أزمة الحداثة العربية أزمة الرئاسة؟
عمّار ديّوب
لأزمة الحداثة العربية أسباب كثيرة: اقتصادية واجتماعية ودينية وثقافية واستعمارية، ولكن تجديد الرئاسات العربية لنفسها بصفة دائمة قد يكون من الأسباب السياسية العميقة لفشل الحداثة العربية؛ فالحداثة تتطلب أوّل ما تتطلب: الحرية الفردية وحرية الأحزاب السياسية والحريات العامة. ما يقف عائقاً صاداً لها، ويخمّد الحركة والتطور والإبداع، هو تجديد الزعماء العرب لأنفسهم وكأنهم الذات الإلهية، فالأخيرة مطلقة الوجود، وهم بديمومتهم كذلك مطلقو الوجود، وفي إطلاقيتهم هذه ديمومة التخلف والتجزئة وتكرار المكرر وإفناء الإمكانية نحو التطور. فماذا يعني، النجاح في الانتخابات الرئاسية بنسبة تسعة وثمانين في المائة، كما هو الحال في معظم الدول العربية، ألا يعني أن هذه الدولة دون مشكلات تذكر، فهل هي خالية بالفعل من الأزمات؟ وماذا تخفي نسبة أقل من خمس بالمائة لبقية المرشحين. بالتأكيد ودون كثير من التفكير، سيقول أي عاقل: أن هذه الدولة محكومة بنظام استبدادي وأن الانتخابات مجرد إجراء صوري يجدد فيها الرئيس لنفسه البيعة، وباسم الانتخابات، ولايته الخامسة وربما ستدوم ولايته للأبد، لولا البيولوجيا التي لها تاريخ ولادة وتاريخ موت، وهذه نشكر عليها الرحمن وقوانين الطبيعة، لما تغيّر زعيم عربي في مشرق العرب، وكذلك مغربه؟ قد نفهم أن الملوك العرب لا يتغيرون، فهم ملوك والملك في عالمنا، فوق الدولة والدولة تنسب له، وهؤلاء منسجمون مع أنفسهم إلى النهاية، فهم لا يُجرون انتخابات ولا من يحزنون، ولا يقولون أمراً ويتراجعون عنه وهذه فضيلة تسجل لهم، فهم واضحون وضوح الشمس. أما من يقول عن أنّ نظامه رئاسي أو برلماني أو شعبي، ويحرص على تذكير الشعب بالديمقراطية والتطور في طالعة النهار ومغربه، فإن أبسط إنسان سيستجيب لهم وسيعمل عقله وسيفكر ويقول: لماذا يتحول الرؤساء إلى ملوك، ولن يجد جواباً سوى أنهم ملوك باسم رؤساء، فيا حبذا الملوك الواضحين على الرؤساء الغامضين؟
الحداثة العربية، لا تنفك تتأزم، مرة بفشل مشروعها القومي، ومرة بتعثر صعود مشروعها الليبرالي وطوراً بتجديد الزعماء العرب لأنفسهم، وأخيراً ببروز الجهادية الدينية، التي وللمفارقة تتزامن مع ذلك التجدّد. فما الرابط بينهما، هل هما في تجدّدهما يعبران عن أزمة الحداثة العربية، هل هما مانعان لتجددها وتطورها. الواقعية السياسية والعقلانية تربط بين الظاهرتين. وإذا كان الأمر كذلك، فكيف نفسر ذلك التزامن. نقول في هذا، إن ديمومة الزعماء العرب في السلطة هي التي شهدت صعود التيارات الطائفية في العالم العربي، وهي نفسها التي شهدت تراجع المشاريع الأخرى، وهي ذاتها التي شهدت تدمير منظومة قيم العمل وتعميم الفساد في أركان الدولة العربية، وشهدنا فيها فشل التعليم الوضعي والإنساني وتقدم التدين السياسي والخرافات وعقلية القطيع وانسحل الفرد ككيان وكعقل وكإبداع، ولم يعد العقلاء عقلاء في عالم الجنون الصداح هذا، فهم أفراد منبوذون، ملاحقون، تكاد أرجلهم تمل مراجعة فروع الأمن لأي ملاحظة أو مقال أو تصريح وربما بسبب حلم أتاهم في نومهم غير الهنيء…
إذا كان الأمر على هذا النحو، وربما لو أخذنا أي نظام عربي، ودققنا في سجونه أو في الحريات العامة أو مقدار الحرية في التعبير للأحزاب، لفهمنا أن هذه الدولة كما أخواتها العربيات، تشهد انتهاكات وممارسات لا عقلانية خارجة على أي نظام عقلاني ممكن، وبالتالي، أزمة الحداثة العربية، أصبحت أزمة دائمة ومزمنة وبديمومتها على هذا النحو قد تفضي حصراً إلى حروب أهلية. ألم تشهد الأنظمة العربية حروبا أهلية متعددة الأشكال ومنها حروب دموية حقيقية. وأقول هنا إن حجم الانتهاكات ودخول الناشطين السياسيين في كل نظام عربي إلى السجون ومراكز الاعتقال والمراجعات الأمنية وغيرها الكثير، يقارب حدوث حروب أهلية فعلية، فهل نتجنى عليهم، لا أعتقد ذلك أبداً.
الآن لدينا ثلاثة أنظمة عربية مرشحة لكارثة وأزمة تجدّد السلطة، مصر واليمن وليبيا، وهذه الأنظمة كلها رئاسية، وكلها تعاني من حكاية السلطة والتوريث. الدولة اليمنيّة تكاد تنقسم على نفسها فالجنوب محروم من حقوقه منذ عقد الوحدة ويشارف على الانفصال، وها هو زعيمها يخوض الحرب السادسة ضد صعدة، وهي مرشحة للتحول إلى قاعدة مركزية لتنظيم القاعدة بارتباطه مع القبيلة كما حال أفغانستان، حيث البشتون والطالبان والقاعدة متحالفون. وقد شهدت مصر، أم الدنيا، أكبر نسبة إضرابات منذ خمس سنوات، ومشكلة التوريث تؤرق كل الحركة السياسية والشعب المصري. وفي ليبيا، تُسلّم الملفات لسيف الإسلام القذافي، وتعد البيعة له باسم اللجان الشعبية.. مصر وليبيا شهدتا ثورات شعبية، تكفل زعماؤها لاحقاً بتحويلها إلى ثورات شخصية. واليمن أنجز ثورته بمساعدة مصر ذاتها عام 1963. وها هي الدول الثلاث الآن، تشهد أزمات بنيوية تطال كل بنية المجتمع، وبالتالي، لن يكون هناك مستقبل للعالم العربي، أكثر من حال لبنان في أزمته المتجددة عند كل حادث طريق أو تصريح طائفي ما. المفارقة أن لبنان هو الوحيد في العالم العربي، الذي يشهد تغييراً في زعامته، فهل هذا الواقع يمكن أن يدرك عقلانياً، أعتقد أن اللاعقلانية هي النظام العقلي الوحيد القادر على إدراكه. ثم ألسنا بذلك، نقرّ أن الدين السياسي هو المشروع الوحيد الممكن في عالمنا العربي. وأخيراً، ليست بداية الانتخابات الصورية مع زين العابدين وبالتأكيد ليست النهاية معه؛ فما أتعسنا مع هذه البدايات والنهايات.
‘ كاتب سوري