أنها خالفت القوانين المرعية وقدّمت معلومات كاذبة في استمارة طلب اللجوء، قبل حصولها على الجنسية. تتمة الحكاية، كما هو معروف، أنّ حرسي علي شدّت الرحال إلى أمريكا، والتحقت بالمعهد الأمريكي اليميني المحافظ الشهير The American Enterprise، لتعمل ‘خبيرة في شؤون الإسلام’! أمّا ‘شهادات الخبرة’، التي جعلت المعهد يسارع إلى توظيفها، فهي أنها ‘ابنة الإسلام المتمردة على آيات الله’ كما قال أحد الناطقين باسم المعهد، دون أدنى خجل من هذا التخابث الرخيص في حشر تعبير ‘آيات الله’ كيفما اتفق. شهادة ‘خبرة’ أخرى هي كتابها ‘العذراء في القفص: صرخة امرأة مسلمة في سبيل العقل’، الذي يُعدّ أحدّ أشدّ المؤلفات ركاكة وغثاثة وتلفيقاً واختلاقاً وتنميطاً، حيث مؤسسة الزواج في الإسلام محض اغتصاب دائم مرخّص له دينياً واجتماعياً، وعنف الرجل ضدّ المرأة ليس سوى جزء لا يتجزأ من واجبه الشرعي وفق أحكام الدين!
بين فضائح اللائحة الأخرى أن يأتي الفرنسي برنار ـ هنري ليفي في المرتبة 31، بسبب ‘تقديم نقد جبار لكيفية فشل اليسار في أوروبا العجوز’؛ ولأنه ‘فيلسوف بامتياز’، و’هو ببساطة المثقف العمومي الأعلى كعباً في فرنسا’، وهذه أكذوبة صريحة فاضحة بالطبع، لا يتجاسر ليفي نفسه على ادعائها. كذلك تطري المجلة اعتراض ليفي (اليهودي، المتعصّب للدولة العبرية حتى النخاع، كما يتوجب القول) على تودّد أوباما للفلسطينيين، وأفكاره حول تنازل اليسار الأوروبي عن مبدأ العدالة، لصالح الهجوم الصبياني على الرأسمالية وأمريكا وإسرائيل واليهود، ممّا انتهى بهم إلى أحضان صدّام حسين!
ولا مفرّ، في الختام، من الحديث عن حصّة العرب في اللائحة: المصري سيد إمام الشريف، لأنه ‘وجّه ضربة قاصمة إلى منظمة القاعدة حين راجع موقفه من العمل المسلح’، في المرتبة 10؛ الأكاديمي والمفكر المصري ـ السويسري طارق رمضان، لأنه ‘كرّس حياته للبرهنة على إمكانية التطابق بين أوروبا والإسلام’، المرتبة 49؛ ورئيس حكومة تصريف الأعمال الفلسطينية سلام فياض، لأنه ‘برهن على إمكانية ممارسة حكم فعال في قلب الازمة’، المرتبة 61. وهذه، للإنصاف، قسمة في غنى عن التعليق!
خاص – صفحات سورية –