صفحات ثقافية

قـــراء المســـتقبل

null
عباس بيضون
الذين يؤمنون والذين لا يؤمنون سيستمعون للمتنبئين في التليفزيونات وهم يشيرون بدون أن يسموا إلى الحرب التي ستقع، إلى الرئيس الذي سيموت. إلى النصر الذي سيتحقق أو الهزيمة المقبلة. يشيرون ولا يسمون مثل العرافين العميان سيتلقون النبوءة بألفاظ مبهمة فالآلهة لا تحب الوضوح وهي بأفعالها ولكن بكلامها أيضا تلعب بالبشر، بل وتضللهم. بعض النبوءات ليست سوى أحاج وقد تعني غالباً عكسها. الجنيات لعبن بمكبث والقدر الذي ساقه إلى مأساته ضحك منه ملياً في النهاية. هاملت أرسله الضيق إلى الحقيقة لكنه لم يقل له انه سيخسر نفسه على طريقها. تقال النبوءات دائماً بألفاظ بلهاء ولا نعرف هل الآلهة بله أم الحقيقة بلهاء. لا بد من أن الحقائق التي تدير الكون سخيفة للدرجة التي لا تقتضي تذكرها. ثمة أشياء كارثية تنتج عن نسيانها. ثمة فظائع وانتقامات مصدرها تفوق البشر على آلهتهم. الآلهة لم تحتج إلى ذكاء باهر لتخلق، لم تحتج إلى خيال، الأمر وحده يكفي. فعل من حرفين ولا شيء أكثر.
المتنبئون وقارئو الأبراج يتصدرون اليوم الشاشات. لا تنظروا في أعينهم. إذا لم تجدوا روحاً ولا ظل إشراقةٍ فيها فلا تتعجبوا. الآلهة صماء غالبا ولا تحتاج إلى روح والنبوءات هي بنت الغفلة، كأن المجاذيب هم مساحو المستقبل. لا يزال الأمر كذلك، يضع سره في أحمق خلقه. لماذا، لا تنظروا في أعينهم. العرافون وقارئو المستقبل هم تقريبا بلا مستقبل. ثمة دائماً الأطرش الالهي. الأعرج الالهي، الأحدب الإلهي. المعاق الإلهي على أبواب السماوات، المجذوب الإلهي الهائم في الطرقات. كل ذلك يقترن بكميات كبيرة من العمش والوسخ والرائحة. تأكدوا من ذلك. النبوءة لا تحتاج إلى ذكاء، اعرفوا ذلك وثبتوه في أذهانكم. لا تنظروا في وجوه العرافين وقارئي المستقبل. لن تجدوا ذهولا، سترون أعينا مبصرة حادة الزوايا. للنبوءات ثمن. ومن لا يعرف ماذا في جيبك لن يعرف ماذا في قلبك. الطريق إلى السماء معبدة بالقطع النقدية من جميع العملات. القلب الخالي، القلب الزاهد لا ينكشف له شيء. الشراهة هي التي تكشف، الطمع هو الذي يرى أبعد، مبارك الجشع، مباركة الشهوة، مبارك الحسد. انها أبواب الرؤيا.
العرافون وقارئو المستقبل يتصدرون الشاشات. انهم ينتظرون الاسئلة وشيطانهم حاضر وسيجيب ذو القرون الراقد في أعماقهم. سيخدع الجميع لكن الجميع يخرجون فرحين. صوت المرأة حنون ناعم يسأل متى استطيع ان آكل أولادي. العراف في كرسيه يسمع ضحكة ذي القرنين والذيل. ثمة وصفة لطهوهم، اذا انهيتِ ذلك يمكن ان تضمني مقعدا في الحضرة. صوت رنان يسأل متى استطيع ان امسخ اعدائي. ماذا تريدهم، جرذانا أم خنازير أم نمالا حمراء أم وجبات أسنان أم حمامات ومراحيض، أم.. أم… قل ولكل شيء ثمنه. يمكن مسخهم أحجارا لكن لهذا محاذيره، فقد يتحولون عندئذ إلى آلهة، وقد يصبحون أساطير وأطلالاً، لكل شيء ثمنه. صوت مبتهج يسأل متى يظهر القرد المعجزة الذي ينقذ العالم. يتحير العراف والشيطان العارف. لم تأت اشارات عن القرد المعجزة لكن هناك بوادر أكيدة تسبقه. صاحب الطبل وصاحب الصنج وصاحب القافية وصاحب الرسائل وصاحب الكرسي وكل هؤلاء أتوا ولم يأت. لا بد من أن ينتظر جيلا آخر، لا بد من أن نتلقى منه رسالة أخرى. صوت ناحب يقول قومي بلا نار كيف أسرق لهم نار ونور الجيران، قومي بلا كتب كيف استطيع احراق كتب الآخرين. قومي بلا فضيلة كيف أطعن في الفضائل كلها، كيف أحيل العالم وضيعا من اجلي. قارئ المستقبل يقول سيكون ذلك يوم الذئب ويسكت. قارئ المستقبل يعرف بالطبع ان النبوءات يمكن بيعها للعدو، يمكن قلبها على الطرفين، سيقول الهتنا ضعيفة انها جائعة سنطعمها كثيرا من الخراب. سنسقيها كثيرا من الدموع، انها تستحق. سنولد الروث، المهم أن نجد قدراً كافياً منه، سيأتي يوم لا نار ولا كتب فيه. سيأتي يوم تتنكر فيه الفضائل. عندئذ لن نجد من يعد الفضائح، سيكون هناك دائماً قدر كاف منها. ان من يؤمنون ولا يؤمنون سيأتون لقراءة المستقبل، الذين لا يؤمنون سيكونون أكثر الحاحاً. هناك ساعة وحيدة للطمأنينة لا ينبغي ان نفوتها، أي حرب ستقع؟ أي رئيس سيقتل وأين تكون المجزرة.
كان العرافون القدامى يباركون ويتاجرون بالانتصارات. يهدون اعماراً مديدة وطوالع سعيدة. اليوم لا يهتم بأحد بحسن الخواتيم. يصرخون اننا ننتظر من زمن الرأس الذي سيقطع، القوة لنا. اننا ننتظر اللسان الذي سيقطع، اهدوه لنا. ننتظر الحريقة من دهر، لماذا لا تصنعون ناراً كافية. الناس تحت يصرخون هاتوا المقصلة، هاتوا القتلى. واضح أن عاماً لا يقتل فيه أحد، لا تهب فيه نار، لا تسقط فيه رؤوس ليس عاماً يذكر. كانوا من قبل أيضا يحبون الحروب ويخرجون منها رجالا. كانوا يسافرون من أجل ساعة حب. كان العالم قذراً لكن الشعراء يجملونه والعرافون يهدون اليه كواكب ونجوماً، والملوك فيه قريبون من السماء، والمتنبئون والأنبياء مبثوثون في كل مكان. كانوا جياعا لكن الآلهة كانت بينهم، كانوا بائسين لكن القاموس والكتاب كانا يجعلان كل شيء مقدسا. كانت الكلمات حلياً، كانت السيوف قلائد. وكان القتل جنة. اليوم يجلسون على الشاشات ويكلمون المستقبل حيث لا أحد يمكن ان يجيب. قاتل الآلهة وحده يصرخ بهم ان يكفوا. محرق الكتب والمدائن والاحلام يجد نفسه بلا نار. عليه ان يعيش في الصحراء التي احدثها.
الذين يؤمنون ولا يؤمنون يذهبون اليوم إلى قراءة المستقبل. سيجدون على الشاشات وجوههم نفسها وقد غرقت في خدعة لا صحو منها، سيجدون أنفسهم أخيرا في المؤامرة. سيسلمون للقدر ليس رؤوسهم ولا ارواحهم ولكن فقط خدعهم. سيعرفون ان المستقبل بلا نجوم، ان حساباته لا تغري أحداً. بعض السرقات تعدّلها، بعض التزوير فحسب. اللعب لا يؤذي مع المستقبل، طالعوا الصحف، ثمة أيام غير موجودة. ثمة سنون غير موجودة، اقرأوا في الأعمدة. الأخبار ذاتها تعود اليكم. اقرأوا، الطوالع نفسها ستتكرر. المستقبل مكشوف وبفم فارغ يتكلم. انه أيضا أحول، لكن يبقى ان تعرفوا أي حرب ستقع. أي رئيس سيموت، أي رأس سيسقط.

السفير الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى