لينا الطيبي في “مقسومة على صفر”: الحياة تقبل القسمة على صفر والناتج.. شعر
خلف علي الخلف
في النص الأول من ديوانها الصادر عن دار آفاق في القاهرة، بعنوان «مقسومة على صفر» تعود لينا الطيبي لتهز الحياة مجددا؛ في إحالة مباشرة إلى إرثها الشعري السابق، الذي لا تريد أن تتخلى عنه كمنطقة اشتغال؛ فهي لديها نوستالجيا للكلام العتيق كما ترى في نص لها ضمن الديوان، ليس ذلك فحسب؛ بل يبدو كذلك في تمسكها ببعض التراكيب الشعرية «الحداثية» القديمة، التي تمت مغادرتها شعرياً في العموم [صوت صوتك- في قلبِ قلبِه – أستردني- أصادفني – ألتقي بي – أعلو إليّ – تحتمي ظلالي في ظلالي…] ولا يشفع لاستخدامها وظيفية بعض هذه المفردات داخل النصوص.
الحياة كنص مستمر ..
تنحو النصوص في «مقسومة على صفر» نحو نبرة هادئة؛ تستكشف الحياة وتعيشها، مقدمة خبرة فردية في الحياة. تلك الحياة التي نعيشها، أو نتمناها، أو نستذكرها، لا تلك المتخيلة. فالنصوص مشغولة بالآن وما عودتها إلى الذاكرة إلا جزءا من كتابة هذا «الآن» الذي تعيشه،[ الوقت هو الآن|و«الآن» شمسٌ كبيرةٌ| قمرٌ يعبر الغرف ويضحكُ| سريرٌ يهتز| ورعشةٌ في القلب تطوي ما مضى.] فالذاكرة ليست مجرد حنين هنا، بل هي في أحيان كثيرة للمقارنة، وفي مرات أخرى تتداخل مع الحياة التي تحياها. لا يمكن تجنب الذاكرة فهي ليست جزءا مضى من حياتنا بل أنها تشكل جزءا واضحا من حياتنا التي نحياها.. هذا ما يمكن أن تحيل إليه بعض نصوص المجموعة. والمجموعة ذاتها تبدأ بنص قصير جاء بمثابة تقديم للمجموعة وتُرك سائباً دون عنوان:
[ خلفي طوفان| وأجلس على الركام،| ضاحكةً|كأن شيئا لم يكن]
ليست الحياة المبثوثة في النصوص حياة عائمة بل هي حياة أنثى، يبدو ذلك واضحا ليس فقط من الحيز الذي تتحرك فيه النصوص بل حتى من شجرة النصوص نفسها التي قسمت الى أربع مجموعات [ أؤخر النهار… أُقدّمُ الليل– إسفنجة قاسية – صورة حب – منمنمات] وتحت العناوين هذه، نص قصير، ليس تقديماً لكنه نص مستخلص؛ أو تفسيري للعنوان الرئيس.. لتبدأ عناوين النصوص التي هي في الغالب قصيرة، التي تنضوي تحت كل عنوان رئيس.. إنها ترتيب أنثوي مشغولٌ بتبويب الأشياء ووضعها في أمكنتها..
ربما سيصعب تلمس مقترحاً شعرياً طاغياً ومفارقاً في «مقسمومة على صفر» ليكون مفتاحاً لتلمس النصوص والإستدلال على مقترح جامع فيها، فهي تشتغل في منطقة مستقرة وآمنة نسبياً في قصيدة النثر العربية، ولا تشق طريقاً «تجديدياً» أو تجريبياً بل إنها تراكم في هذا السياق، إضافتها تأتي في تشجير هذا الطريق و/ أو إزالة المطبات، وتسوير المخارج الكثيرة فيه.
خصائص عامة
تمضي لينا الطيبي في اشتغالها على قصيدتها، بهدوء في هذا الطريق، من خلال تناولها لـ «ذاتية» مفرطة في هذه المجموعة، متناولة حياة عادية و«أنا» تشبه أيّ منا سوى أنها « أنا» خاصة بـ لينا ولا تخص أحداً سواها.. وفي تلمس خصائص عامة للمجموعة يمكن القول أن علامتها البارزة الاقتصاد في اللغة والدقة في استخدامها لمفرداتها والإخلاص للمعنى. ضمن تلك الخصائص هذه تأتي خصائص فرعية ضمنها؛ فهي تعمل على تدوير نهاية النص وإعادتها للسطر الأول فيه أو حتى للعنوان كما في نصوص «اقترب من الماء»،« عبور»،«الفصول الأربعة» الذي يبدأ «مثالاً» هكذا [ لو استمعت الى فيفالدي الذي يقطِّر الآن صلاته في قلبي..] لينتهي بـ [ يُقبل| ويترك لقلبي أن يبتلَّ بمائهَ]. تراتبية النص في تتابعه السردي علامة واضحة في بعض النصوص، إذ يحدث أن ينمو النص ويستمر سردياً بشكل عمودي نحو الأسفل من أول كلمة فيه حتى آخرها كما [مثالاً] في نصوص«فتوى»،« شموس»، « بياض»، «ردّة»، «منولوج»، «انتظار»،«حب». إضافة لهذا يحدث أن تكون القصيدة فكرة تعمل على صياغتها شعراً؛ أي أنها تبدأ من من معنى الفكرة لتدخلها في مطبخها الشعري وتحولها إلى قصيدة كمثل«الغرباء». تعمل بعض النصوص على استخلاص المعنى من نقيضه فـ « هولاكو» هو رمز مكرس للاجتياح والطغيان والحرب لكن في نصها الموسوم بهذا العنوان فهو قصيدة حب! أما في «فصول» فهي تورد تقابلات متضادة بين «مختلفين»[ قلتُ أن الصيف يضحكُ… | قلتُ إن الربيعَ أيضاً يهمسُ في وردِ الآنية؛| قلتَ إن الشتاء على الأبوابِ| غير أن الخريف وصل.]. كما أن بعض النصوص تضمر مفهوماً نقيضاً من خلال مثالٍ واقعي، فهي لا تقدم (واقع الحال) لتقول هذا هو بل إنها تقدمه لتقول ليس هذا ما أريد، ليس هذا ما أحب.. «نظرة»،«تمرين 2» ففي نظرة تعرض مفهومه للحب لتحيلنا إلى أن ما يعنيه هو عكس هذا [ الحبُ عندكَ نظرةٌ| صابونٌ للقلب| موادٌ أخرى.| الحب عندك تفاحةٌ| تقضمها شيئا فشيئاً|إلى أن تصل إلى بذرتها| فترميها.|…].أيضاً يمكن أن نلحظ بساطة التراكيب كما في «كلام»[… افتح فمك| لصباح الخير.. مثلاً| لتصبحين على خير.. مثلاً| لكن| إذا ما زارك كلام كثير| آوه في صندوقك القديم|…]، إضافة إلى «فلسفة»؛ «منمنمات»… كما يمكن أن نعتبر أن من بعض الخصائص العامة للنصوص هو مراكمة المعنى جملة جملة، فكل جملة تشكل إضافة تراكمية تزيد على ما قبلها لكنها منفصلة عنه ولولا اقتصادها في اللغة لشكل ذلك مساحة للتداعي إلى أشياء لا يمكن حصرها كما في«تمرين 1» [ مرة أضاء لي قنديل الكلام| مرة صدقته..| مرة أخبرني حكاياته الكثيرة| مرة آنسته| مرة مزق صدري| مرة أحببته| مرة أوجعني| مرة ذبتُ في ألمه..]
فائض النصوص
ان اقتصاد النصوص في الحالة التي تنبعث منها أو تبعثها أو تتأملها، وفي جملها وتراكيبها، يجعل الفائض واضحاً في المجموعة سواء كان هذا الفائض بعد أن «ينتهي النص»! ويصبح كل زيادة فيه نوعاً من الحشو أو في داخل النصوص نفسها فنص مثل «غربة آنية» المتشكل من 33 «كلمة» والذي ينتهي شعرياً في السطر السابع عند «بأصابعٍ تنطوي وتموت» تأتي بعده عشرة كلمات فائضة لم تزد في تراكم المعنى ولم تشكل للنص أي إضافة شعرية… ونص مثل «بورتريه» المشغول بمهارة حائكة كنزة صوف في الشتاءات، لا يحتمل حرفاً زائداً واحداً لذلك بدت « قلبه الوحيد» فائضة التي ترد في هذا المقطع [ لم يكن عجوزاً بما فيه الكفاية| لما وسّدوه نعومة التراب| كان ما يزال مبتسماً|غير أن قلبه| قلبه الوحيد| لم يغنِ بصوتٍ عالٍ| وهو يتذكر كل خريف مرّ] ومثل ذلك أيضاً نص «لو…» الذي يأتي سطره الأخر كي لا يضيف شيئاً ويخلخل الاكتناز السابق للنص.
إرباك المعنى
تحتفي النصوص بشكل واضح في معناها؛ في تأمله وإيصاله أيضاً ولا تغرق في تهويمات تحت دعاوى شعرية مختلفة درج عليها نسق من الكتابة؛ إنها نتاج وضوح ماهية «الشعرية» وخبرة كتابية تمتلك أدواتها لم تعد بحاجة لاسترسال تكون إحدى وظائفه ردم العثرات، بما لا يشكل إضافة جديّة للنص، تضعه تحت طائة الحشو أو التكرار و.. الثرثرة. فنص مثل «صورة حب» المقتصد في كلماته تتأتى شعريته من وضوح معناه وسهولة تصديق هذا المعنى وموافقته، زارعاً حالة تعاطف مع هذا المعنى الذي لا يكتمل حتى آخر حرف [ يحتفون بالحب في غيابي| يزرعون القلوب على الموائد المزركشة| ويتركون لي نهاراً صدئاً| هؤلاء هم من أحببتُ] تأتي مفردة «يزرعون» لتخلخل الدقة المفرطة في استخدام المفردات. وفي نص «غربة» الذي يبحث فيه الرواي/ة في الخفاء [عن يدٍ| روح تطلق الصرخةَ| وتبلل اليابسة من ترابها] تأتي «من ترابها» لتربك المعنى. ذلك الإرباك تجده أيضا في بعض النصوص الأخرى. إن الإفراط في الاقتصاد في المفردات والدقة التي تستخدمها فيها الشاعرة بحذاقة، هو ما يجعل الإشارة إلى تلك النصوص أمراً لابد منه.
مقسومة على صفر! ذلك معاندة للرياضيات، التي تقول أن أي عدد لا يقبل القسمة على صفر، والقسمة مستحيلة.. لكنها عند لينا عملية صحيحة.. وتنتج معنى.
موقع جدار