اسرائيلالدور التركي في المنطقةصفحات العالم

لماذا ربحت تركيا معركتها الديبلوماسية مع إسرائيل ؟

مصطفى اللباد
خسرت إسرائيل أهم معاركها الديبلوماسية منذ انتهاء الحرب الباردة بعد أن اضطرت إلى تقديم اعتذارها إلى القوة الإقليمية البازغة تركيا، في خطوة تتجاوز بكثير مجرد حادثة دبلوماسية عارضة لتصل في معناها الأعمق إلى حد زعزعة الأفكار المستقرة التي روجتها إسرائيل عن نفسها في المخيلة الإستراتيجية الأميركية طوال العقود الماضية. وبالإضافة إلى هذه النتيجة الخطيرة فقد كشفت المعركة الديبلوماسية الأخيرة مع تركيا افتقار وزارة الخارجية الإسرائيلية بقيادة أفيغدور ليبرمان ونائبه داني أيالون ليس فقط إلى الكياسة واللياقة الديبلوماسية فهذا أمر كان معلوماً منذ سنوات، ولكن أيضاً الدراية بالتوازنات الإستراتيجية الأعمق في المنطقة ووضع إسرائيل منها. أظهرت المعركة الديبلوماسية الأخيرة حجم المأزق الذي تعيشه تل أبيب منذ بروز الدور الإقليمي لتركيا، بالرغم من كون إسرائيل الدولة الوحيدة في المنطقة التي تملك الأسلحة النووية.
بدأت المعركة الديبلوماسية الخاسرة إسرائيلياً عند قيام وزير الخارجية داني أيالون باستدعاء السفير التركي في تل أبيب أحمد أوجوز شليكول؛ احتجاجاً على مسلسل تلفزيوني تركي اعتبرته إسرائيل مسيئاً لها. وجسدت طريقة المعاملة غير اللائقة للسفير التركي شعوراً متنامياً لدى إسرائيل بعدم الرضا من السياسة التركية الجديدة في المنطقة ومساحات التأثير المتعاظمة التي تمتلكها تركيا فيها، وإن كان المسلسل التلفزيوني هو الحجة التي تم استخدامها للاعتراض. وإذ تعمد أيالون عدم مصافحة السفير التركي أمام الكاميرات، فإنه أمعن في عدم اللياقة عندما أجلس شليكول في مقعد أدنى مستوى من مقعده.
وبدا أيالون مرتاحاً أمام عدسات التليفزيون التي نقلت اللقاء في حين جلس السفير التركي وأمامه طاولة وضع عليها العلم الإسرائيلي فقط، علماً منه أن هذه الخطوة سوف تغازل شرائح اليمين الصهيوني المتطرف وتدعم حظوظ حزب ليبرمان اليميني داخل الائتلاف الحاكم. ولكن تركيا ردت في شكل قوي مشترطة اعتذاراً رسمياً عن معاملة سفيرها غير اللائقة، بل أمهلت تل أبيب يوماً واحداً، وإلا فإنها ستقوم بسحب سفيرها من هناك. بالطبع لم يتأخر الاعتذار الإسرائيلي عن الموعد الذي حددته تركيا بضغوط من بيريس وباراك ونتنياهو، فالدولة العبرية لا تستطيع رؤية علاقاتها مع تركيا وهي تنهار، وإلا فقدت أحد المرتكزات الأساسية لسياستها الإقليمية. ولم تكتف تركيا بذلك الاعتذار بل إن الرئيس عبد الله غول ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان رفضا لقاء إيهود باراك أثناء زيارته الرسمية الأخيرة إلى تركيا، في خطوة أرادت تركيا منها أن تظهر قدرتها على اتخاذ إجراءات تصعيدية أكثر حيال إسرائيل في المستقبل إذا اقتضت الضرورة ذلك.
كانت تركيا الدولة الأولى في المنطقة التي تعترف بوجود إسرائيل، ويبلغ حجم التبادل التجاري الحالي بين البلدين 10 مليارات دولار سنوياً، وهو مستوى غير موجود في التبادلات الاقتصادية بين دول المنطقة. البلدان كلاهما حليف أساسي للولايات المتحدة الأميركية لعقود طويلة خلت، كلاهما له أوثق الروابط العسكرية والإستراتيجية مع واشنطن، وكلاهما يملك اقتصاداً متطوراً مقارنة بباقي دول المنطقة فضلاً عن إمكان التناوب الديموقراطي على السلطة. إلى هنا تنتهي التشابهات بين الطرفين، وتبدأ مقارنات لا ينتهي أي منها في مصلحة إسرائيل. تملك تركيا حضوراً جغرافياً يفوق بما لا يقاس في أهميته كل الميزات الجغرافية التي تملكها إسرائيل سواء من حيث الحجم، أو من حيث الإطلالة البحرية أو لجهة الأهمية الجيوبوليتيكية. كما تحظى تركيا بكتلة بشرية ضخمة تتجاوز السبعين مليوناً من السكان في مقابل خمسة ملايين على الجانب الآخر. وتتمتع تركيا بروابط ثقافية تاريخية متميزة مع جوارها الجغرافي في الشرق الأوسط وقبولاً واسعاً بزعامتها الإقليمية. في حين لا تملك إسرائيل روابط ثقافية وتاريخية مع دول المنطقة، ناهيك عن عدم قبولها كدولة أصلاً من الغالبية الكاسحة لشعوب المنطقة بسبب استمرار احتلالها الأراضي العربية وبسبب مظلومية الشعب الفلسطيني.
ما زالت تركيا الحليف الإستراتيجي الأهم لتل أبيب في المنطقة، سواء على الصعيد العسكري أو على الصعيد الاقتصادي، وإذا انكسر التحالف بين البلدين وتحركت تركيا أكثر فأكثر إلى مواقف أقرب إلى الدول العربية، فسوف تتغير صورة التوازنات الراهنة في المنطقة لغير مصلحة إسرائيل في المدى البعيد. استغلق على أيالون وليبرمان أن يفهمها مسألة مفتاحية تتلخص في أن خفض مستوى علاقات تركيا مع إسرائيل من جراء المعركة الديبلوماسية الأخيرة لن يضر تركيا كثيراً إن حدث، بل ربما سينفعها داخلياً عبر جَسْر الفجوة بين حزب العدالة والتنمية الحاكم ومعارضيه العلمانيين، إذ كل من الفريقين يصطف خلف المصالح الوطنية التركية. كما أن خفض مستوى هذه العلاقات لن يضر تركيا إقليمياً، بل يزيد من قبولها زعيماً إقليمياً في المنطقة.
كانت رسالة أنقره إلى تل أبيب واضحة وحازمة: إسرائيل تحتاج إلى تركيا أكثر بكثير مما تحتاج تركيا إلى إسرائيل! لا تستطيع إسرائيل أن تكسب عداوة إيران وتركيا معاً، لأن ذلك سينسف البقية الباقية من “نظرية المحيط” التي اخترعها رئيس الوزراء الأسبق مناحم بيغن. وتقضي هذه النظرية بأنه يتوجب على الدولة العبرية مد جسور الصداقة مع الدول غير العربية المحيطة والتحالف معها، وصولاً إلى ضغط  الجوار الجغرافي على الدول العربية. وهو ما حدث طيلة الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وكان واضحاً أن هذه الدول هي إيران وتركيا وأثيوبيا. ولأن إيران لم تعد كذلك منذ انتصار ثورتها عام 1979 بل أنها أصبحت منافساً إقليمياً شرساً لتل أبيب، فمن شأن خروج تركيا من المعادلة أيضاً أن يُحوّل دول المحيط من ضاغطة على الدول العربية ومشتتة لانتباهها إلى فاعلة في تهميش الدولة العبرية وعزلتها في  المدى القصير وإلى تهديد إستراتيجي في المدى البعيد.
تصعد تركيا بثقة في معارج الزعامة الإقليمية وتحرز نقاطا متواصلة في ساحات المنطقة، ويترافق ذلك مع صعود دراماتيكي في المكانة في المخيلة الإستراتيجية الأميركية. ارتقت تركيا نوعياً من حليف عسكري لواشنطن يمنع موسكو من الوصول إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط، وهو دور برعت فيه تركيا منذ تأسيس جمهوريتها عام 1923 حتى الآن، إلى حليف لا غنى عنه لواشنطن في معركتها الكونية الكبرى في الأوراسيا ومعركتها المصيرية في الشرق الأوسط.
تتعزز شراكة أنقره وواشنطن في ما يخص الشرق الأوسط عبر ثلاثة محاور: الأول تسهيل الانسحاب الأميركي الآتي من العراق وضمان ألا يتحول قاعدة ارتكاز ضد المصالح الأميركية في المنطقة، والثاني إدماج سوريا في حراك إقليمي مناسب للمصالح الأميركية وليس في الاستقطاب الحالي مع المحور الذي تقوده إيران، والثالث لأن تركيا هي الطرف الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه عند الشروع في احتواء إيران. هكذا يمكن تشبيه دور تركيا بورقة الجوكر في لعبة التوازنات الإستراتيجية الأميركية في المنطقة. أما إسرائيل، وبغض النظر عن مجموعات الضغط التي تملكها داخل الإدارة الأميركية، فإن قدرتها على خدمة المصالح الأميركية في المنطقة في هذه القضايا تقل بأشواط عما تملكه تركيا من إمكانات.
الجغرافيا ليست في مصلحة إسرائيل وأسلحتها النووية ليست كافية لإثبات الحضور الإقليمي، وعند عقد المقارنة وإجراء المقايسة مع تركيا فإن قيمة إسرائيل الإستراتيجية في المخيلة الأميركية لا ترقى إلى مثيلتها التركية، لأن تركيا تملك من الإمكانات الجغرافية والتاريخية وهوامش التأثير ما لا تملكه إسرائيل ولا تستطيع امتلاكه حتى. وفي حال تصادم الطرفان التركي والإسرائيلي، وهو ما كادت تصرفات نائب وزير الخارجية الإسرائيلي أيالون تتسبب بحدوثه، فمن غير المضمون أن يكون لذلك عواقب وخيمة أميركياً على تركيا نظراً للاحتياج الأميركي الشديد لها. هنا النتيجة الأخطر للمعركة الديبلوماسية التي خسرتها إسرائيل في الأيام الماضية، لأن مكانة إسرائيل الاستثنائية في دوائر الإستراتيجية الأميركية العليا لم تعد كذلك، على الأقل منذ عودة تركيا إلى الشرق الأوسط وصعودها الإقليمي الباهر في السنتين الأخيرتين.
تملك تركيا ميزات (جغرافية وتاريخية وثقافية وقبولاً إقليمياً) لا تملكها الدولة العبرية، ولا يتصور حتى أن تملكها في المدى المنظور والمتوسط. وتزداد مشكلة إسرائيل تفاقماً عند ملاحظة أنها لا تملك الوسائل اللازمة للتأثير على خيارات تركيا الإستراتيجية، في حين تملك تركيا هذا التأثير على الدولة العبرية بسبب اعتماد الأخيرة على تركيا كحليف رئيسي في المنطقة. المغزى الأهم للمعركة الديبلوماسية بين أنقره وتل أبيب يتلخص في فهم تركيا العميق لمحدودية القوة الإستراتيجية الشاملة لإسرائيل، وأن هذا الفهم والدور المحوري الذي تلعبه تركيا في الإستراتيجية الأميركية قد مكنا أنقره من الاصطدام بتل أبيب والخروج منتصرة بالفعل حتى دون إطلاق رصاصة واحدة!
( مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والإستراتيجية – القاهرة)
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى