بوكـــر العـــرب
فواز حداد
لا أدري ما إذا كنت صالحاًً للكتابة عن الجوائز بشكل عام، والبوكر بشكل خاص، لاسيما وأنا لا أخفي رأيي في ما يمارس من تجاوزات وانتهاكات ثقافية. فلقد أتيح لي معاينة الوسط الثقافي العربي من مسافة سمحت لي أن أراه بشكل كان غير مشجع، وأحسنت صنعاً بوضع حد بيني وبينه، ساعدني على كتابة روايتي «المترجم الخائن». اعتبرها البعض أهجية للثقافة والمثقفين، بينما كانت دفاعاً عنهما، من خلال ما رغبت جاداً في التأكيد عليه وهو: «المسؤولية الأخلاقية، التي بدونها لا معنى للثقافة ولا للمثقفين». مع أن هذه المقولة تعتبر في هذا الزمن الذي يقوض كل شيء، رجعية جداً، أسقطها قطار الحداثة والتحديث، وكأنها تنتمي إلى عصر ما قبل النهضة!. لكن بما أن الخلاف كله اليوم كما يُزعم، سواء مواجهة أو مواربة، يتمحور حول النزاهة والأمانة، فلا بد أن نسترشد بها مرغمين، إلا إذا لم يكن لهذه الصفات علاقة بالأخلاق. لكن المثقفين الذين ينكرون الأخلاق سرعان ما يستغلونها عندما يحتاجونها، وهو عمل غير أخلاقي أيضاً.
أما لماذا البوكر بشكل خاص، فلأن المصادفة جعلتني أشارك فيها ثلاث مرات، فعلى مدار ثلاث سنوات، نشرتُ ثلاث روايات، وهذا لايعني أنني أكتب رواية كل سنة، لكن شاءت الظروف أن يتأخر صدور الأولى، بينما كانت الثانية جاهزة. الرواية الأولى «مشهد عابر» استُبعدت في وقت مبكر ولم تصل للقائمة الطويلة، الثانية «المترجم الخائن» وصلت إلى القائمة القصيرة، الثالثة «عزف منفرد على البيانو» كان حالها كحال الأولى. وبما أنني استجبت منذ بداية الترشيحات لطلب الناشر الصديق رياض الريس، كان عليَّ القبول بالنتائج مهما كانت، رغم أنها تثير التساؤلات.
أتاحت لي هذه المشاركات المتابعة عن بعد تارة، وعن قرب تارة أخرى. وكان مما لاحظته عدم خلو أية دورة من انتقادات حادة أو خجولة، أو تناقل شائعات مغرضة وغير مغرضة، وهذا أمر مفهوم، مادامت تخلف رابحين وخاسرين في عرف المشاركين والمتابعين. وأشهد أنه في الدورة الثانية، وكنت في عداد كتاب القائمة القصيرة، جرت بعض الأقاويل، لكن الجميع ترفعوا عن إثارتها.
جاءت جائزة بوكر العربية إسهاماً في الحراك الروائي العربي، بعدما شهدت حركة الترجمة في البلاد العربية ترجمة عدد كبير من الروايات الغربية والأميركية اللاتينية، لم يرافقها نشاط مماثل في الترجمة المعاكسة من العربية إلى اللغات الأخرى، لاعتماد أغلبها على الجهود الفردية، فلم تشكل حجماً مؤثراً، ولا تأثيراً لافتاً. كما استدعت المتغيرات السياسية في العالم والاستهداف الأميركي للمنطقة، الحاجة إلى التعريف بالمجتمعات العربية من خلال الرواية كعامل مساعد أكثر رسوخاً ودلالة وعمقاً، لاسيما وأن الرواية العربية المعاصرة تُعنى بالحاضر حتى لو ارتدت إلى الماضي، وتعبر عن هموم المجتمع العربي وإشكالاته. العقبة الرئيسة كانت في انتقاء الروايات التي ستترجم. هل تعطى الأولوية للموضوعات التي يهم الغرب معرفتها عنا، أم تُعنى بالسوية الأدبية للرواية؟ كان المطلوب تقديم صورة أقرب إلى أن تكون واقعية وحقيقية، دون التنازل عن السوية الفنية للرواية، وبشرط الإلحاح على الحرية في تعبير الكاتب عن نفسه ومجتمعه دون مراعاة الداخل أو الخارج. هذه الرؤية بقيت في طور التمنيات، لغياب الوسائل.
كانت جائزة البوكر مفاجأة فعلاً، من جانب أن هذه القواعد سوف تحترم وتؤخذ بعين الاعتبار، خاصة والمبادئ المعلنة كانت أن اللجنة المحكمة ستعتمد في انتقاء الروايات الفائزة، النقاش الحرّ والمفتوح والتركيز على الخصائص التي تميز الرواية، لتوسيع دائرة قراء الأدب العربي في العالم. ووقع الاختيار على الرواية التي تكتب حالياً، الصادرة حديثاً، أي في السنة نفسها. ولا يحق للناشر ترشيح أكثر من ثلاثة أعمال.
ومع أن الجائزة تكرست بسرعة كبيرة، كنسخة عن البوكر البريطانية، رافقها إقبال كبير وضجيج إعلامي، لكن وبالمقابل، تسارعت وتيرة الانتقادات، وتعالت إلى حد بات يهدد الجائزة. وإذا نحينا الشائعات جانباً، بعض هذه الانتقادات كان جدياً، وهي قليلة بالفعل، لا تخلو من صحة، مهما حاولنا التغاضي عنها.
بداية، ما يجب قوله بناء على ما تردد من شائعات، أن الكثيرين لم يهضموا بعد، أو يتفهموا معايير البوكر نفسها، ويدركوا أن التقيد بها، يغلق الباب أمام الكثير من الجدل. والملاحظة الأساسية، أن الجائزة تركز على الرواية وليس على الروائي، ما يفترض ألا تشمل سوى عمله المرشح، دون النظر إلى أعماله الأخرى، أي دون أن تأخذ بأي عامل مرجح لصالح الكاتب خارج نطاق الرواية، لا مكانته، ولا تاريخه، ولا تجربته الروائية، بل تخضع لاعتبارات نقدية. كذلك عدم الالتفات إلى التوزيع الجغرافي والثقل الاقليمي، وكأن لبعض البلدان حصة لا يجوز الاخلال بها.
وبصرف النظر عما يجري داخل لجنة التحكيم التي لا نعرف ما يدور في جلساتها السرية، يسترعي النظر ما يدور خارجها في الصحافة الثقافية عندما يأخذ بعض المتابعين من الروائيين والنقاد بكل ما يتعارض مع الجائزة نفسها، فيُجندون حملة لصالح رواية ما، ارضاء لعلاقة شخصية، أو انحيازاً لبلد، أو لمجرد تقديرات جزافية…الخ، وأغلبها مريب أو متسرع، لعدم اطلاعهم على الأعمال الأخرى المشاركة، إذن بأي حجة يصوتون في منابرهم الاعلامية لهذا أو ذاك؟! والشواهد كثيرة، نتيجـــتها إلقاء الشكوك على عمل اللجان.
ليست فضائح
وعلى الهامش، أذكر حادثتين عابرتين، لم يراع فيهما هذا الاعتبار. نتوقف عندهما لمكانة من صدرت عنهما. ففي الدورة الثانية، عندما أعلن فوز زيدان، أطلق جمال الغيطاني تصريحاً رجح فيه تجربة محمد البساطي، ومع أنني أوافقه، لكن الجائزة لا تُمنح على تجربة الكاتب مهما كانت غنية وعميقة، وإنما على عمل محدد. وشاركه في هذا الرأي عباس بيضون، بتحديد المنافسة بين زيدان والبساطي، وكأن المنافسة مصرية بحتة، وكتاب القائمة القصيرة عبارة عن كومبارس… أو وجودهم كان ذراً للرماد في العيون!!
بالعودة إلى الدورة الثالثة، يبدو اللغط الحاصل على السطح مصرياً لبنانياً، وفي جوهره مصرياً مصرياً، وفي الواقع لا يخلو من تداخلات بينهما، كأن يقف بعض اللبنانيين إلى جانب المصريين وبالعكس. فالشللية عابرة للحدود.
ما يخشى منه أن ينعكس الفساد الثقافي في البلاد العربية، على جائزة البوكر، فالذين شعروا بالغبن أحالوا خسارتهم إلى اللجنة المحكمة. بينما السبب يكمن في الأجواء المحتقنة بالشللية المرتكزة على العلاقات غير الأدبية، وسعيها للهيمنة على الجائزة. أي أن الشلل المتنفذة تريد الحلول محل اللجنة وفرض مرشحيها.
إن ما طفا على السطح هو المهاترات. والبوكر العربية قد تكون الضحية، مع أنها أسوة بغيرها من الجوائز، مازالت في بداية طريقها، ورغم أن هناك قوانين تحكمها، يتوجب عليها وباستمرار تكريس تقاليد واضحة في اختياراتها، عدا تأكيد استقامتها ونزاهتها، وبالتالي لن تكتسب المصداقية، إلا بمراعاة شروطها نفسها على الأقل.
إن استقالة شيرين أبو النجا من اللجنة المحكمة، لا يشكل فضيحة، وإنما تعارضاً في أسس النظر النقدي، لم يجد حلاً داخل اللجنة. هل يمكن مؤاخذة الناقدة التي تصرفت بجرأة وبوحي من ضميرها؟ لا. كذلك اللجنة التي شعرت بانسداد النقاش فلجأت إلى التصويت عدة مرات!! وكان من الممكن تأجيل إعلان النتيجة حتى حسم النتيجة بما يُطمئن الجميع. كذلك في الدورة السابقة، استقال رياض الريس من مجلس الأمناء، بدعوى أن المجلس شاهد زور لا يقوم بعمله المطلوب منه. فقامت الدنيا ولم تقعد تتهم الريس بافتعال الفضائح!! ألا يشير هذا إلى ثغرات في عمل اللجنتين، وبدلاً من تجاهلها، أو إخفائها، المطلوب معالجتها منعاً للتأويل والتقولات.
إن التدقيق في عمل لجان التحكيم باعتماد معايير نقدية واضحة يُرجع إليها، والتي تختلف قليلاً أو كثيراً من لجنة لأخرى، يجب مراعاته. كذلك عمل مجلس الأمناء، هل لديه صلاحيات أم دوره ليس أكثر من استعمال أسماء أصحابه؟ وربما أيضاً، إعادة النظر ببعض الاجراءات الادارية، وعلى سبيل المثال: لماذا لا يجري الاعلان على موقع الجائزة عن عناوين الروايات المتنافسة (اي القائمة الكلية التي رشحتها دور النشر)؟ بعض الروائيين المشاركين يعتقدون أن رواياتهم استبعدت ولم تطلع عليها اللجنة المحكمة. إن توضيح هذه الأمور والاجراءات، تشكل وقاية من المزالق الشكلية والموضوعية.
إن أكثر ما يسيئ إلى الجوائز، هو الشللية، ولدي رأي قاس فيها، إنها مافيات الأدب، ومثلما المافيات في العالم عابرة للدول، كذلك مافياتنا الأدبية عابرة للجغرافيا العربية. ونجحت مراراً في تحويل بعض الكتاب الجدد إلى مرتزقة ومتسولين للمنافع، ناهيك عن تصنيع أكاذيب أدبية من الكتاب والكاتبات بواسطة الدعاية، وتعميمهم في وسائل الاعلام، وإضافتهم إلى المخزون الأدبي العربي المتورم بالدجل.
أما بالنسبة إلى الجوائز عموماً، فنعلم أن لها أغراضاً، ولا جائزة دونما غاية تُستهدف منها، المفترض أن تكون نبيلة حسب دواعي إنشائها، فإذا كان هدف البوكر تعريف العالم بالرواية العربية، فهو هدف ينبغي الدفاع عنه بقوة، سواء بمدحه والاعتراف به، أو بنقده في حال أصابه أي خلل.
معايير خاطئة
وللعلم، قد تكون الجوائز مشبوهة، وتُرفض لأسباب سياسية، وربما شخصية باتخاذ موقف تجاهها، فالشاعر السويدي اريك اكسل 1918 رفض جائزة نوبل، ومثله الشاعر والروائي الروسي بوريس باسترناك 1958، والفيلسوف والأديب جان بول سارتر 1964. وأكثر ما يستوقفنا السبب السياسي، هذا الذي نغفله حالياً. ففي هذا الزمن، لا يغيب عنا وجود أجهزة تؤثر على الشأن الثقافي، وتضعه في حساباتها، ولا تترك شيئاً للمصادفة، إذ للمعايير السياسية تأثير كبير في اختيار الفائز، لتسويق وجهات نظر مؤيدة أو معارضة في صراعات محتدمة، تبدَّت مراراً في التجاذبات الدولية إبان فترة الحرب الباردة. عموماً للكاتب الحرية في رفضها إذا تعارضت مع مبادئه، ولقد قام الروائي المصري صنع الله إبراهيم، بالامتناع عن قبول جائزة القاهرة للرواية العربية، ورفض قيمتها المادية، وكان كسبه المعنوي أكبر، بما ناله من احترام وتقدير، والأهم أكد على مصداقيته. لا بأس في طلب الجائزة، على ألا تتعارض مع ما يؤمن به الكاتب، وإلا كان الجزاء المعنوي والمادي إذلالاً له. هذا شرط لا ينبغي التنازل عنه.
وفي هذا المجال، لابد أن يدهشنا عدد المجهولين الذين نالوا جوائز معتبرة في القرن الماضي، من يعرف مثلاً الشاعر الفرنسي سالي برودوم الذي نال الجائزة الأولى لنوبل 1901؟! وغيره الكثير من الذين حازوا عليها، وذهبوا إلى تاريخ الأدب، وربما إلى تاريخ الجائزة فحسب، بينما الذين تجاهلتهم، مثل الكاتب النرويجي هنريك ابسن، ما زالت أعماله تعرض حتى اليوم على المسارح في أنحاء العالم، ومعه الكثير من الروائيين كمارسيل بروست وجيمس جويس وفرجينيا وولف وغراهام غرين وأندريه جيد وسانت اكزوبري … مازالوا عالقين في الزمن يمارسون تأثيرهم على الأدب والبشر.
وإذا لم نرد المبالغة بالجوائز سلباً أو إيجاباً، فهي تقدير لجهد الكاتب، وغير محصنة من النقد، وإذا حصد الكاتب من ورائها الشهرة فهي مؤقتة، وتتطلب منه ربما أكثر مما يطيق، لكي يثبت دائماً أنه أهل لها. إن جدية الجوائز ومصداقيتها تحفز الروائيين على أن يبذلوا أفضل ما عندهم. فمن الناحية المعنوية تمنح الروائي اعترافاً بأنه كتب عملاً لافتاً. أما الجانب المادي فيبدو معقولاً، بالمقارنة مع ضعف أو حتى انعدام المردود المادي من الكتابة في العالم العربي.
ولابد من تعليق، إذا كان هناك من معنى أو مستقبل لـ«بوكر العرب»، فهو في معاكسة السائد المسكوت عنه، فإذا كانت الجائزة عربية، فلا يشترط أن تكون الحصة الأكبر لمصر، ولا عدم استثناء لبنان، أو ارضاء سورية بشيء ما، أو عدم نسيان بعض الدول الأخرى بين دورة وأخرى. المحك هو الرواية وحدها لاغير.
اليوم، والبوكر في دورتها الثالثة، لم تتمها بعد، لا بد من الاعتراف، أنها حصدت سمعة عريضة، يدل عليها هذا السجال الواسع بكل عيوبه ومثالبه وانحيازاته وطموحاته، لذلك لامفر من توخي الشفافية والوضوح في اجراءاتها، والتحيز للرواية وبمعايير أدبية بحتة، وإلا ستحصد سمعة فاسدة توازيها بالاتساع إن لم تتفوق عليها. نقول من دافع الحرص على الجائزة: لا تتركوها لخلافات مافيات الأدب ونزاعاتهم، يفرضون سلطتهم عليها. لقد حققت الجائزة،على الرغم مما شابها من نواقص، كسباً لا يستهان به للرواية العربية.
(روائي سوري)