صفحات مختارةعبدالله تركماني

أخطر الأوهام التي يجب أن نتخلص منها (*)

الدكتور عبدالله تركماني
بعد النكبة العربية المتجددة والنتائج المخزية للتنمية الإنسانية على مدى العقود الماضية بات واضحاً وضرورياً حاجة أمتنا العربية إلى مواجهة الذات بمصداقية وعقلانية،‏ من أجل تجاوز السلبيات التي تنتشر في بنيانها السياسي والاقتصادي والاجتماعي‏ والثقافي،‏ والعمل بكل جهد مخلص لإصلاحها بما يحقق الصالح العربي العام‏،‏ ‏وحتى يمكن التعاطي المجدي مع المخاطر التي تتعرض لها أمتنا العربية اليوم‏‏ وما قد ينتج عنها من تداعيات. فطوال العقود الماضية قاد التناقض بين الحاجة إلى استراتيجية عربية للقوة والعجز عن وضعها موضع التنفيذ إلى العجز عن بلورة أية استراتيجية، فمنذ خمسينيات القرن العشرين نستعيد الخطابات نفسها وأنواع السلوك نفسها، ونعجز عن بلورة وعي حقيقي، أو عن القيام بنقد ذاتي يساعد على تطوير بذور وعي نقدي للواقع ومتطلبات تقدمه.
فثمة ثقافة بكاملها تحتاج إلى المساءلة، بمرجعياتها ومؤسساتها ونماذجها ورموزها وإعلامها وخبرائها، هي ثقافة المكابرة وتبجيل الذات والثبات على الخطأ والتستر على الآفات والهروب من المحاسبة، فضلاً عن القفز فوق الوقائع والخوف من المتغيّرات والتعاطي مع المستجدات بالقديم المستهلك، بل بالأقدم أو الأسوأ من المفاهيم والتقاليد أو الوسائل والأدوات والمؤسسات.
إننا نتهرب من تحمّل المسؤولية وإلقائها على الغير، ونتحدث عن المؤامرات التي تدبر من الخارج لتغطية العجز عن التدبير في الداخل، ولا نقر بالهزيمة لكي نتعلم من الأخطاء ونستفيد من التجارب والشواهد. هذا دأبنا في مساعينا القومية: نتستر على الآفات التي هي أصل المشكلة، نرجئ فتح الملفات التي تحتاج إلى الدرس والنقد، نعمل على تحصين الأنظمة التي تنتج الهدر والفقر والقهر والعبودية والفساد.
إنّ القضايا التي ينبغي أن تكون محور تفكيرنا اليوم كثيرة جداً وتكاد تحتل جميعها مرتبة الأولوية، وهنا مصدر الصعوبة التي لا غنى لنا عن أن نواجهها بشجاعة. ونكتفي، هنا، من هذه القضايا بالعناوين الآتية، التي نقدمها في صيغة تساؤلات: ماذا أعددنا لكي نواجه، مع الشعب العراقي، حقبة ما بعد الانسحاب الأمريكي، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وخططاً للحاضر والمستقبل ؟ ما هي الدروس التي ينبغي استخلاصها من مآلات القضية الفلسطينية، بدءاً من مراجعة نقدية للماضي، وصولاً إلى رسم خطة للحاضر والمستقبل ؟ هل تتوافر شروط حقيقية لصياغة مشاريع ديموقراطية للتغيير، تحول دون احتمال قيام مشاريع ظلامية أو حروب أهلية تغرق بلداننا في المزيد من التأخر والمزيد من الأزمات ؟ مَن هي القوى المؤهلة لصياغة تلك المشاريع الديموقراطية، وما هي أدواتها وما هي قدراتها على جعل تلك المشاريع قادرة على جذب الجماهير إليها، بعد كل الخيبات التي أُصيبت بها مشاريع التغيير في الحقبة الماضية ؟ ما فائدة الشعارات المضخمة إذا كنا لا نستطيع حمايتها ؟ وهل تستطيع الدول التي لا تمارس الإصلاح والديموقراطية بأن تبقى على حالها دون إصلاحات وتغييرات وتجديد ؟ وهل تقبل المجتمعات العربية بأن تحكم بشعارات بينما تحرم من الخبز والحقوق وأسس الحرية والاحترام ؟
للأسف في مراحل انعدام الوزن يصبح التعلق بأشباه الحلول وأنصافها هدفاً في حد ذاته دون التقدم أبعد من ذلك ولو بخطوات قليلة، في مثل هذه الحالات تبدو الأوهام وكأنها حقائق أو حلولاً دائمة يزيدها سخونة الوضع الملتهب والتناول العشوائي من قبل وسائل الإعلام دفعاً وتثبيتاً. وطالما أنّ الوضع العربي يراوح مكانه بالصورة التي نرى فإنّ هذه الأوهام ستظل في دائرة الوعي العربي وستعيد إنتاج نفسها المرة تلو الأخرى. ومن هذه الأوهام على سبيل المثال لا الحصر: استخدام الأيديولوجيا، بما فيها الدين، كسلاح، والاعتقاد بأنّ الحرب التي يشنها الغرب في مناطق تهديد مصالحه حرباً دينية. إنّ المستهدف الحقيقي من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والغرب بصفة عامة هو ذلك الذي يتعرض لمصالحهما بالخطر والتهديد أياً كان نوعه أو جنسه أو دينه.
أما الوهم الثاني الذي يمارسه الكثير أو يلجأ إليه، عند احتلاك الوضع وتأزم الأمور، هو هجاء الأنظمة والحكومات وربما التعرض للحكام كأشخاص، وهو وهم لأنه لا يغيّر من الحال شيئاً لأنّ جميع أنظمتنا على مر تاريخها ظلت عاجزة، مع الاختلاف في النسبة والنوايا، فالقضية ليست في إبدال النظام والأشخاص بقدر ما هي في إنتاجه من الداخل. أما الوهم الثالث فهو الاعتقاد بأنّ حركة الشارع العربي أو تحريكه هو ما يمكن أن يحدث التغيير المطلوب وبالصورة المطلوبة، قد يكون ذلك صحيحاً في المجتمعات الديمقراطية، أما بالنسبة لنا فالشارع العربي لم يصل بعد إلى مستوى رأي عام فاعل يقدم بدائل أخرى آمنة ومقبولة. ما نشهده الآن هو غضب الشارع العربي لامتهان كرامته وانتهاك مقدساته وهو أمر مطلوب ومشروع ولكنّ تحويله إلى مشروع سياسي أو مجتمعي أمر آخر ويتطلب آليات أخرى لم يتم إنشاؤها أو تأصيلها حتى الآن.
‏إن فشل البرامج والقيادات يطرح على بساط البحث قضية التحرر الوطني من الأساس، بحيث لا بد لها من أن تأخذ بعين الاعتبار الحقائق التالية:
(1)    – الوحدة القومية هي اليوم ضرورة أكثر من أي وقت مضى، غير أنّ السبيل إلى تحقيقها يتطلب، بالدرجة الأولى، صيانة الوحدة القطرية في كل بلد عربي، فلم تعد سايكس – بيكو تمثل الخطر المحدق، بل باتت الحروب الأهلية هي التي تهدد العالم العربي.
(2)    – لم يعد الخلط جائزاً بين العروبة والإسلام. فالعروبة، بما هي رباط تاريخي يجمع شتات شعوب منتشرة من المحيط إلى الخليج، ضرورة لمواجهة المخاطر الخارجية، والإسلام السياسي المناهض للاستعمار والمكافح في سبيل التحرر والتقدم والعدالة الاجتماعية ضرورة هو أيضاً. لكنّ العروبة والإسلام السياسي شيء، والاستنفار الديني شيء آخر، والرأسمالية الاستعمارية لا تميز بين إسلام ومسيحية، والمستهدفون من مخاطرها شعوب تنتمي إلى كل الأديان والطوائف والمذاهب والإثنيات.
إذن لا مفر من تفكيك مقولات الخطاب السياسي العربي من أجل إجراء تغيير جذري يقلب الأسس الفلسفية التي يقوم عليها، تغيير تكون نتيجته التحول إلى خطاب ديموقراطي مع الذات ومع الآخر ومع المجتمع ومع الواقع ومع التاريخ. ديموقراطي مع الذات بصفتها مالكة قرارها ومصيرها ورهاناتها وحقها في التحدي والرفض والمساءلة، وديموقراطي مع الآخر باعترافه به كآخر وكمختلف، لا من باب التسامح والتعايش وإنما من باب الإيمان بالتعددية في التعاطي المجدي مع الأسئلة والتحديات التي يطرحها الواقع بكل ما فيه من غنى وتعقيد. وديموقراطي مع المجتمع في تعامله معه باعتباره الصورة الحية لنضالات الأفراد والجماعات وتوقها ومخاوفها ورغباتها ودأبها اليومي، وليس كحقل تجارب للأيديولوجيا وأوهامها ومشروعاتها. وديموقراطي مع التاريخ في النظر إليه بصفته حركة وتحولاً وصراعاً، وليس باعتباره مرآة لأفكار ومبادئ وأحكام الخطاب السياسي وبرهاناً على صحتها وتكراراً أبدياً لها.
الأجدى لنا أن نعمل على أنفسنا لكي نتغيّر، بتفكيك جهلنا المضاعف بطبقاته السميكة وغرفه المعتمة وصناديقه السوداء. ونحن لا نفعل ذلك لكي نرضخ للأمريكيين، بل لكي نحسن التعامل معهم، على الأقل بطريقة لا تعود علينا بالأضرار والخسائر، سواء بفتح الحوارات وإجراء المباحثات، أو بتغيير المعادلات وإنتاج التسويات. وذلك يتوقف على ما نملكه ونصنعه ونقدر على إنجازه، أي على ما نجترحه من الإمكانات التي تتسع معها الخيارات وتتغيّر الوضعيات. فالواقع يتغيّر بخلق وقائع جديدة تتسع معها رقعة الإمكان، بقدر ما تتغيّر طرق تعاملنا مع ذواتنا ومع الغير والعالم.

تونس في 12/1/2010
كاتب وباحث سوري مقيم في تونس
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى