فضاء الميعاد
صبحي حديدي
أولئك (القلّة القليلة، كما يقول المنطق السليم) الذين أنتابهم الهول من أن يلقي الرئيس الأمريكي جورج بوش خطبة أمام الكنيست الإسرائيلي، مطلقة الإنحياز ومتصهينة أكثر ربما ممّا انتظر صقور الصهاينة أنفسهم، خيرٌ لهم أن يقرأوا الخبر التالي: تعتزم وكالة ناسا الأمريكية، الأبرز في أبحاث الفضاء علي نطاق العالم، إعداد مركبة فضاء كوشير ، أي من طراز يحتوي علي تجهيزات مصممة خصيصاً لاستقبال روّاد فضاء يهود. وينقل إيتامار آيخنر، في موقع Ynet الإسرائيلي الإلكتروني، أنّ الوكالة تتشاور مع عدد من الحاخامات حول كيفية تطبيق الوصايا التوراتية في الفضاء، وخاصة تحديد الموقع الجغرافي لمدينة القدس في كلّ مرحلة من مراحل تحليق المركبة، بحيث يعرف الروّاد اليهود أين يتوجّهون عند الصلاة.
كذلك ستبحث الوكالة في مسائل حفظ الطعام اليهودي، والإلتزام بفرائض أيّام السبوت، وتفادي الإشكالات التي وقعت حين شارك الإسرائيلي إيلان رامون في رحلة المكوك كولومبيا سنة 2003 (المركبة التي انفجرت، كما هو معروف، قبل دقائق من موعد هبوطها، وقُتل جميع روّادها الـ 16). ولكي لا يبدو الأمر انحيازاً إلي الديانة اليهودية وحدها، أوضح آيخنر أنّ ناسا قد تعمد إلي تصميم مركبة إسلامية أيضاً، بالنظر إلي احتمال مشاركة روّاد فضاء مسلمين في برامج أبحاثها ذات الطابع الأممي. ولكنه تجاهل أنّ السعودي سلطان بن سلمان، أوّل رائد فضاء عربي مسلم، كان قد شارك في بعثة ديسكوفري منذ سنة 1985، ولم يبلغ أسماع أحد أنه أوصي الوكالة بأن تعتمد أيّ إجراءات إسلامية في تصميم مراكبها، آنذاك أو في المستقبل.
ليست هذه أطرف وقائع ناسا مع التعاليم اليهودية، وثمة ما كان أدهي، وما تجاوز الفقه المحض إلي السياسة اليومية. ففي سنة 1996 أعلنت الوكالة الأمريكية اكتشاف مستحاثات عضوية أحادية الخلية علي كوكب المريخ، الأمر الذي رجّح وجود دلائل علي حياة بشرية من نوع ما. غير أنّ الحاخامات وفقهاء التلمود، قبل العلماء والمختصين والباحثين، كانوا أشدّ المنشغلين بالاكتشاف، فطرحوا حوله أسئلة كبري مثل هذه: هل يتناقض مع التوراة؟ وكيف ينسجم، أو يتعارض، مع الوصايا العشر؟ وماذا عن أرض الميعاد، هل يدخل كوكب المريخ في جغرافيتها أم لا؟ ولكي لا يظنّ البعض أنّ الأمر يخصّ الحاخامات وحدهم، نظمت مجلة جيروزاليم ريبورت استفتاء واسع النطاق حول الأسئلة السابقة، شارك فيه يهود من فئات شتي تبدأ من الحاخام، ولا تنتهي عند المدير العام لوكالة ناسا نفسه.
الحاخام موشيه دافيد تندلر، أستاذ الميكروبيولوجيا والأخلاق الطبية اليهودية في جامعة يشيفا، أعلن أنه اضطرب أيما اضطراب حين سمع بالنبأ. ولكنه جزم بأنّ المريخيين سوف يكونون في عداد الخاضعين لتعاليم التلمود، إذا تحلّوا بملكات الإدراك وتكامل الروح والجسد. الطامة الكبري أن يكونوا، مع ذلك، في عداد جماعة ناطوري كارتا ، التي تؤيد فكرة الدولة الفلسطينية! البروفسور هرمان برانوفر، رئيس مركز الدراسات الهيدرو ـ مغناطيسية في جامعة بن غوريون، طمأن اليهود بأنّ التلمود لا ينفي فكرة وجود كائنات أخري في أمكنة أخري، واختصر المسألة في المعادلة التالية: إما أن تكون لديهم توراتنا ذاتها ولا مشكلة هنا، أو أن تكون توراتهم مختلفة ولا مشكلة هنا أيضاً، لأنّ توراة اليهود علي كوكب الأرض هي الوحيدة الحقة، وما عداها زيف وبهتان.
شالوم روزنبرغ، أستاذ الفكر اليهودي في الجامعة العبرية، رأي أن وجود دلائل حياة علي المريخ هو هزيمة منكرة للملحدين والعلمانيين، ورجّح أن يكون أهل المريخ علي استعداد تام لقبول العقائد التلمودية، رغم أن هذا الموقف سيفتح ـ من جديد ! ـ أبواب الجدل العتيق حول ماهية اليهودي، وسيطلق النقاش إلي الكواكب والأفلاك بدل بقائه علي الأرض وحدها. روبرت شيكلي، الروائي المتخصص في أدب الخيال العلمي والحائز علي جوائز أمريكية رفيعة، تنفس الصعداء وابتهج للنبأ: علي الأقلّ سوف يقع الحاخامات في حيص بيص حين يواصلون نواهيهم الخاصة ببعض المشروبات والأطعمة. ثم ماذا عن أيام السبوت علي المريخ ؟ أمّا دانييل غولدن، رئيس وكالة ناسا حينذاك، فقد حاول أن يبدو رصيناً بعض الشيء، واعتبر أنّ اكتشاف مستحاثات أحادية الخلية لا يهزّ أياً من مداميك العقائد التلمودية، إلا إذا واصل الغلاة عنادهم وانكفاءهم علي نصوص جامدة… لا تتناقض أصلاً مع العلم!
لكنّ الحاخام هارولد شولفايس، من كنيس وادي بيت شالوم في كاليفورنيا، فاجأ المجلة بجواب عجيب: نحن الأمريكيين لا نحبّ الأغراب أصلاً، ولا نحبّ المهاجرين والأجانب. وإذا كان هناك أحياء علي سطح المريخ، فالأفضل لهم أن يمكثوا حيث هم . وحين سألته الصحافية عن ردّ فعله إذا قابل مريخياً ما في أية مناسبة، ردّ الحاخام بغضب: وماذا تريدين أن أعلّمه؟ أن يتقن أفانين رشق الحجارة علي جنودنا، وأن يحيي الإنتفاضة من جديد ؟
كلاّ، بالطبع، لأنّ هذا التعليم يتكفّل به تسعة أعشار الإسرائيليين، ساسة ومواطنين وجنرالات، ولا يمكن للفلسطيني أن يتفنّن فيه أفضل وأكثر إلا إذا تضمنّت مناهج التعليم نصوصاً كلاسيكية المعني والغاية، مثل خطبة جورج بوش الأخيرة أمام الكنيست!
القدس العربي
19/05/2008