عن طبيعة الصراع الحالي
مازن كم الماز
تعود هستيريا البقاء من جديد لتسيطر على أسماعنا و وعينا , لا تنقص أمريكا و لا الأصوليون الرغبة و الشراسة أو الهمجية المطلوبة لخوض الصراع , و تخدم شراسة الخصم و همجيته هنا في إيصال قمع البشر إلى مستويات أعلى فأعلى , هكذا فإن شراسة الصراع تخدم غرضا أساسيا لدى طرفيه , و هو دفع الناس بعيدا عن التفكير في مشاكلهم و محاولة حلها بإغراقهم في البحث عن البقاء وسط الصراع الشرس للسيطرة على عالمهم و وسط الأزمات التي تتلاعب بحياتهم التي خلقتها القوى السائدة . في حرب مشابهة دارت في سوريا أواخر السبعينيات و أوائل الثمانينيات بين النظام و القوى الأصولية سجلت المعارضة الديمقراطية السورية يومها موقفا تاريخيا , تمثل في رفض تبرير قمع النظام بحجة المواجهة مع الأصوليين و رفض العنف الأصولي في مواجهة النظام كوسيلة غير ديمقراطية في خدمة غاية غير ديمقراطية هي استيلاء نخبة تعتبر نفسها مخولة بحكم البشر رغم أنفهم على السلطة , دعت المعارضة السورية اليسارية و القومية يومها إلى مخرج للأزمة يقوم على حرية الشعب أي إطلاق الديمقراطية للشعب في مواجهة قمع النظام و عنف معارضيه , و دفعت ثمن هذا الموقف سنوات طويلة من عمر أعضائها وراء قضبان سجون النظام . كان الصراع يومها مريرا أيضا و جرى وسط أزمة اقتصادية حقيقية ضربت سوريا لكن النظام تمكن في النهاية , بمساعدة غير مباشرة من همجية عنف الأصوليين و تبريراته الطائفية , من إنجاز استيلائه النهائي على المجتمع و إلغاء وسائله الدفاعية ضد تغوله المنفلت . إن النتيجة الأساسية لفوبيا أو رهاب البقاء الذي يستفزه إعلام القوى السائدة و قمعها المتناغم مع عنف الأصوليين هو تهميش الناس و قضاياهم و إنتاج رضوخهم مهما بلغت المعاناة التي تلف حياتهم أو في واقع الأمر انسحابهم النهائي من الفعل لجيل قادم على الأقل . في الحقيقة إن جزءا أساسيا من التهديد الذي استخدمته وسائل إعلام الإمبريالية كان وهميا أو مبالغا فيه على أقل تقدير , يكفي أن نذكر أن ضحايا الأمراض القابلة للعلاج في أمريكا و أوروبا نفسها يتجاوز بأعداد هائلة ما يمكن لأية أعمال إرهابية أن تسببه , خاصة بين الفقراء و المهمشين اجتماعيا , لكن الطبقات السائدة استخدمت هذا الخطر و ضخمته لخلق حالة من الخضوع العام و لتشدد من قبضة أجهزتها على البشر , لتلغي فكرة المعارضة و الاحتجاج و لتروج لفكرة أن كل الطبقات هي في قارب واحد في مواجهة خطر مشترك لكن بحيث تبقى قيادة هذا المركب بيد الطبقات السائدة , إن هستيريا البقاء التي أثارتها وسائل إعلام الطغمة المالكة و الحاكمة في الغرب الرأسمالي هي أساس هجومها على مكتسبات شعوبها بالذات خاصة في مجال الحريات و اقتسام أكثر عدالة لنتاج عمل الملايين و نهبها . لكن هذا الخطر الذي ضخمته وسائل إعلامها استخدمه الأصوليون بشكل ذكي تماما ليسجلوا فشل تلك القوى المهيمنة على العالم في استبعاد خطرهم التافه بالمقاييس الإستراتيجية و الهائل , بشكل غير اعتيادي , وفق توصيف إعلام القوى السائدة نفسها , فمثل هذا الخطر لن يمكن القضاء عليه أبدا بالإمعان في نهب الشرق و إذلال أبنائه سواء مباشرة أو بشكل غير مباشر عن طريق الديكتاتوريات الأشبه بالديناصورات في عالمنا العربي , لكن ليس أمام الإمبراطورية أي بديل , فأي بديل آخر يعني التراجع , ليس أمام الأصوليين , بل أمام البشر أنفسهم , ضحاياها , سواء في مجتمعاتها أم في المجتمعات التي تحافظ على تخلفها بواسطة منظومة النهب العالمي . لهذه الحرب وجه آخر , فالإمبراطورية غارقة في أزماتها , لا يفوت أحد هنا الشبه الغريب بين غورباتشوف و أوباما , جاء كلاهما في فترة أزمة عميقة في النظامين و اعتبر كلا منهما أن هدف سياساته هو إصلاح النظام رغم أنها انتهت لتدمير النظام نفسه في الحالة السوفيتية عندما تبين أن النظام كان عصيا على الإصلاح , و أن كلا منهما مخطئ في سياساته على أقل تقدير أو معادي للنظام , غورباتشوف بالنسبة للمؤسسة الحزبية و العسكرية و الدولتية البيروقراطية و أوباما بالنسبة للمحافظين الجدد , و قد لعب غباء هؤلاء السياسيين في روسيا الدور الأبرز في انهيار النظام , و يملك المحافظون الجدد ما يكفي من الغباء للقيام بدور مشابه في الإمبراطورية الأمريكية يتبدى في هجومهم المتواصل على أوباما و كل شيء في العالم خارج الإمبراطورية التي أقاموها منذ عهد ريغان , الذي يستخدم أسوأ ما في الترسانة العنصرية و حتى الفاشية من تهم و عبارات و تبريرات . لكن القضية الأساسية يتمثل في قدرة إدارة أوباما على تطبيق سياسات كنزية قادرة على تجاوز الأزمة و في قابلية المؤسسات التي أنشأها المحافظون الجدد منذ ريغان و التي قامت على إلغاء كل القيود أمام رأس المال لتحصيل الربح مقابل أي ثمن على تطبيق هذه السياسات . كانت النيوليبرالية ثورة النخب المالية و البيروقراطية و الاقتصادية و حتى الثقافية المرتبطة بها ضد النظام الكينزي القائم على العقد الجديد و قد عمل منذ بداياته ( منذ أيام صعود تاتشر و ريغان الأولى ) على تدمير النقابات و أية منظمات أو مؤسسات يمكن للجماهير أن تستخدمها للدفاع عن نفسها في مواجهة تغول رأس المال , دمرت هذه السياسات إلى حد كبير القدرة على تطبيق سياسات إصلاحية من قبل المؤسسة القائمة على رأس الإمبراطورية , فإن هذا سيعني أنها ستنقلب ضد ذاتها , و ثمن هذا قد يكون باهظ جدا . على الجهة المقابلة لا يمكن لعالمنا العربي أن يتحول إلى إمارة طالبان كبيرة , و لو أنه من الممكن أن تستولي قوى أصولية على السلطة في ظل عزلة القوى اليسارية و الحداثية عن الشارع و تحول أغلبها إلى مجرد تابع إما للأنظمة القائمة التي أصبحت تشبه ديناصورات لم تنقرض ليس بسبب مهارتها و مزاياها و حذاقتها بل لأن مرضها العضال قد انتقل إلى المجتمع و لأن إعلان موتها ينتظر ولادة حياة جديدة في مجتمعاتنا التي تمكنت هذه الأنظمة من إدخالها في حالة ركود أو كمون طويل , أو للنظام الرأسمالي العالمي الذي يغطي نهبه و قمعه بمزاعم الحداثة أو بأموال تستطيع ضم جزء هام من النخب المثقفة و المسيسة إلى مؤسسات المرتزقة التي يستخدمها , و قد يحدث هذا استنادا إلى شعبية حقيقية كما جرى في إيران 1979 لكن هذا يختلف أولا عن تحول مجتمعاتنا إلى إمارة طالبانية كبرى ( و هو خيار شبه مستحيل فعلا على الأقل بالنسبة لأغلب مجتمعاتنا ما عدا بعض البؤر التي قويت فيها القوى الأصولية و نفوذها غالبا بدعم و تحريض من الدولة القائمة و من ورائها النظام الرأسمالي العالمي كاليمن مثلا و أفغانستان ) و ثانيا لا يعني هذا نهاية لأزمة هذه القوى فالخلاص من القوى الشيطانية و فرض النظام المقدس يشكل البداية الحقيقية لأزمة هذه القوى , التي عليها أن تنتظر عندها دعم السماء لحل أزمات أرضنا و خاصة تلك الناتجة عن سيطرة تحالف البازار ( أو رأس المال المحلي ) مع بيروقراطية السلطة مع المؤسسة الدينية ( كما في إيران و السودان و مؤخرا العراق ) . لا يستطيع اليسار أن يتخذ نفس موقف المعارضة السورية بين النظام و الإخوان , إن انحطاط اليسار الستاليني أكثر من منطقي , إنه رغم استمراره في ممارساته الشمولية ضد أتباعه أساسا لا يشكل الملجأ الممكن لمناهضة الإمبراطورية و هو إما أن يمارس المديح للقوى الأصولية و الأنظمة التي تناهض هذه الإمبراطورية بما في ذلك أفكارها وممارساتها الشمولية أو أن يكتفي بالترويج لذكريات الماضي على أنه العهد الذهبي لمقاومة الإمبراطورية , أما اليسار المتلبرل فهو منفعل أيضا بما يجري , ليس أكثر من قوة تبرير إيديولوجية فقط عزلاء في مواجهة الشارع الذي يصمها بالعمالة للغرب و هو لا يرغب بفعل أكثر من التلاسن مع الأصوليين و بقايا اليسار الستاليني و الجديد , أما اليسار الجديد فهو ضعيف جدا و ذلك أساسا لأنه لم يمارس بعد نقدا جذريا كافيا لمرجعياته و ممارساته و أساليبه و بناه , لكن قضية دفاع الناس عن أنفسهم و عن حياتهم وحقوقهم ليست قضية حزبية أو قضية تنظيمية , إنها أساسا تتمثل في فضح هستيريا البقاء و همجية طرفي الصراع على عالم يصنعه ملايين البشر و يملكه و يتحكم به و يتنافس عليه عدد محدود جدا من السادة , في المشاركة الفاعلة في الدفاع الإيجابي ضد أي قمع و قهر واقع على الناس من أي مصدر كان , في فضح ثقافة القمع و القهر نفسها دون هوادة أو مساومة……
خاص – صفحات سورية –