نقد ثقافة النقد
د. رشيد الحاج صالح
هناك شعور سلبي منتشر في مختلف الأوساط الثقافية والشعبية تجاه ثقافة النقد عموماً، ومفاد هذا الشعور أن النقد: إما أن يكون هداماً يحاول زعزعة معتقداتنا والتشكيك فيها، أو مشبوهاً يحاول أن يفرق بيننا، من خلال إثارة القضايا الحساسة التي نختلف حولها، أو حاقداً يدير ظهره لكل ما هو إيجابي ومشرق في حضارتنا، بحيث ننظر إلى الناقد على أنه، إما شخص معقد، أو حاقد، أو مُستلب، هذا إذا لم يكن مارقاً، أو عميلاً، أو مريضاً نفسياً.
غير أن واقع الحال يبين أن لثقافة النقد وعقليته دورا كبيرا في مسار التاريخ. فالتحليل التاريخي يوضح لنا أن صعود النزعة النقدية في مجتمع ما، هو الذي يؤدي إلى تقدم المجتمع وتجاوزه لمشكلاته. فلا يوجد أي حضارة إلا وقامت في بداياتها على النقد، نقد الواقع المعيش والقيم القديمة والأوضاع السائدة، اعتقاداً منها أن نقد تلك القيم والأوضاع، هو الذي يكشف عما فيها من تناقضات مخفية تمنع التقدم، وتقف في وجه التغيير نحو الأفضل. وهنا نضع يدنا على جوهر التقدم البشري وبناء الحضارات.
هذا الأمر لا ينطبق على الحضارات والسياسة فحسب، بل حتى على التقدم العلمي. إذ لا توجد نظرية علمية إلا وتعود بداياتها إلى نقد النظريات العلمية السابقة، واكتشاف العيوب والنواقص التي كان يعتقد لوقت قريب أنها مسلمات ومطلقات، لا يمكن الشك فيها. فالنقد الذي يمارسه العلماء على النظريات السابقة، هو الذي يقف وراء ثورات العلم المعاصرة، ولولا النقد، لبقي العلم يقدم التفسيرات عينها للظواهر منذ مئات السنين.
وفي إطار تأكيدنا على الحاجة الماسة لتعزيز ثقافة النقد وتبيان إيجابياتها، ونفض الغبار عن الآراء التقليدية السلبية تجاهها، فإننا نريد أن نبين الدور الكبير الذي يمكن أن تلعبه ثقافة النقد في الكشف عن المعضلات الكبرى التي تعاني منها ثقافتنا المعاصرة. وهنا لا بد من طرح ثلاث قضايا أساسية تزيل اللبس عن النقد، وتوضح دوره البنّاء.
الأولى: إن النقد لا ينطلق من مشاعر سلبية تجاه موضوع النقد، كما يشاع عنه، فهذا حقد وليس نقدا. في حين ينطلق النقد، وبشكل أساس، من الشعور المسؤول بالتناقضات الحادة، والصعوبات الكبرى التي تحيط بالمجتمع العربي ووجوده.
وهذا يعني أن النقد هو نشاط إيجابي وفعّال يهدف إلى التقدم، وليس إلى الهدم، إلى الحرية، وليس إلى الفوضى والتجريح. فثقافة النقد تعني إعادة البناء للكشف عن العيوب والتناقضات المختفية خلف وجودنا، ولكن هذا لا يعني أن النقد يرفض كل شيء موجود وبشكل كامل، بل يعني أن النقد يعيد بناء كل شيء بطريقة تزيل كل التشوهات، وتجعلنا أقرب إلى فهم أسباب عجزنا.
ثانياً: حتى يكون النقد فعّالاً وإيجابياً، لا بد من أن يضع لنفسه هدفا أساسيا ومخططا نظريا ينطلق منه، بحيث يتوجه إلى الأسباب الكبرى التي أدت إلى التيه الحضاري الذي نعيشه. والمقصود بالهدف هنا هو تحديد العامل الذي نعتقد أنه يمنعنا من التقدم، ويجعلنا غير قادرين على تجاوز مختلف مشاكلنا.
إننا نظن أن المشكلة الكبرى تكمن في الوعي الذي يشكله الناس عن واقعنا وماضينا وديننا وسياستنا ومستقبلنا. والوعي هو مجموعة من الأفكار والرؤى والقيم يكوّنها الإنسان لفهم حياته والتخطيط لمستقبله. وعلى ذلك، فالناس لا يعيشون الحياة بقدر ما يعيشون الأفكار التي يكوّنونها عن هذه الحياة. والنقد يجب أن يتناول الوعي السياسي والديني لدى الإنسان العربي، لأن هذين النوعين من الوعي يشكلان العمود الفقري لفكر الإنسان وتصوراته عن الحياة. فالإنسان يعيش الحياة من خلال هذين النوعين من الوعي. والمشكلات التي يعيشها البشر، تكمن في وعيهم وأفكارهم، لأن الأفكار التي تشكل الحياة قد تتعرض للتشويه والتزييف وسيطرة الأوهام، ناهيك عن الخداع والتضليل الأيديولوجي.
والتركيز على الوعي الديني والسياسي يعود لسببين: الأول إن الدين والسياسة هما اللذان يشكلان فكر الإنسان العربي ويحددان قيمه وأخلاقه ودوره في المجتمع.. وهما اللذان يشكلان ماهيته الاجتماعية، وبالتالي لا يمكن حل أي مشكلة تواجه هذا الإنسان دون العودة إلى الدين والسياسة، فهما يشكلان مستودع المشكلات وخزان الحلول في الوقت عينه.
ثالثاً: إذا كان الوعي السياسي والديني في الثقافة العربية يعاني من تشوهات كبرى، وتناقضات خطيرة، وخرافات تاريخية، وأوهام أيديولوجية، لم يتجرأ الإنسان العربي على مواجهتها لفترات طويلة، فإن هذا الأمر جعل كلا من الدين والسياسة في متناول فئات معينة، تستغل كل منهما للحصول على المزيد من السيطرة، وتمرير الكثير من المصالح. وإذا لم نقم بنقد شامل للوعي الديني والسياسي، فسنبقى نرزح تحت تلك السيطرة، ونخدم تلك المصالح، في الوقت نفسه الذي نعتقد فيه أننا نبني البطولات والأمجاد. فلا بديل عن مواجهة المشكلات التي أصبحت تهدد وجودنا (حمى صعود النزعات الطائفية والمذهبية، غياب الحريات الرهيب، لا شرعية الأنظمة العربية، إضعاف دور مؤسسات المجتمع المدني، نجاح إسرائيل الدائم في تحقيق مخططاتها الاستعمارية..).
نحن أمام خيارين، إما أن نواجه تلك المشكلات ونجد الحلول الجذرية لها، وإما فعلينا السلام.
كاتب من سورية
أوان