رقابة اللا معقول: الرقابة ضد هدفها
محمد ديبو
ليس من المؤكد تماما أن الرقابة الخارجية ولدت مع ولادة الكتابة ذاتها, ولكن من المؤكد أن ثمة رقابة داخلية دائمة و ملازمة لأية كتابة مهما حاول الكاتب التأدلج خلف يافطات محو الرقابة و تدميرها, لتغدو إيديولوجيا “محو الرقابة” بدورها رقابة مقلوبة تجعل من الكتابة ندا للرقابة التي لا تعترف بوجودها, فيغدو “اللاعتراف ” هذا, اعترافا لا واعيا بها وبوجودها.
غالبا ما تأتي الرقابة لتغييب حدث ما أو فعل ما أو كتابة ما تفضح جماعة ما أو سلطة ما أو دين ما, فتعمل الجهات المتضررة من فعل الكتابة هذا إلى استخدام سلطتها (سواء سياسية أو دينية أو اجتماعية) لمنع النص المكتوب في حالة أولى, أو منع الكاتب إلى جانب كتابه عبر السجن في حالة ثانية أو القتل في حالة ثالثة و أقسى!
وتهدف مؤسسة الرقابة التي تعمل بأمر سلطة ما إلى منع ما يفضح السلطة (أيا كانت هذه السلطة:سياسة, دينية, اجتماعية, رمزية..) ويؤثر على ديمومتها وشرعيتها في نظر المحكومين التي تسعى الرقابة ومؤسساتها إلى منع الكتابة الفاضحة من الوصول إليهم ليبقوا مخدرين بما تقدمه السلطة لهم من وعي زائف يناقض ما تقدمه الكتابة أو الثقافة الممنوعة.
ولكن رغم ذلك للرقابة وأجهزتها هدف يتمثل بمنع العمل من التداول والقراءة مهما كانت الأساليب, الأمر الذي يجعل فعالية الرقابة مرتبطة بمدى فعالية تحقيقها لهذا الهدف, فإن حققت هدفها تغدو رقابة فعالة ومحكمة, وإن أخفقت تبدو رقابة بلهاء وتعيسة ومحزنة , وربما هذا ما يحصل في سوريا اليوم, حيث منعت مؤخرا الرقابة السورية التابعة لوزارة الإعلام مجلة الآداب اللبنانية من التوزيع في سوريا والسبب تضمن العدد ملف حمل عنوان ” ملامح من الكتابة الجديدة في سوريا” تناول فيه بعض الكتاب المشاركين في الملف الأعمال الأدبية التي تناولت أحداث الثمانيات الدامية في سوريا, الأمر الذي استفز مؤسسة الرقابة فمنعت العدد, لتعمل بذلك ضجة تفضح نفسها بها أكثر مما لو سمح بتداول العدد الذي لو مرّر لما سمع به أحد ولما قرأه أحد في بلد لا قراء به سوى كتابه أنفسهم, وأكبر دليل على ذلك عدد النسخ المباعة من أي كتاب داخل سورية, فلو أخذنا نسبة العاملين في الشأن الثقافي والمجبرين بحكم مهنتهم على القراءة ونسبة ما يباع لرأينا أن النسبة مفجعة , لا بل سنكتشف أنه حتى المهتمين بالشأن الثقافي لا يقرأون !
هنا نستطيع أن نجد نوعا من الرقابة التي يحتار المرء في كيفية توصيفها, فلا هي رقابة محكمة تتمكن من منع ما تريد, ولا هي رقابة مدروسة وفق هدف يخدم السلطة التي تعمل لأجلها أصلا, بل هي تسعى إلى ترويج الممنوع وزيادة عدد قرائه, خاصة أن النصوص الممنوعة موجودة على موقع المجلة على الإنترنت, ويمكن خلال دقائق تداولها وإرسالها إلى ملايين الأشخاص المهتمين وغير المهتمين هذا من جهة, ومن جهة أخرى إن أغلب النصوص الأدبية التي تناولتها الدراسات الموجودة في العدد الممنوع هي نصوص موجودة في المكتبات السورية وبعضها مسموح بتداولها بقرار الرقابة ذاتها, الأمر الذي يجعل من الرقابة مؤسسة تصدر قرارا وتنتهكه بذات الوقت ولعمري هذا أغرب ما يمكن لعقل أن يستوعبه !
ولكن لهذه الغرابة أسبابها بالتأكيد, حيث أن المتابع لآلية التطورات الأخيرة في الداخل السوري لجهة علاقة السلطة بالمجتمع, سيلحظ انحسار الضغط الذي كانت تمثله السلطة بشكل مباشر على المجتمع بشكل ما إلا في حالات استثنائية, ولكن هذا الانحسار لم يترافق مع قوانين أو آليات أو إجراءات سياسية توضح هذا الأمر بل جاء بحكم الواقع وعدم القدرة على فرض ما لا يمكن فرضه أساسا, لذا انحسر الأمر دون وجود قوننة له, مما جعل مؤسسة الرقابة تضيع بين ما هو حاصل فعلا على أرض الواقع وبين القوانين أو بالأصح الأعراف القديمة التي ما تزال ترضخ لها بحكم ثقافة الخوف التي تحكم موظف الرقابة الذي يفكر بلقمة عيشه قبل أي شيء آخر, خاصة أنه سيكون هو “كبش الفدا” في أي لحظة تتغير قواعد اللعبة.
لذا أغلب الظن أن أغلب ما تمنعه مؤسسة الرقابة السورية حاليا ليس نابعا من توجه أمني وسياسي ما ( وهذا ليس دفاعا عن هذه الأخيرة بقدر ما هو توصيف واقع كما نراه) بقدر ما هو نتاج ثقافة خوف مازالت تحكم المناخ السوري العام الضائع بين أصوات فردية جريئة تعبر عن نفسها بخجل وبين غياب قوانين واضحة تقونن هوامش الحرية التي حصلت مؤخرا (رغم ضيقها ومدها وجزرها وانخفاضها حسب متغيرات الخريطة السياسية الخارجية التي تحكم سوريا وسياستها)..
وثقافة الخوف هذه تجد تعبيرها الأبرز في موظف الرقابة المسحوق بلقمة عيش يدافع عنها بأسنانه حتى لو منع ألف كتاب ومجلة!!!.
خاص – صفحات سورية –