رواية تراتيل العدم للسورية مها حسن: حكايات خرافيـّة بمكرِ ذكيّ
عارف حمزة
منذ السطر الأول يسيطر عليك الذهول والمتعة من الحياة والوقائع الأسطورية التي تجري روايتها ببطء وبدم بارد من قبل الروائيّة السورية مها حسن. ورويداً رويداً ستجد نفسك غارقاً باستمتاع داخل النصّ الذي يخترق الحواس والقلب برويّة وهدوء. فرواية “تراتيل العدم”، الصادرة حديثاً عن دار الكوكب البيروتية، تحتوي على ذلك المكر واللعب طوال الصفحات الثلاثمئة. المكر أولاً على القارئ الذي لا يعرف إن كان ما بين يديه رواية تسجيليّة لوقائع حقيقيّة تبرّعت الكاتبة الثالثة، والنهائيّة، بتقديمها له على هذه الصفحات كي تكون مصدراً للمتعة القرائيّة، أم أنها رواية متخيّلة، بتفاصيلها وأحداثها وشخصياتها وأماكنها أرادت الروائية أن تُظهر من خلالها عضلاتها اللغويّة والفكريّة والكتابيّة. وسيصل في النهاية إلى أنها رواية، من كثرة المهارة الموجودة فيها، لذيذة وممتعة فحسب. ثم المكر داخل النص من خلال اللعب على الأزمنة وقدرات الشخصيات ومصائرها وتأويل الأسماء والأماكن، في التنقل بخفة بالغة بين العالم الواقعي/ الإنساني/ العلوي والعالم اللا واقعي/ الجنيّ/ السفلي.
يُمكن أن نقول أن “أرض” هي الشخصية الأساسية في النص. وتقابلها في الجانب أو القطب الآخر شخصية “إغماء”. فأرض، التي أنجبت خمساً وعشرين ابناً في ثلاثة عشر ولادة ضمت في كل ولادة طفلين وفي المرة الأخيرة طفلاً واحداً كانت قابلتها أثناء الولادة أفعى لديها شعر يغطي غرفة كبيرة، تملك صفات وقدرات غير طبيعيّة، في شفاء المرضى ومعرفة المصائر وإحياء الأموات ومحادثة الحيوانات. تظهر في الجانب المعاكس لإغماء، زوجة ابنها “عناد”، التي استخلصها “جنيّ” لنفسه زوجة وأنجب منها ابنها الوحيد “حرز”، ولا عمل سوى ذلك إلا أن تغني أغاني تأسر جميع الناس والحيوانات وتوقفهم عن أعمالهم وحياتهم. وعند انتهائها من الغناء تدخل في حالة الإغماء في الصمت والخروج من الحياة العادية لتعود الحياة والنشاط للكائنات الأخرى. لذلك تبدو معادلاً للعالم السفليّ المضاد لأعمال “أرض” وكائناتها العلويّة.
تبدأ الرواية بتمدّد القائد الموسيقيّ “حرز” على سرير من القش واحتراقه. ويبقى طوال الرواية مشهد الاحتراق بارزاً. بينما تقوم الروائيّة بنسج حكاياتها في قصّ الحكايات والمصائر للشخصيات بتدخل ذكيّ في زمن الحكايات والشخصيات سواء بالعودة للحاضر أو الماضي أو المستقبل.
قسّمت مها حسن روايتها إلى ثلاثة فصول، التعريف بالأشخاص التعريف بالأحداث- بداية الرواية، ثم أضافت فصلاً إضافيّاً وملحقين كدليلٍ لأسماء الشخصيات وأبنائها. وهذا كلّه مكر في الكتابة. فالرواية تبدأ، بحسب ما رُسم لها في الكتاب، بعد مئتي صفحة!. وما وضعُ ملاحقٍ للأسماء، أو فصول كاملة للحديث عن الشخصيات والأحداث، إلا لعبة من الروائيّة كي ندخل في حالة التسجيل للأحداث كي تبدو حقيقيّة وغير متخيّلة. والكاتبة لم تتوقف عند ذلك. بل أكّدتْ داخل المتن الروائيّ على مسألة غريبة وهي تدخل كاتبتين، هما جدار وجوزفين، في كتابة المخطوطة الأصليّة للرواية، التي اعتمدت في بعض فصولها على دفتر يوميّات لحرز، ثم قامت جوزفين بتسليم المخطوطة ل”مها”، التي يرد اسمها هكذا ككاتبة للنص، كي تصيغها أدبيّاً وتجد حلولاً فنيّة مناسبة من أجل نشر المخطوطة كرواية!! ليس هذا فحسب، إذ إنها تذكر في بعض الأحيان تعليقات لجدار وجوزفين، عن حدث ما أو شخصيّة ما، وتوردها بين قوسين بأنها ربما كانت اجتهاداً من جدار أو جوزفين. بمعنى أنها لم تتدخل في بعض الأحيان كي تُظهر عملاً لشريك آخر في الكتابة. وهذا شيء جديد بالفعل على الرواية العربية. لأن هذا الفعل بقي مذكوراً طوال الرواية وليس كتنويهٍ لذلك فحسب.
صراع بين عالمين:
من الداخل تبدو الأمور مبنيّة على ذلك الصراع بين الأمنية والأقدار، هذا الجانب الذي تمثله أرض، وبين ممانعة تلك الأقدار بتدخل الإرادة أو العقل أو العالم السريّ المضاد لها، وتمثله إغماء ومَن استغلها من الجان الذين تعاهدوا مع حرز لتغييّر قدره. فالصيغة الأولى التي تقولها أرض في أذني أبنائها، وأبنائهم في ما بعد، كما حدث مع حرز، “حذرتك ألا ترتّل هذا النشيد، فيسكن في ذاكرتك، يأسركَ ويلعنك، يُفتّتكَ فيستحوذ عليك، ولا يكون لكَ منه فرار، فيعدمكَ، وحيداً تموتُ وتشمُّ رائحة رحيلك الأرضُ، ولن ينقذكَ من عذابكَ إلا عيد يأتي في ربيع يتلو رمادك”. كانت تلك صيغة لتلطيف قدره رغم أنها متيقنة من أنه سيلقى، كما والده عناد، مصيراً مختلفاً ومخيفاً، ولكنها داومت على تذكيره بصيغتها الأولى كي ترأف به الأقدار. إذ كان حرز مذعوراً في صغره، بسبب أمه إغماء من جهة، التي كانت تريده أن يكون أنثى لكون الجنيّ الذي ضاجعها اشترط عليها أن يأخذ المولود إلى جانبه إن كان ذكراً ويتركه لها إن كان أنثى، فكانت كلّما رأت عضوه حاولت قطعه بيديها وأسنانها وبالنار والسكاكين كي يفقد ذكورته ويبقى لها، ذلك الجنيّ اتفق مع حرز على حمايته، من الخوف ومن صيغته الأولى، إذا ردّد صيغة جديدة، وهي طاعته من دون نقاش، كي يحيا حياة جديدة خارجة عن مسار الصيغة الأولى. ثم يأتي المكر، مجدداً، بصيغة ثالثة مؤلفة من كاتبة الرواية نفسها وذلك في الصفحة 213: “.. في أن تكون الصيغة الثالثة، الرواية بصيغتها النهائيّة، أكثر قدرة على منحه خلاصاً لم تقدّمه الصيغتان، لا الأولى السابقة له، لوجوده في الحياة، ولا التالية، المصوغة له، المصنوعة لتخليصه!”.
واقعية سحريّة:
” قالت نجمة: كنتُ أسمع صوت ً يأتيني من الجدار، وحين حفرتُ الجدار، وتابعتُ الحفر، لأيام متواصلة، وشهور، عثرتًُ على طفلة نائمة، ترضع إصبعها، فأخذتها وتبنّيتها”. (ص 243). الرواية، بهذا المعنى الذي يوضحه المقطع السابق عن أصل شخصيّة جدار، تحوي الكثير من القصص الخرافيّة التي تصنعها حكايات الجدّة الحكيمة الطيّبة والقويّة للأطفال الذين لم يشاهدوا تلك الكميات الهائلة والمخيفة من الدم والأساطير وقصص العشق والحروب وعوالم الجن والعفاريت.. وقد قامت الروائيّة باستخدام تلك القصص كمادة خام في كتابة هذا العمل بحرفيّة واتقان. فجاء العمل مشعّاً بتلك الواقعيّة السحريّة على أصول كتابتها. أي بحرفيّة الواقعيّة السحريّة التي تجعل الأشياء والأسماء والأحداث والعوالم، بالرغم من خرافيتها، قابلة للتحقق وللتصديق. متجوّلة في الزمن، ببساطة وخفة وذكاء، منذ الخليقة ولحد الوقت الراهن ممعنة في إمتاع القارئ بما لم يعد من الممكن الحصول عليه في الكتب والحكايات الجديدة. مستخدمة الوصف واللغة بشكلٍ آسرٍ، فهي لا تثرثر ولا تستطرد، لذا يبدو العمل ممسوكاً، من قبلها، ومتماسكاً طوال جريانه على الرغم من خطورة كميّة التجريب والحكايات والشخصيات والأحداث..
المستقبل