عاهرة المقاومة
مازن كم الماز
لا أقصد هنا أية حركة مقاومة في أي مكان من العالم , لا سمح الله , بل موقف المقاومة في حارتي , ركن الدين , حيث أعيش مع أسرتي..أنا محمد , طالب في كلية الحقوق , تمكنت من النجاح إلى السنة الثانية بعد طول معاناة في السنة الأولى , هذا أيضا حال صديقي خلدون , و هو جاري أيضا , تملك أسرته محلا لبيع الألبان و أشياء أخرى في نفس شارعنا , و صديقي الآخر أحمد , الذي كان والده يدرسنا التاريخ في المدرسة الثانوية..خلدون هذا مصيبة حقيقية تمشي على الأرض , يعرف العديد من النساء في شارعنا أو في أي مكان تريد أو هكذا أظن , كنت شاهدا ذات مرة على الطريقة التي يصطاد بها نساءه , كان يومها يبيع شيئا ما لامرأة أربعينية أراها لأول مرة , عندما تمكن دون أن ينتبه له أحد من معرفة عنوان بيتها و متى تكون وحيدة في المنزل..ذات مرة قال لنا خلدون هذا , سآخذكم إلى امرأة و لا كل النساء , ذهبنا مساء ذلك اليوم إلى العفيف , دخلنا بين الأزقة هناك إلى بناء مؤلف من ثلاثة طوابق , دق الباب ثم دخلنا وبقينا هناك حتى الصباح..كانت امرأة جميلة بلا شك لكنها كانت تطلب الكثير من المال في كل مرة , بعد مرة أو مرتين أخبرنا خلدون أننا لن نذهب هناك مرة أخرى و أنه لا يمكننا أن ندفع لها مثل هذا المبلغ الباهظ كل مرة..عدت أنا إلى ملاحقة بنات المدرسة الثانوية المجاورة , و عاد أحمد لمواعدة إحدى جاراته , حتى أنه أقسم لنا ذات يوم أنه قد قبلها على شفتيها..لكن خلدون عاد ذات يوم ليقول لنا , طلبكم عندي , ثم اجتاز بنا الشارع و نهر تورة إلى الأزقة التي تزداد ضيقا و صعودا قبل أن يستوقفنا أمام باب واطئ , دق الباب و دخلنا , بقينا أيضا حتى الصباح , لكن أم سليم كانت مختلفة تماما عن صبية العفيف , كانت امرأة في أواخر الثلاثينيات , سمراء , قصيرة لكن ممتلئة , معها صبي أسمر البشرة , كنت أشاهدها و هي تمسك بيده و تجره وراءها في كل مكان كشيء ما ملتصق بها أبدا..كانت غير متطلبة على الإطلاق , كان من الممكن أن نزورها دون أن ندفع أي شيء حتى , و بالمقابل كان من الممكن أن تطلب منا نقودا أو بعض الأشياء الأخرى إذا صادفتنا في الشارع , و كان خلدون يقول أنها كثيرا ما كانت تأخذ بعض الأشياء من دكان والده دون أن تدفع..ذات مرة زرتها وحيدا , كنت مفلسا يائسا و أبحث عن مأوى , عندما اجتزت الباب الواطئ فوجئت برجل يجلس على البساط الممدود على الأرض , كان يلبس بزة لضابط , لمقدم على ما أعتقد من النسر و عدد النجوم المرسومة على كتفيه , صعقتني المفاجأة لكن أم سليم دفعتني إلى الغرفة الصغيرة التي كانت تستقبلنا فيها قبل حتى أن أفهم ما الذي يجري , حتى الرجل نفسه وقف قائلا : تفضل , أنا ذاهب الآن , فقط طلبت كأس شاي من أم سليم , جلست و أنا أتحفز لحالة المنافسة المحتملة مع ذلك الرجل , لكن ابتسامة عريضة على شفتيه بددت ذلك التحفز , قال لي أنه قد نقل حديثا إلى دمشق , و لأنه يسكن عند أخيه القاطن في القدم في بيته المؤلف من غرفتين فقد اعتاد أن يبيت أحيانا عند أم سليم ليتيح بعض الحرية للزوجين , ارتشف الشاي من كأسه باستمتاع , حدثني باشتياق عن أطفاله الأربعة , عن أكبرهم الذي يدرس في المرحلة الإعدادية , و عن أصغرهم , صبية تبلغ عامين , ثم غادر بعد أن أنهى كأسه , كان من الواضح أنه سيعود ليبيت هنا بعد أن أنهي عملي و أغادر , قال لأم سليم دون أن يلتفت إليها أنه سيذهب إلى السوق و سألها إذا كانت تريد أي شيء , طلبت منه شيئا ما يخص ذلك الطفل أسمر البشرة الذي كانت تسميه ابنها ثم انتفض خارجا و أقفل الباب وارءه بصمت..في مرة أخرى فاجأني أبو زكي , بائع المازوت و زيت الكاز الذي يجوب ركن الدين على عربته التي يجرها حصان عجوز مثله , جلست هناك في مواجهة ذلك الرجل الخمسيني الذي كان يرمقني بنظرة فيها شيء من الإعجاب , الذي زاد ما أن عرف أنني أدرس في كلية الحقوق , : أي أن الأستاذ سيصبح محامي بعد الجامعة , و أردف قائلا : ما شاء الله ! كان هذا الإعجاب غريبا و غير معتاد بالنسبة لي أنا الذي أشعر بتفاهة ما بعدها تفاهة من حياتي الدراسية , حاولت أن أكون ودودا , رغم أنني أبدو أبلها كلما حاولت أن أجامل أحدهم , سألته عن أطفاله , رد قائلا بأن الحياة صعبة , الحياة صعبة يا أستاذ!!..جاء الصيف و بدأ الحر يطارد النعاس في ليالي الصيف الطويلة , ظهرت سيارات أمريكية كبيرة في شارعنا كتب على مؤخرتها بجانب بعض الأرقام أسماء مثل الكويت , أبو ظبي , السعودية , دبي..وقعت المفاجأة بعد ذلك بفترة قصيرة , عندما شاهدنا أم سليم و هي تلبس ثيابا جديدة و تغطي ساقيها الممتلئتين بجوارب جديدة مثيرة , كانت تجر ابنها الأسمر كالعادة , بادرتنا بالكلام كقنبلة انفجرت فجأة في وجوهنا دون انتظار أو توقع : لا أريد أن أرى وجوهكم , أستقبل عشرين رجل و لا أشبع حتى الخبز , يا … الرجال , أصابتنا المفاجأة بما يشبه الشلل أنا و أحمد فيما كان خلدون وحده يرد عليها بنفس كلماتها الفاجرة..سرعان ما عدت إلى ملاحقة بنات المدرسة الثانوية في حارتنا , و عاد خلدون ليتردد على امرأة العفيف , أما أحمد فادعى أنه يكرس كل وقته للدراسة ولا وقت لديه ليفكر بالنساء..مر الصيف بقيظه و بجوه الممتلئ بالحشرات , بدأنا نشعر بنسيم الخريف عند المساء و أخذت السيارات الأمريكية الكبيرة تختفي من شارعنا..شاهدناها في مساء يوم تشريني معتدل ونحن نمارس عادتنا المحببة بالتسكع , عندما شاهدتنا من بعيد نادت علينا , و بدأت تمشي نحونا مباشرة , كانت جواربها المثيرة قد تمزقت في عدة أماكن , و كانت تلبس حذاءا أكبر من قدمها على ما يبدو بحيث كانت تسير بشكل مضحك دون أن تتمكن من رفع قدميها عن الأرض , نادتنا من جديد “يا أحبائي” ….
خاص – صفحات سورية –