فلسطين و النظام العالمي الجديد
مازن كم الماز
مشكلة النخبة المثقفة أو المسيسة أنها لا تفهم , مثل الناس البسطاء , الأكثر منها بساطة و سذاجة فيما يتعلق بتفاصيل الحضارة الغربية أو الرأسمالية الغربية سواء التقنية أو الفكرية أو السياسية ,أن إسرائيل ليست فقط جزءا أصيلا من ذلك النظام الرأسمالي العالمي , أو مجرد حليف إستراتيجي لمركزه الأمريكي , إنها أكثر من ذلك , فهي بالتحديد صورة أخرى عن أمريكا , نسخة مصغرة لكنها تحتفظ بكل تفاصيل الصورة الأم . لم و لن توجد مجموعة بشرية تشبه مؤسسي أمريكا الراهنة , أولئك الأوروبيين المنبوذين و الفارين من الفقر و الحاجة و الاضطهاد , مثل أولئك اليهود الذين جاؤوا إلى فلسطين في الثلاثينيات و الأربعينيات من القرن العشرين , في كلتا الحالتين هناك مجموعة من المطاردين المنبوذين الباحثين عن عالم أحلامهم الذي تزواج فيه بشكل غريب البحث عن الذهب بالإلحاح على قضية الحرية , و لا يوجد مكان مورس فيه استئصال السكان الأصليين بهذه الهمة كما جرى في فلسطين و ما أصبح يسمى بأمريكا , إن استئصال 160 مليون هندي أحمر ( أو من السكان الأصليين لأمريكا الحالية ) كان بكل وحشيته عملا ضروريا في عملية البحث “المقدسة” و المحمومة عن الذهب و عن واحة أمان من اضطهاد المؤسسات البطريركية الأوروبية السياسية و الدينية , و التي ما تزال متواصلة بأساليب أكثر ذكاءا و أقل تكلفة سواء بالنسبة للباحثين عن الذهب أو لمن تصادف وجود ذلك الذهب في أراضيهم , أما عنف الدولة الصهيونية ضد الفلسطينيين و جيرانها عموما فهو ليس إلا استنساخ آخر للعنف الأبيض ضد الهنود الحمر , و هو مثل العنف الأبيض ضد الهنود الحمر محكوم بغاية لا لبس فيها , استئصال صاحب الأرض . لا ريب أن المجتمع الذي أقامه أولئك المنبوذين اتسم بعدة صفات جعلته يبدو مغريا و جديرا بالإعجاب , حتى ربما لأول ضحاياه أي الهنود الحمر أنفسهم . إن نجاح هؤلاء المستوطنين في بناء عالم مزدهر بالنسبة لقسم كبير من المجتمع و بناء مستوى غير مسبوق من الحرية اضطرت فيه النخب الصاعدة لمغازلة الإنسان العادي و إيهامه بأنه حر , سواء في أمريكا أو إسرائيل , مثير بلا شك للإعجاب , إلى جانب الهمجية و الشراسة الاستثنائية في خوض الحروب ضد الخصوم , الشرط الضروري للانتصار في الحروب التقليدية , الأمر الذي يمنح هذه الحضارة أو النظام قدرة أسطورية , خاصة في عين ضحاياه , و في أعين أفراده المنتمين إلى الطبقات الاجتماعية الدنيا . الأنظمة العربية , بما في ذلك ممثلي الطبقات السائدة و المتحالفة معها , تعي تماما ما الذي تفعله , عندما تجبر الناس على الرضوخ لحكم الإمبراطورية أو النظام الرأسمالي العالمي من خلالها , لكن جزء هام من النخبة المثقفة يفعل ذلك بشكل غير واع , إنها تعتقد أن القضاء على مقاومة الإمبراطورية هي الخطوة الأخيرة قبل الانضمام إليها . هكذا أساءت هذه النخبة قراءة عولمة النظام الرأسمالي في كل مكان و شد أطرافه إلى المركز بوشائج التبعية , فانضمام الأطراف إلى الإمبراطورية , بالقوة أو بالخضوع , لا يعني أبدا أن تنضم إلى مركز الإمبراطورية . تماما كما أن الشرط الأساسي لوجود الدولة هو انقسامها بين حاكم و محكوم , الذي لا يعني تساويهما بأي حال من الأحوال في كل أشكال الحكومات المعروفة , فإن الشرط الأساسي لوجود الإمبراطورية واستمرارها هو تبعية الأطراف للمركز . و لذلك تشكل النخبة المثقفة أبرز مروجي الهوية التوليتارية أو الشمولية للإمبراطورية , فالإمبراطورية لا تسمح , و لا يمكنها أن تسمح , بتعدد الهويات فيها , إن الهوية الوحيدة الممكنة هي هوية المركز فقط لا غير , و هذه الوحدانية غير قابلة للنقاش دون تحطيم منطق تبعية الأطراف للمركز , دون تحطيم مبدأ عدم تساوي المركز و الأطراف أي دون تدمير الإمبراطورية الفعلي . و لهذا يصبح كل شيء ينتمي لمركز الإمبراطورية حقيقي , فعلي , متحضر , هذا التخريف يجري في مواجهة حضارة أو نظام عالمي يمكن التأكيد ببساطة أن إنسان الكهف كان أكثر تحضرا و إنسانية منها , حتى الإنسان في الأطراف يصبح مستحقا “لبعض حقوقه” , فقط لأنه يشبه الرجل الأبيض القاطن في مركز الإمبراطورية أو الإنسان – النموذج أو السوبرمان الموهوم , و لذلك لا تعرف هذه الحقوق بالبشر , سواء في المركز أم في الأطراف التي تنتمي إليها تلك النخب , بل بنموذج الإمبراطورية , أو لنكون أكثر دقة , مركزها الحاكم . و كما تنسب للدولة تلك الصفات الأسطورية و تعتبر خضوع الناس لقمعها شرطا ضروريا للحضارة , تنسب للإمبراطورية صفاتا أسطورية و تعتبرها ممثلة للتمدن الإنساني و تعتبر مقاومتها مجرد عمل يدل على التخلف , و تفسر الحداثة تفسيرا أحاديا تساويها بحداثة السادة , القوى المهيمنة في مركز النظام الرأسمالي و تستبعد , إن لم تدن و تتهكم من , الحداثة الغربية الأخرى , الشعبية أو المعارضة أو المنتقدة أو المعادية لحداثة السادة . تصبح الغاية هنا من الفعل الثقافي أو السياسي هو محاولة تقليد نموذج المركز , و كلما أوغل أفراد النخبة في تقليد تفاصيل حياة المركز بصورة شكلانية بحتة كلما اعتبروا أنفسهم أكثر تحضرا في مواجهة من يرفض تقليد الصور القادمة من مركز الإمبراطورية , الأمر الذي يذكر بتعريف التحضر السائد الذي يعني التعامل مع آخر منجزات المركز التقنية و الفكرية و استهلاكها دون أن يحمل هذا أي بعد ثقافي أو فكري أكثر من واقعة الاستهلاك نفسها . الخطير في الموضوع هو الموقف من الفلسطينيين بالتحديد , لأن هذه النخبة تراهن , و تدعو الجميع للرهان على حسن نوايا الإمبراطورية , أقصد مركزها , و تعلن أن مزاياها ستدفع بهذا المركز عاجلا أم آجلا للتدخل لإنهاء مأساتهم , إنها تصر على أن يتقبل الفلسطينيون مصير الهنود الحمر و هم يغمضون عيونهم أو حتى و هم يلهثون بمديح قتلتهم , هنا يبدو أن مشعوذي الهنود الحمر يملكون أفضلية تاريخية و إنسانية مقارنة ببعض مثقفينا و مثقفي أطراف النظام الرأسمالي العالمي عندما اختاروا المقاومة من خلال ممارسات روحانية غير مجدية لكنها تحمل نبض المقاومة من أجل البقاء , فالممكن الوحيد للهنود الحمر في الأمس أو للفلسطينيين اليوم بالنسبة للإمبراطورية هو أن يختفوا بعيدا عن أرض أجدادهم , عندها فقط يمكن أن يستحقوا بعض الإحسان من جلاديهم , الأمر الذي قد يكون الشرط الوحيد الممكن للسلامة في عالم تحكمه الإمبراطورية من أقصاه إلى أقصاه . يصبح هذا الإحسان هو تعريف النزعة الإنسانية , تماما كما عرفت الطبقات السائدة و ما تزال تعرف النزعة الإنسانية بإحسانها المباشر لضحاياها . هذه ليست دعوة للشعوذة الفكرية و السياسية و لا لإحلالها مكان الرؤية العقلانية لما يجري . على العكس تماما فلدينا الكثير مما يجب تحطيمه و تدميره دون رجعة , بل دون رحمة , لا لنقترب من نموذج المركز , بل لنخلق نموذجا أكثر إنسانية , أشمل وأصدق و أكثر اقترابا من عالم البشر الحقيقي , من عالم أحلامنا المفقود . على العكس تماما فلم يكن مصير شعب بأكمله , على أرضه على الأقل , يرتبط بانتصار القوى القاعدية الجماهيرية المناهضة للإمبراطورية في كل مكان من هذا العالم من مركز الإمبراطورية نفسها إلى أبعد أطرافها المهملة , كما هو حال الشعب الفلسطيني اليوم .
خاص – صفحات سورية –