العرب وانصرافهم عن القراءة: أُمّيــة المتعلميــن
صقر ابو فخر
على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، بين اوغاريت وجبيل، ظهرت أرقى أبجدية في العالم القديم. وفي حقبات متقاربة، منذ نحو ألفي سنة قبل الميلاد، ابتدعت الحضارة السومرية في العراق، والحضارة المصرية القديمة الحروف المسمارية والكتابة الهيروغليفية على التوالي. وبهذا المعنى، فإن أعظم حضارات العالم القديم قامت في مصر والشام والعراق. وأبعد من ذلك، فإن هذه البلاد قدمت للإنسانية كلها الكتب الأكثر تأثيراً في تاريخ البشرية بأسرها، أي التوراة والإنجيل والقرآن. لكن العرب، خلافا لقاعدة التقدم الى الأمام، لم ينشروا منذ ذروة حضارتهم في زمن الخليفة المأمون، أي منذ القرن التاسع الميلادي حتى منتصف القرن العشرين، إلا ما مجموعه التراكمي نحو مئة ألف كتاب فقط، وهو ما تنشره أوروبا في أقل من سنة. ولعل هذا الأمر يفسر بعض جوانب قلة حيلة العرب في هذا الزمن.
العرب والمعرفة
العرب اليوم يشكلون 5% من سكان العالم. لكن ما هي حصتهم من الإنتاج المعرفي العالمي؟ لنتأمل قليلا في بعض الأرقام: يضم العالم العربي قرابة 395 جامعة. وفي هذه الجامعات يعمل نحو 304 آلاف أستاذ وأستاذ مساعد، أي ما يساوي أستاذاً واحداً لكل 1040 طالباً. حسناً، ما هو الإنتاج العلمي المشهود لهؤلاء الأساتذة ولهذه الجامعات؟ الجواب، بالتأكيد، مدعاة للأسى، ففي الترتيب العالمي لأفضل 500 جامعة لا توجد جامعة عربية واحدة، بينما ترد فيها أسماء جامعات إسرائيلية.
لنقارن ونتأمل: إن نصيب الفرد العربي من التعليم يساوي قرابة 340 دولاراً في السنة، بينما نصيب الفرد الإسرائيلي هو 3 آلاف دولار في السنة. ولدينا 395 جامعة، ومع ذلك بيننا 70 مليون أمي. أما في إسرائيل فالأمية تساوي الصفر. والأمي اليوم ليس من لا يقرأ ولا يكتب، بل من لا يستطيع استخدام الكومبيوتر ووسائل المعرفة الحديثة. هذا هو التعريف الياباني للأمي. وإذا كان هذا التعريف صحيحاً، ولو نسبياً، فإن الأمية في العالم العربي سترتفع الى نحو 95%.
إن مشكلة القراءة، في احد وجوهها، هي تغير اتجاه انتقال المعرفة وتدفقها. فالمعرفة البسيطة كانت تنتقل في الماضي من الكبار الى الصغار. بينما اليوم ما عاد الأهل يعرفون اكثر من أبنائهم. فالأبناء باتوا يعلّمون آباءهم في كثير من حقول المعرفة. وفي هذا السياق ما عاد الأب هو العارف الذي يناقشه أبناؤه في شؤونهم العلمية والحياتية، وما عاد الإبن يفاخر بأن والده يعرف كل شيء، بل صار يفاخر بسرعة كومبيوتره الشخصي، او بامتلاكه اكبر عدد من الأقراص المدمجة… وهكذا. وفي هذا الطور يكاد مفهوم «القراءة الشاملة» ان يندثر لمصلحة مفهوم «القراءة الجزئية». فقد كان الطالب، على سبيل المثال، مضطراً الى قراءة عدة مراجع للاستفادة من المعلومات القليلة المطلوبة والواردة فيها. أما الآن، فإن هذا الطالب، ومثله الصحافي او حتى بعض الباحثين، يلجأ الى «غوغل» للوصول الى المعلومة المطلوبة بذاتها من دون بذل أي جهد في القراءات الموازية. وبهذه الطريقة فإن العثور على المعلومات يتحول، رويداً رويداً، الى ما يمكن تسميته بـ«القراءة الجزئية»، بينما كانت الحال في السابق على خلاف ذلك، فالقراءة كانت تتضمن استعمال طرائق عدة للتقصي والتفتيش، أي ان صفتها العامة هي الإحاطة الى حد كبير، وهو ما يسمى بـ«القراءة الشاملة» التي من شأنها، مقارنة بـ«القراءة الجزئية»، توسيع المدارك وتنويع مصادر المعرفة.
غياب المشاريع
إن احد الأسباب الأكثر عمقا لمشكلة القراءة في العالم العربي هو غياب المشاريع النهضوية الكبرى وانحسار دور الحركات السياسية الجذرية. ففي احدى الفترات، وبالتحديد في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كان الفكر القومي العربي يدق الأبواب جميعاً، ويبشر بالخلاص من الجور التركي، ويعد العرب بدولة حرة ومتحدة ومنيعة. وفي هذا المضمار أينع الفكر القومي وأثمر مفاهيم شتى ومؤلفات كثيرة في نطاق أفكاره. وعلى هذا الغرار امتلأت المكتبة العربية بمئات المؤلفات عن الاشتراكية وعن المساواة والعدالة الاجتماعية إبان حقبة صعود اليسار العربي في خمسينيات وستينيات القرن العشرين. ثم جاءت أفكار التحرر الوطني ومقولات الكفاح المسلح مع انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة في سنة 1965 لتطلق في سماء المنطقة العربية سجالات فكرية غنية وعميقة وذات تأثير ثقافي طاغ. وهذه العناصر كلها تجمعت وتفاعلت لتجعل من الثقافة شأناً ضرورياً في الحياة اليومية، ولتفرد للقراءة حيزاً اساسياً في غمار النضال السياسي والدفاع عن الأفكار ونشرها، وفي سياق السجالات التي احتدمت طويلا بين التيار القومي بشقيه القومي العربي والقومي السوري، وبين التيار الشيوعي، علاوة على الجماعات الإسلامية المتناثرة، وتيارات التحرر الوطني والكفاح الشعبي المسلح. وفي معمعان هذه الحيوية كانت الطبقة الوسطى ترسخ حضورها القوي في الشأن السياسي، وتقود التحولات الاجتماعية التغييرية، أكانت هذه التحولات جارية في صلب النظام السياسي ومن داخله، أم في الميدان الاثير للمعارضة، أي الأحزاب والصحافة والنقابات والتظاهرات. وهذه العملية السياسية المتضافرة كانت تجر إليها أعداداً متزايدة من الشبان العرب التائقين الى التغيير والحرية، والى العدالة الاجتماعية والديموقراطية والنماء الثقافي، فضلا عن التحرر الوطني. وكانت الثقافة والقراءة حلقة اساسية في خضم هذا الحراك السياسي والاجتماعي المتعدد المظاهر.
خلّف انحطاط الطبقة الوسطى العربية بسبب هزائمها المتكررة في قضايا التنمية والحرية والعدالة الاجتماعية والديموقراطية وفي مواجهة إسرائيل، علاوة على الحروب الأهلية التي اندلعت، وما زال بعضها مندلعا حتى الآن، اضطراباً اجتماعياً مرّوعاً، وعمت الرثاثة المدن العربية الرئيسية كالقاهرة وبغداد وبيروت ودمشق، وصعدت فئات اجتماعية جديدة ثرية وجشعة فسيطرت على شؤون السياسة والاقتصاد وحياة الناس وملاهيهم وحتى عباداتهم. وعلى هذه القاعدة نشأت أغاني الدهماء و«مطربي» الميكرو باص والفتاوى التكفيرية القاتلة وتيارات العنف السياسي، وتراجع الذوق الفني والكتابات الفكرية الجادة، وجرفت موجات الانحطاط ابناء الطبقة الوسطى المتهالكة. وفي دراسة للباحث المصري محمد عبد العظيم تنبيه الى ان المعلمين وأصحاب المسؤوليات الثقافية الرفيعة يأتون في طليعة الفئات الأكثر تردداً على الدجالين، وان 38% من مشاهير الفن والسياسة والرياضة والمثقفين هم من رواد السحرة والمشعوذين.
في الجانب الآخر من الصورة ازدادت الطبقات الاجتماعية الجديدة والفاسدة التي تسيدت المجتمع بثرائها وفجورها، وقاحة وتوحشاً وشراسة، ولم تتورع عن مد مخالبها ونقودها الى الثقافة والجامعات والصحافة لتفسدها بدورها. وعلى هذا المنوال وصل الفساد في الجامعات الى ذرى لم تعرفها الحياة الأكاديمية العربية من قبل على الإطلاق، كشراء الشهادات وأسئلة الامتحانات وسرقة البحوث العلمية والترفيع الى درجات علمية أعلى بناء على الولاءات السياسية او الدينية لا على اساس الكفاءة والخبرة والإنتاج العلمي والفكري. وما هو أسوأ من رجال هذه الطبقات هم أبناؤهم، فقد تقدمت، على سبيل المثال، مجموعة من طلاب الجامعة الأميركية في القاهرة الى إدارة الجامعة تطلب إليها رفع قيمة الأقساط الجامعية الى مستوى عال. وفي العادة يناضل الطلاب في سبيل خفض قيمة الأقساط الجامعية، وهم يتدربون على السياسة إبان الدراسة الجامعية باللجوء الى الإضراب من اجل مطالبهم هذه. لكن، ان تعمد فئة منهم الى السعي لزيادة الأقساط، فهي حالة تبدو غريبة للوهلة الاولى. أما تبرير ذلك فهو ان هؤلاء الطلاب لا يريدون ان يجلسوا مع ابناء البرجوازية الصغيرة في الصف الدراسي نفسه، ومن شأن زيادة الأقساط ان تجعل الدراسة في الجامعة الأميركية مقصورة على ابناء الفئات الغنية، القديمة والحديثة وحدهم، وهذا من علائم الانحطاط الاجتماعي والعياء الثقافي.
ماذا يقرأون
لنرصد ما يقرأ ابناء هذه الفئات الفاحشة الثراء التي جمعت أموالها إما من الفساد الحكومي او من الاستيلاء على الأراضي او من التجارة المشبوهة وتبييض الأموال… الخ. في الحقيقة انهم، على الاغلب، لا يقرأون شيئا، وتراهم لا يفرقون احمد شوقي عن الأرضي شوكي، وجائزة نوبل عن شركة «موبيل»، والجنرال غورو عن غورو مهراججي، ومارلون براندو عن البراندي، وأميل زولا عن زيت المازولا، والشاعر محمد مهدي الجواهري عن مدرب كرة القدم المصري الجوهري، ولا يعرفون الفارق بين محمد عبده الإمام ومحمد عبده المطرب، أو الرئيس محمد نجيب والمنتج السينمائي رمسيس نجيب.
هل تعتقدون أنني أروي نكتة؟ إذاً دونكم المعلومات الأكيدة التالية:
أحد المتخرجين في الأدب العربي في إحدى الجامعات اللبنانية لم يعرف من هو الأديب العربي الذي فاز بجائزة نوبل. وإحدى المتخرجات في العلوم السياسية قالت إن «البوليساريو» منظمة أميركية. وواحدة مجازة في الأدب العربي لا تعرف مَن هو صاحب كتاب «النبي». وإحدى المجازات في القانون ذكرت ان الخرطوم هي عاصمة جنوب افريقيا. وأحد المجازين في العلوم السياسية لم يسمع باسم «مكيافيلي» وكتاب «الأمير». وإحدى متخرجات كلية الاعلام في الجامعة اللبنانية قالت إن رياض طه، وهو نقيب سابق للصحافة اللبنانية، أعدمه الأتراك.
قصارى القول إن القراءة مرتبطة، إلى حد بعيد، بالتحولات السياسية والاجتماعية الحاسمة. فهزيمة 1967 أطلقت موجة من النقد الراديكالي لدى الجيل الذي ولد في معمعان النكبة الفلسطينية في سنة 1948، والذي طالما تطلع إلى تغيير الواقع السياسي ثأراً للكرامة العربية المغدورة.
كانت هزيمة حزيران/ يونيو حافزاً مهماً للالتفات إلى قيمة العلم والمعرفة في الصراع العربي ـ الصهيوني. وتطلع المفكرون العرب آنذاك إلى انبعاث ثقافة جديدة من رماد الهزيمة، ثقافة نقدية ترسم حدا فاصلا بين هزيمة الاستبداد في هذه البقعة من العالم، وقيامة الحرية. لكن هذا الوعد أخفق، مرة ثانية، ولو موقتاً. نعم! لقد أخفق الوعد العظيم بالحرية والعدالة والمساواة الذي دشنته أفكار النهضة العربية منذ أكثر من مئة عام، والذي حمل مشعله جيل ما بعد نكبة فلسطين. وكان من نتائج هذا الإخفاق أن الجماعات الإسلامية المسلحة سجلت أولى انتصاراتها.
ماذا نقرأ؟
إننا نقرأ ما يُكتب. والكتاب، بمفهوم اقتصادي، تنطبق عليه قوانين السلعة، وهو سلعة رفيعة المقام بكل تأكيد. فالسلعة الجيدة أو الخدمة الراقية تخلق طلباً عليها تلقائياً. والكتاب الجيد في العالم العربي ما زال قادراً على إيجاد قراء له. لكن الكتب الجيدة باتت قليلة في ضوء انحسار التيارات الفكرية التاريخية. وعلى المنوال نفسه فإن الكتاب الرديء يخلق، بدوره، طلباً عليه، لكنه يتخطى ذلك إلى القاعدة المشهورة في ميدان النقود، وهي أن «العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق»، فصار الكتاب الرديء يطرد الكتاب الجيد من الأسواق.
في القرن العشرين كانت المفردات التي تلهب خيال الشبان العرب هي: النهضة، التقدم، الحرية، الديموقراطية، الوحدة، الاستقلال، العلم، التنمية، الدستور، القانون، الدولة الحديثة، العدالة الاجتماعية، مقاومة الاستعمار… الخ. أما اليوم فقد عادت بعض المفاهيم إلى الانتعاش مثل: الحاكمية، الجاهلية، الهجرة، الكفار، الجهاد، الحلال والحرام… وغيرها، وعاودت أفكار التبديع والتفسيق والتكفير حيويتها ثانية. ويعكس هذا الأمر انحدارا مروّعا إلى الخلف، أي نحو إعادة الاعتبار إلى الفكر التكفيري الذي دشنه الأزارقة الخوارج منذ نحو 1400 عام، بدلا من التقدم إلى الأمام. ومثلما قضى الإمام الغزالي (ت: 1111) وتلاميذه على المعتزلة الذين بذروا البذرة الأولى للعقلانية في الثقافة العربية، قضى أبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي وحسن البنا وتلاميذهم على المشروع الإصلاحي شبه العقلاني الذي دعا إليه جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده، وتمكن هؤلاء الأزارقة الجدد من قطع الطريق، إلى حد كبير، على الأفكار العقلانية وعلى إمكان تجدد العقل العربي، الأمر الذي دعا أحد الظرفاء إلى القول ان المفكر محمد عابد الجابري عبقري بلا شك، فقد كتب عدة كتب تشكل معاً موسوعة كبيرة عن شأن غير موجود اسمه «العقل العربي».