ماذا لو هنأنا جارا مسيحيا?… الفكر العربي يلتهم نفسه
طيب تيزيني
جاءت الانباء من الدوحة تعلن ان الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين, دعا في خطبة الجمعة قبل اكثر من اسبوعين وفي مسجد عمر بن الخطاب, الى منع تقديم التهاني للمواطنين المسيحيين بمناسبة اعياد الميلاد, ناهيك عن المشاركة في احياء »الطقوس« الدينية المسيحية من قبل هؤلاء وغيرهم. والحق, انها دعوة لافتة في ظروف يعيشها العالم العربي وتتسم بكثير من مظاهر الحطام والانحطاط والتفكك, وبقليل من مظاهر العقلانية والاستنارة والانسانية.
فبالاعتبار التاريخي, يمكن استعادة النموذج العقلاني والتنويري في النهضة العربية الحديثة المغدورة, حيث بزغ الثنائي العظيم ممثلا بالامام الشيخ محمد عبده وبالمفكر العلماني فرح انطون, وتوهجت بينهما علاقة صداقة عميقة حميمة, انتجت بدورها المناظرة الشهيرة التي دارت بينهما. لقد جاءت تلك المناظرة مثالا عقلانيا فريدا في تاريخ الفكر العالمي: دللت على ان العرب والمسلمين والمسيحيين لا تقوم بينهم بالضرورة علاقة مؤسسة على الصراع العقيدي, فهم جميعا يمثلون انساقا متعددة لبنية تاريخية حضارية واحدة, بمشاركة من تعددية حضارية مفتوحة اثمرت على نحو تاريخي طريف.
ثم ان استحقاقات اخرى كثيرة تفرض نفسها على جميع من ينتمي الى تلك البنية التاريخية, ويبرز في مقدمة ذلك التشارك في الحقل الجيوسياسي الواحد وبفعل الضرورة الطبيعية والاقتصادية الجغرافية; وليس عصيا على الفهم ان التعددية الدينية الاعتقادية في ذلك الحقل الجيوسياسي تفرض نفسها عبر ثلاثة مفاعيل كبرى; هي الوجود التاريخي وحقوق المواطنة والمصالح المشتركة. وتفصح هذه المفاعيل عن نفسها بثلاثة ابعاد: الاول تاريخي (ويجري الحديث هنا عن تتال وتعاقب تاريخيين تكون المسيحية بموجبها سابقة على الاسلام). وبعْد ثان راهن (ويدور الكلام فيه على تزامن وجودي بين الدينين). واخيرا بعد ثالث مستقبلي (يكون المستقبل فيه استحقاقا لهما كليهما في الحقوق والواجبات).
بهذه الاعتبارات, يغدو الخطاب الذي وضعنا يدنا عليه, كما عبر عنه الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي, خطابا في التنكر لمعطيات موضوعية تاريخيا وجغرافيا واستراتيجيا مستقبليا, ناهيك عن انه خطاب يُجافي السياق العام للدين الذي ينتمي اليه هو نفسه, اي الاسلام, كما يجافي احتياجات عصرنا الملتهب بالبارود حيث كنا, واخيرا وليس آخرا, هو خطاب يستدرج القوى الظلامية في الداخل والخارج لجعل تيارات الفكر العربي الجامع – بما فيها التيار الديني عموما – وقودا لالتهامها ذاتيا, ومن ثم للعبث في هذا العالم العربي والاسلامي بشق المزيد من صفوفه وتفكيك ما عصي منه حتى الآن على التفكيك. واذا أتيح لنا ان نضيف شيئا آخر, فان المعلومة التالية تغدو في مقدمة ما ينبغي ان ينتشر في عقول النساء والرجال في العالم المذكور. ان النظام الامني العربي الاسلامي يجد فيما قدمه الدكتور القرضاوي – للاسف – منطلقا لتعميم الظلامية والتكفيرية في عالمنا المشترك, وذلك بما يعمق جذور الفوضى والاضطراب والاصرار على ابقاء منظومة القيم العقلانية والتنويرية والتسامحية حلما بعيد المنال, مما يجعله (اي ذلك النظام) يلتقي مع السوق العولمية في محاولة توحيدها العالم تحت رايتها, ولن اذكّر الدكتور قرضاوي بما فعله الرسول الاسلامي العظيم, حين وقف احترما لجنازة يهودي او مسيحي مرت.
العرب اليوم