مديح الكتب: حين تغلق السلطات سجناً تُفشل ثورة!
بلال خبيز
(إلى يوسف بزي)
يحلو لقراء وكتاب وصحافيين مديح القراءة. معارض الكتب هي دائماً مناسبة للاحتفال بالقراءة وتعظيم أمرها وتمجيد فضائلها. وليس خافياً ان المعظم والممجد في واقع الامر هم الكتاب أنفسهم، الذين يتربعون في مرتبة أعلى من مرتبة القراء. على اي حال الكتاب أنفسهم هم قراء، أقله تبادلاً وتنافساً. فليس بمستطاع الكاتب ان يكتب في مواضيعه من دون اطلاع على ما يكتبه زملاؤه في الحقل نفسه، وغالباً ما يضطر الكاتب إلى البحث في حقول أخرى.
ليس في كل ما تقدم أي جديد. هذا في وجه من الوجوه مجرد تعيين لمحيط الواقعة. والرغبة في تعيين الواقعة تتصل اساساً بمحاولة تعيين الوظائف الاجتماعية والسياسية للقراء والكتاب في العصر الحديث، أو لنقل اصطلاحاً في ما قبل زمن العولمة.
يشكو الناس كثيراً هذه الأيام من انصراف الجيل الشاب عن القراءة، وانصرافه تالياً عن الكتابة. بل ان بعض الشباب اليوم يكتبون شعراً في سرهم، ولا يرغبون في نشر ما يكتبونه، ربما لأنهم يبحثون عن طرق أجدى لإنفاق الوقت. والحق ان متقاعدي الغرب، اميركا على وجه الخصوص، هم أصحاب أكثر الكتب مبيعاً. ثمة لائحة طويلة من كتاب التقاعد، تبدأ بالقادة السياسيين ولا تنتهي برجال الاقتصاد وزوجات نجوم كرة المضرب او لاعبي الغولف المميزين. كل امرئ له قصته المثيرة، لكنها لا تصبح قابلة للنشر والتعميم من دون حكاية نجاح. على هذا يحق لآلان غرينسبان ان يكتب كتاباً في نهاية خدمته، لأنه اختتم حياته المهنية بنجاح منقطع النظير. والأرجح انه كان لينصرف عن نشر ما كتبه لو ان حادثة الانهيار المالي لمصرف ليمان براذرز حصلت قبل خروج كتابه من المطابع، خصوصاً بعدما دعي لجلسة استماع امام لجنة برلمانية بداعي مساءلته عن سياساته الاقتصادية، ومدى مسؤوليته عن الترويج لسياسات اقتصادية هشة الأسس ادت في ما أدت إليه إلى زلزال 15 ايلول من العام 2008. فما كان منه إلا ان اعترف بأنه لا يعرف الأسباب التي ادت إلى الانهيار، وان الوسائل التي كان يتبعها على الدوام او يوصي باتباعها كانت تأتي بنتائج جيدة.
ليس المشاهير المتقاعدون وحدهم من يكتب اليوم. ثمة اصناف لا تحصى من الكتاب. لكن الإشارة إلى هؤلاء المشاهير المتقاعدين توحي ببعض وظائف الكتاب اليوم. فالمتقاعد الناجح يكتب ليدل الأجيال الشابة على بعض اسرار نجاحه، وتالياً فإن كتابه ليس موجهاً لأقرانه من المشاهير، او من هم أفهم منه واعلى سلطة. والحال، لم يعد الكاتب هو “العبد الفقير، الحقير، الذي يكتب لمن هو أعلم منه وافهم واهم، على مثال ما كان يكتب كبار الفلاسفة كتباً للأمراء والملوك، بوصف هؤلاء قراءهم. وتالياً لا يكتب الكاتب المتقاعد لمن تجاوزوا سن الشباب، ويخوضون في الحياة محاولين ملامسة مقابض ابواب النجاح والشهرة. ذلك ان هذه الشريحة من الناس نادراً ما تقرأ، وان قرأت فبغرض التسلية وتزجية الوقت لا أكثر. إنه يكتب للأجيال الشابة التي لم تدخل عالم الأعمال بعد، وهي الاجيال التي ما زالت على مقاعد الدراسة، والتي يفرض عليها ان تتعامل مع الكتب قراءة واقتناء، بحسب قوانين الجامعات الساري حتى اليوم.
هل يفترض بمثل هذا النوع من الكتابة ان ينال المديح والتقريظ الذي تناله الكتابة الإبداعية عادة؟ الأرجح ان القراء في العالم كله، يفضلون الإجابة بنعم، فالقراءة كنشاط إنساني محمودة في كل الأحوال. وإن كان ثمة من يرغب من القراء دائماً في حذف بعض الكتابات من لائحة التقريظ: هذه سلسلة تبدأ بالروايات الجنسية الرخيصة، وتمر على البوليسية ايضاً لتصل إلى الروايات المنتشرة. على اي حال، لن يسع اي كان ان يصنف ستيفن كينغ روائياً مميزاً من الروائيين الكبار في العالم، لأنه يستهدف شريحة معينة من القراء. دائماً ستجد من يعترض على تصنيفه بين الكتاب المهمين المرشحين لجائزة نوبل. لكننا في حالة كينغ سنجد ايضاً من يدافع عن رفعه من كتاب الدرجة الثالثة إلى كتاب الدرجة الأولى. في حالات أخرى ومع كتاب آخرين، لن تجد من يدافع عن رفعهم إلى هذه المرتبة. بل ان احد كتاب هذه الفئة المشهورين، جون غريشام، يصرح انه الكاتب الأكثر مبيعاً، في بلد لا أحد يقرأ فيه. والحق ان هذا التصريح بليغ الدلالة. فإذا كانت روايات غريشام تباع بأرقام خيالية، فإن ثمة من يقرأها فعلاً. لكن وقوع غريشام في خانة الكتاب االذين لا يستوفون شروط الكتابة الآنفة الذكر، يجعل كتاباتهم مثل مائدة البخيل: درهم سكر وقنطار خشب. والحال فإن قارئ غريشام لا يقرأ، كما هي حال قارئ كينغ، لكن الأخير يختلف عنه بكونه اصبح مقروءاً من بعض القراء “المحترفين”. وأن يكون قارئ غريشام ليس قارئاً فإن قارئ غرينسبان أيضاً ليس قارئاً، ذلك انه ما زال يعيش في مرحلة من يقرأ كتب التعليمات. فقارئ غرينسبان قد يبقى قارئاً وقد لا يبقى. لكنه في فترة الدراسة، مضطر لممارسة هذا النشاط.
إذاً ثمة كتب وكتابات تشبه لافتات الشوارع او تعليمات الطيران. كتب يقرأها الجميع، بمن فيهم القراء المحترفون، لكنها لا تترك في المرء الأثر التي تتركه القراءة عادة. كتاب غرينسبان قبل سقوط نظامه الفكري الاقتصادي، كان يشبه قانون المرور، صارم وواضح وعلى الجميع ان يتعلم قواعده. ومن يفشل في التعلم يفشل في الربح. والحال نفسها تنطبق على الروايات السريعة والخفيفة، إنها تشبه نشرة أخبار الصباح، مع قليل من الإفاضة، حول موضوع محدد. وعلى الجميع ان يلم بطرف ما منها او حتى ان يعرفها عن ظهر قلب. “غريب: روايات جون غريشام التي تحولت افلاماً سينمائية اكثر عدداً من اعمال بول اوستر الكاملة! ”
القارئ إذاً هو من يصنع الكاتب، خصوصاً حين يكون القارئ نفسه كاتباً. والكاتب حين يصبح كاتباً، يحوز سلطة ما، وهي في بعض الأحيان والأماكن سلطة هائلة. إذ ما زال شعر محمود درويش يخيف سلطات الاحتلال الإسرائيلي في جانب منه، اكثر من تصريحات اسماعيل هنية أحياناً. لكننا والحق يقال نضرب مثالاً غير ذي أثر. لنقل ان شبح البيان الشيوعي جاب اوروبا من اقصاها إلى اقصاها، ولنقل ان فيلم 452 فهرنهايت، لفرانسوا تروفو كان مدحاً للكتابة والكتب. “اسم الوردة” ايضاً، فيلماً ورواية، هو قصة كتاب. وبطل رواية اخوة اليقظانيين هو مجرد كتاب لا نعرف محتواه بالضبط. كتاب للمعلم ارسطو تخاف منه سلطات غربية وعربية وتجهد لإتلافه، وقتل من يتبع تعاليمه. لكننا لا نعرف محتوى الكتاب، ونجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام قرائه: الذين يلخصون بعض ما جاء فيه، كل بحسب زاوية النظر التي ينظر منها. وأبلغ ما في رواية أخوة اليقظانيين دلالة، ان ثمة اشخاصاً على مدى العصور نذروا أنفسهم لحراسة الكتاب. هؤلاء ليسوا أكثر من عبيد الكتاب وحراسه الشخصيين. الكتاب الذي حين يحين الوقت، سيكون مرشداً للقادة ومقرراً في شؤون الحكم.
لكن الحديث عن الكتّاب والكتابة لا يستقيم من دون طقوس الكتابة والقراءة. الكتب الكبيرة كتبت في العزلات. ثمة غرامشي الذي كتب من سجنه، ولينين الذي كتب من منفاه، وكارل كاوتسكي الذي كتب من غرفته. الثوريون في العالم تعلموا الكتابة في السجون. كانوا في أغلب أوقاتهم مسجونين بإرادتهم او رغماً عنهم. يقول ريجيس دوبريه تعليقاً على هذه الواقعة: ان كتب الثورات تكتب في السجون، من لينين وتروتسكي إلى سيد قطب وعبد السلام فرج. في السجون والمنافي، وفي الغرف المقفلة والحقيرة، ولدت كتب الثورات وتعاليمها المرشدة. وإذا أراد المرء ان يعلم القرن العشرين بعلامة مميزة، ففي وسعه القول ان القرن العشرين هو قرن القراء وكتّابهم وكتبهم. حين تغلق السلطات سجناً تفشل ثورة.
طبعاً ثمة تاريخ متنوع للقراءة. لم تبدأ القراءة والكتابة بوصفها مقدمات ثورية، ومولدة قادة وثوار. والارجح ان حاجة القراءة ولدت في الوقت الفائض الذي كان يملكه النبلاء شرقاً وغرباً. شعراء العرب كانوا يقرضون الشعر أمام السلاطين الذين شكلوا على الدوام نقادهم وقراءهم في الوقت نفسه. وكبار فلاسفة الغرب كتبوا كتبهم الكبرى موجهة لقارئ واحد يكون على الأغلب واحداً من أفراد العائلة المالكة او الملك نفسه. ولطالما كان القراء اصحاب السلطات الحقيقية، مادياً ومعنوياً معاً، وجميعاً في آن. قد يكون انجاز كارل ماركس الأكبر أنه توجه إلى قارئ آخر لم يكن السلطان ولا الملك ولا أفراد الحاشية. لذلك، ربما، لم يُبع من رأس المال في طبعته الفرنسية الأولى أكثر من خمس وعشرين نسخة على مدى خمسة وعشرين عاماً. حتى ان الناشر يومذاك عمد إلى ارسال رسائل لبعض من ظن ان أمر الكتاب قد يهمهم يسألهم فيه إذا كانوا يقبلون بدفع اجور البريد ليهديهم نسخاً من الكتاب، فتمنعوا جميعاً. هذا كتاب لم يكن يساوي ثمن نقله، لأن المستهدف منه لم يكن القارئ المعتاد، اي النبيل المثقف وصاحب السلطة الذي يطلب من الكتّاب ان يكونوا مجرد مستشارين، بل قارئ آخر هو القارئ الذي صنع ثورات القرن العشرين.
هذا القارئ ما زال موجوداً وقائماً وحياً. اقله في بعض نواحي العالم التي تقع بلادنا ضمنها. لكن الثابت ان حلول عموم القراء محل اصحاب السلطان حرر الكتّاب من الخضوع لسلطات هؤلاء، لكنه اخضعهم لسلطات أشد قسوة واقل رحمة. وعلى نحو ما، تحول الكتّاب مادحي قراء غفلين بعدما كانوا مادحي سلاطين. والأرجح ان الواقعية السحرية التي سيطرت على بعض الأدب العالمي طوال عقود، شكلت أعلى درجات المديح وأشدها غلواً لهذا القارئ الغفل. بل ان هذا الضرب من الأدب امتدح القراء ومن لم يسعفهم حظهم في أن يصبحوا قراءً على حد سواء. فأخذت روايات غابرييل غارسيا ماركيز على سبيل المثال تكيل المديح للفقراء والمهملين وجعلت منهم موضوع الكتابة وهدفها من باب اول وقوتها الضاربة من جهة ثانية.
يروي ماركيز في سيرته المنشورة تحت عنوان، “عشت لأروي”، كيف عاش حياته في بلاد تشتعل. ثمة أحداث كثيرة يوردها في سيرته، لكن ما اود الإضاءة عليه يتعلق بأسلوب عيشه. الكاتب الذي ملأ صحف بلاده صخباً في ذلك الزمن كان يعيش عيشة البوهيميين، ليس لأنه يرغب بهذه المعيشة، بل لأنه كثيراً ما وجد نفسه لا يملك مالاً كافياً لينام تحت سقف يؤويه. لكن ماركيز الذي عاش كزاهد تقريباً، اي من دون التمتع بأي من الأساسيات التي نصت عليها شرعة حقوق الإنسان، لم يكن وحيداً في اسلوب عيشه هذا. بول اوستر في المفكرة الحمراء، يروي انه عاش شهوراً طويلة في الريف الفرنسي في منزل أحد اصدقائه المسافرين، لا يتناول غير حساء البصل، لأنه وجد في المنزل نفسه شوالاً من البصل. وحيث انه لم يكن يملك مالاً يمكنه من شراء الطعام والشراب، أكل بصلاً حتى اصبح كاتباً. الحكايات المماثلة أكثر من ان تحصى. لكن الغريب في هذا كله، ان الكتّاب وهم يكتبون سيرهم هذه، لا يجدون سبباً للشكوى. في حين ان الجوع او العري او البطالة تعتبر اسباباً مباشرة لاتخاذ قرارات حاسمة لدى شخصيات رواياتهم. على اي حال، نظلم بول اوستر لو شملناه بهذا التعميم. ذلك أنه بين الكتاب الذين وردت أسماؤهم في هذه العجالة هو الأميركي الوحيد. أي انه الكاتب الوحيد الذي يولّد شخصياته من العزلات والظلمة التي يمكن القول انها أميركية بامتياز.
والحال، يعيش الكاتب في عزلته وفقره وعوزه، راضياً وفخوراً أحياناً، لكنه لا يرضى بمثل هذا المصير لقرائه. ذاك انه، مرة أخرى، يحسب او يظن ان الأفكار التي تحرك العالم هي الأفكار التي تولد في المعازل. لكن شأن القارئ وحاله لهما صعيد آخر. فالقارئ هو السلطة الفعلية، وكل قارئ في معنى ما هو صاحب سلطة، لأنه غفل ومن دون اسم. وبخلاف الكاتب الذي يبني سلطانه على هشاشة استدرار الإعجاب بما يكتبه، فإن القارئ يستطيع من دون ان يرف له جفن ان يهدم الأمبراطورية هذه برمتها وان يجعلها خراباً في طرفة عين.
في حالنا الراهنة، ثمة قراء يردون على كتاب يقرأون لهم ثم يعلنون عن تفاهة وسطحية ما قرأوا. وعلى عكس الكاتب المعدوم السلطات والذي يستجدي رضى القراء، فإن القارئ يملك طوال الوقت سيفاً يسلطه على رقبة الكاتب: هذا المقال سطحي، وهذه الدراسة لا تساوي ثمن الورق الذي طبع عليها، وأخيراً، وحين يكون الأمر متعلقاً بأحوال سياسية مثلما هي حالنا في لبنان والبلاد العربية، يصبح الأمر اكثر خطورة: هذا الكاتب مأجور، وهذا المقال يخدم العدو الإسرائيلي، وهذه الدراسة تريد تيئيسنا من النضال وتبخيس قيمة انتصاراتنا. وتالياً يواجه الكاتب في هذه الحال، ما يشبه حالة فرانكشتاين وصانعه. فالكتّاب انفسهم هم من صنعوا سلطة القارئ المعاصر، لكنهم من دون شك اصبحوا ضحية من ضحايا صولجانه الغاشم.
على اي حال، هذا يحدث عندنا فحسب. ما زالت القراءة والكتابة من اعمال السلطات في هذه البلاد. وما زالت ايضاً صانعة ثورات ومدارس فكرية ونضالية تولد في المنافي والسجون. لكن العالم تغير. ثمة رهبان جدد ومنفيون ومعزولون لكنهم قطعاً ليسوا كتاباً ولا قراءً والأرجح أنهم من سيشكل جيل الثورات المقبلة. وهي ثورات قد تكون اقل سفكاً للدم، لكنها من دون شك أكثر عنفاً مما اختبرته البشرية بكثير. إنما هذا حديث آخر.
المستقبل