والعام يمر وراء العام
حسين العودات
مازلنا في غرف التخدير على سرر التخدير ننام، والعام يمر وراء العام وراء العام وراء العام، والأرض تميد بنا، والسقف يهيل ركاماً فوق ركام)
شاعر معاصر
لا أظن أن هذا الشاعر كان متشائماً، أو أن حالنا ـ نحن العرب ـ ليس كذلك، كما أنه من غير المبالغة الإشارة إلى هذا الحال (أوحتى التشهير به)، لأن وصفه والإشارة إلى الثغرات والأخطاء والرزايا، ولو مع بعض المبالغة لا يقع تحت تهمة (إضعاف الشعور القومي، والتسبب بوهن الأمة) فتوصيف المرض لا يزيده بل يساعد على معالجته، خاصة أن مصلحة البلاد والعباد، وبناء الدولة الحديثة واستكمال الاستقلال وتحرير الأرض، ورفع مستوى حياة الناس، تقتضي عدم السكوت على الواقع المر الذي نحن فيه، والتعامي عن رؤية الأخطاء، والاستمرار بالتخدير والتزوير والتبجح بمنجزات لم تتحقق، وتحرير لم يحصل، واستعراض إنجازات غير موجودة إلا في تصوراتنا، ونجاحات متخيلة، والمبالغة بوجود أدوار لا يراها أحد ولا يلمسها، وتقديس من لا يستحق التقديس، وما لا يستحقه، وقلب سلم الأولويات، والسكوت عن التخلف والطائفية والعشائرية والإقليمية والقمع وتجاهل الحريات والديموقراطية وتداول السلطة وفصل السلطات، ووضع تطور الأمة وأهدافها، والشعوب وأمانيها، على طريق الحداثة والتقدم واللحاق بركب التطور الإنساني. ورغم هذا تطلب بعض الأنظمة العربية من الجماهير الشعبية ومن النخب ووسائل الإعلام والثقافة السكوت والتجاهل والجهل والتستر على هذا الواقع المتردي.
أظن أن شاعرنا لم يبالغ، فنظرة مدققة إلى واقع الحال العربي تؤكد أن الأمة العربية ومجتمعاتها وحكوماتها ودولها ليست في أحسن أحوالها وتواجه صعوبات ومشاكل ومعيقات جعلتها أكثر ضعفاً من أي وقت مضى منذ استقلال البلدان العربية، وانسحاب القوى الاستعمارية الأوروبية وقيام إسرائيل، أي طوال النصف الثاني من القرن الماضي.
بعد اغتصاب فلسطين عام 1948، شقت تصريحات بعض حكامنا عنان السماء وأكدت أنها على وشك إزالة إسرائيل ومحوها من الوجود واستعادة الأرض السليبة، وفشلت جيوشنا في تحقيق مواجهة ناجحة أو إيقاف زحف العدو، بل فشلت في المحافظة على نصيب الفلسطينيين من قرار التقسيم، واستعاضت عن الانتصار المأمول بأن بدأت سلسلة من الانقلابات العسكرية في بعض البلدان العربية المستقلة، ولم يكن لهذه الانقلابات في الواقع أي هدف محدد أو استراتيجية واضحة أو سياسة شاملة سوى استلام السلطة وإدانة طاقم المرحلة السابقة لها، ووعدتنا بتحرير فلسطين لكنها لم تفعل شيئاً جدياً سوى انتظار الانقلاب المقبل، ثم بقيت معظم أنظمتنا السياسية تلهج بتحرير فلسطين لكننا ما لبثنا أن خسرنا ما تبقى لنا منها إضافة لأراض جديدة من مصر وسورية والأردن ولبنان.
كانت حرب أوكتوبر فرصة لإحياء تماسك الأمة وتغيير موازين القوى، وتحرير الأرض، وحل المشكلة الفلسطينية، إلا أننا بدلاً من تحقيق هذه الأهداف كلها أو بعضها شهدنا اتفاقيات الصلح الثنائي وتفرقنا أيدي سبأ، حتى أصبح كل بلد يتخلى عن واجباته القومية ويعتز بقطريته ويبحث عن خلاصه الذاتي، في عصر تبحث فيه الشعوب والدول عن تأسيس تجمعات إقليمية (حتى لو كانت شعوبها غريبة الوجه واليد واللسان) تجاه بعضها، ونحن نصر على رفض التضامن تحت شعار (بلدنا أولاً) مع أن هذا الهدف يتحقق بالتضامن أكثر مما يتحقق بأي وسيلة أخرى.
طبقت معظم شعوب الأرض (بعد انتهاء الحرب الباردة) مفاهيم الدولة الحديثة، أما نحن فقد نفرت معظم أنظمتنا السياسية من هذه المفاهيم وتجاهلتها، وبقيت قابضة على المفاهيم العتيقة حيث الاستبداد والقمع وتركيز السلطة بيد مجموعة صغيرة وشمولية النظام وهيمنته على الدولة والمجتمع، بل هيمنة الحكومة على الدولة والمجتمع، وتفشي الاستبداد والمحسوبية والطائفية والإقليمية وكل أمراض الدنيا، مما أدى إلى تناقض حكوماتنا بعضها مع البعض الآخر، واتهام كل منها الأخرى وتحميلها المسؤولية عن فشلنا في تحقيق أهدافنا القومية، ودفن التضامن العربي، والفشل في إقامة نظام عربي جديد يستوعب مستجدات الحضارة الإنسانية ومفاهيمها الحديثة، ولم نبدأ ـ كغيرنا ـ في تنفيذ خطط تنمية شاملة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية لا على انفراد ولا في إطار التنسيق العربي والتكامل العربي وفي ضوء المصالح القومية التي هي في النهاية مصالح كل قطر من أقطارنا.
استوعبت معظم شعوب الأرض مبادئ الحداثة والتحديث، أما نحن، فبعضنا اعتبر الحداثة بضاعة غربية رفضها كلياً دون تبصر لأنها بنظره أفكار وممارسات وقيم مستوردة، والبعض الآخر أخذها كما هي وبمفاهيمها الأوروبية وشروطها الأوروبية واندهش بها وتماهى معها وكأن لا تراث لنا ولا ثقافة ولاقيم ولا تقاليد، وفي الحالتين بقينا كلنا أعداء للحداثة ومفاهيمها وقيمها، نعيش مرحلة ما قبل الحداثة في عصر وصلت شعوب العالم الأخرى إلى مرحلة ما بعد الحداثة، اللهم باستثناء أننا نمارس بتلقائية وبحماس التقاليد الاستهلاكية ونطبق نمط الحياة الاستهلاكي في مجتمعاتنا ما قبل الزراعية أو ما قبل الصناعية، مما أوصل هذه المجتمعات إلى أوضاع كارثية، وجعل قول شاعرنا الذي (تعكزنا عليه) واقعياً وصادقاً، والآراء المماثلة له ليست موتورة ولا مبالغة ولا انهزامية، لأننا بحاجة لتوصيف الحال بدقة أكثر من حاجتنا للتستر عليه.
البيان