العراق: مصالحهم وغرائزنا
حازم صاغيّة
وصلنا من تسريبات الصحف الأميركيّة أنّ «قوّات الاحتلال الأميركيّ» للعراق ليست مقتنعة بمنع صالح المطلك من المشاركة في العمليّة السياسيّة. ومن قبل نسبت التسريبات رغبة واشنطن في الحوار مع البعث، أو مع بعث ما، وأنّها هي التي كانت وراء «الصحوات» السنّيّة التي لم تلق هوى في نفوس السياسيّين الشيعة. وقد تلاحقت تطوّرات تجزم بصحّة التسريبات وتؤكّد صدقها. وقبل ذلك شاع أنّ الولايات المتّحدة، رغم كلّ الجموح الذي عُرفت به إدارة بوش، ليست مؤيّدة لتنفيذ حكم الإعدام بصدّام حسين، إلاّ أن «سياسيّين محليّين» ضغطوا في هذا الاتّجاه وألحّوا.
ويعرف العراقيّون أنّ البريطانيّين كانوا قد «نصحوا» في 1946، بعد الاستقطاب الحادّ للحرب العالميّة الثانية، بإغلاق السجون وتوسيع الحريّات الصحافيّة وإجازة خمسة أحزاب في عدادها «الحزب الوطنيّ الديموقراطيّ»، فضلاً عن إطلاق الحياة النقابيّة التي احتلّ الشيوعيّون مواقعها القياديّة. غير أنّ الحالات هذه لم تمُس تحوّلات صلبة لأنّ الوصيّ على العرش يومها، الأمير عبد الإله، تخوّف منها. هكذا سقطت حكومة توفيق السويدي، صاحبة تلك الإنجازات، بعد أقلّ من أربعة أشهر على تشكيلها.
وهذا لا يعني الدفاع عن الأميركيّين، ومن قبلهم البريطانيّين، كما لا يعني نفي مصالحهم في العراق. والحال أنّ العكس تماماً هو المقصود: إذ بسبب مصالحهم تحديداً، كان يهمّهم إحداث انفراجات في العلاقات الأهليّة تؤمّن استقرار البلد المعنيّ، وفي عداده السوق طبعاً، كما تقرّبه من واقع الدولة ومن صورة المجتمع.
وهي وجهة لا تلخّص بالتأكيد السياسات الاستعماريّة والأجنبيّة، إذ في حقب عدّة تحكّمت اعتبارات الصراع على النفوذ والمواقع الاستراتيجيّة كما تراجعت المصالح الاقتصاديّة. وهذا ما حصل تحديداً في سنوات الحربين العالميّتين الأولى والثانية، فغلّب المستعمرون سياسات يخدمها التفكّك والسيطرة أكثر مما تخدمها الوحدة والحريّات. بيد أنّنا إذا صدّقنا النقد الرائج للاستعمار صدّقنا أن المصالح هي، في آخر المطاف، ما جعله استعماراً. والحمد لله.
فما نشهده اليوم في العراق هو أنّ الغرائز تطغى طغياناً بيّناً على المصالح، ما عدا الاستزلاميّ والزبائنيّ منها. هكذا يأتي الموقف من المطلك (الذي اكتُشف خطره البعثيّ بعد سبع سنوات على مشاركته!) ليدلّ إلى قيام النظام البديل على قاعدة الثأر والانتقام. و»القانون» الحاكم هنا أنّ الحزب الطائفيّ كلّما شاء المزايدة على منافسيه في طائفته، برهن أنّه أكثر طائفيّة منهم، وأنّه أكثر استعداداً لحماية الجماعة التي يتنافس عليها مع منافسيه الطائفيّين. فما أن يبدي «حزب الدعوة» إشارة تنمّ عن تغليبه الوطن على الطائفة حتّى يتراجع عنها مبرهناً أنّ الطبع يغلب التطبّع.
هكذا نُحلّ عدداً من الصدّامات الصغار المفتّتين محلّ صدّام الواحد الأحد، ونُحلّ الثأر الأهليّ، تمارسه جماعة بحقّ أخرى، محلّ ثأر مقابل كان أشدّ تمكّناً من جهاز الدولة ومن ضبط المجتمع.
وعلى النحو هذا يتراءى كما لو أنّ تاريخ العراق الحديث، وتاريخنا الحديث جميعاً، يترجّح بين قطبين لا ثالث لهما: الاستبداد الكبير المصحوب بالتوحيد القسريّ والاستبداد الصغير المشوب بالتفتّت. بل يتراءى، في قراءة لحركات «الاستقلال عن الاستعمار»، كما لو أنّ المعنى الأعمق للاستقلالات مفاده أنْ اتركونا وشأننا كي يستطيع قويّنا أن يستبدّ بضعيفنا. ونذكر أن فجر الاستقلال العراقيّ الأوّل في 1932 اصطبغ بدماء الأشوريّين المهيضي الجناح بعد عام واحد فقط.
فنحن شعوب نفعلها المرّة بعد الأخرى، ليس بسبب «مصالحنا»، بل لأنّ غرائزنا، وهي بضاعتنا التاريخيّة، متقدّمة على تلك المصالح. وهذا على عكس «الاستعمار»، صاحب المصالح التي لنا فيها مصالح.
الحياة