صعدة وشبوة وعدن… ثم صنعاء «ولو طال السفر»
موفق نيربية *
في منتصف العام 2008، قال مارك كاتز، وهو عالم سياسي في جامعة جورج ميسون اشتغل حوالي ربع قرن في دراسة الأوضاع اليمنية، إنه» حتى لو سار كلّ شيء على ما يرام في العراق، أو حصل تقارب مع إيران، فسيبقى اليمن قنبلة موقوتة في المنطقة». لكننا اعتدنا على التركيز على المؤامرات الخارجية، وعلى براءتنا من دمائنا. فلم يؤمن العرب بوجود الخطر على اليمن ومنه إلا مؤخراً، إيماناً ربما لن يصدقه العمل.
كالعادة، نتعلّم الجغرافيا من الأنباء والكوارث. فصعدة- مثلاً- أصبحت مدينة ومنطقة شهيرة، وشبوة محافظة معروفة يبحث البعض في تركيبها الجغرافي والطبوغرافي، في حين يبحث الكبار في السن عن ذكرٍ لعدن فلا يجدونه، ويكاد ون أن ينسوا صنعاء لولا ورود اسمها في مقدمة التقارير الصحفية.
تقع صعدة في أقصى الشمال الغربي، وهي عاصمة الإمامة الأولى التي استمرت ألف عام حتى 1962. هي الآن فقيرة وضعيفة ومتنحّية لكنها صلبة العود بحيث يتخيل البعض أن الإمامة يمكن أن تنبعث منها من جديد.ّ بدر الدين الحوثي، وابنه حسين بعده ثم عبد الملك وآخرون، هم من أولئك الحالمين الذين حرّكتهم أوضاع صعدة البائسة بما لحقها من الإهمال الحكومي والتهميش، واستلهموا «روح» ثورتهم من روح الله الخميني، وهذا هام في التقييم السياسي للأخطار المحتملة، مع أنه ليس سبباً حاسماً وحده لتأكيد العلاقة المادية للحركة مع إيران الحالية أو حزب الله.
يحلمون بقيادة الزيود (الزيديين) ثم اليمنيين جميعاً على النسق القـــديم، ولا يجـــدون طريــقاً إلا بحـــَرف الزيــدية عن اعتدالها الشهير، وشحذ الحميّة بالتطرف، واستعارة مفردات الثورة الإسلامية في إيران. لكن حلمهم يبقى حلماً في الغالب الأعم، لأن اليمن ملأى نصفها- أو أقل أو أكثر- بالزيديين الكثر الآخرين، حتى أن خصمهم الأكبر علي عبد الله صالح وعائلته منهم أيضاً. لكن صعدة والحوثيين موضوعان لا يمكن معالجتهما بالحديد والنار وحدهما، بل يحتاجان إلى سياسات أخرى لا تتوفر حتى الآن.
صعدة مصدر لقلق إقليمي، لكن شبوة مصدر لقلق دولي يتعلّق بالإرهاب. وهذه الأخيرة محافظة تمتد من الحدود القديمة بين جزئي اليمن الشمالي والجنوبي في وتمتد جنوباً وشرقاً في حضرموت. ويسمع العالم كله اسمها حالياً مع أخبار تنظيم» القاعدة في الجزيرة العربية»، الذي تمركز عسكرياً ولوجستياً؛ وبشكل أقرب إلى العلنية؛ في اليمن وشبوة خصوصاً. ولا يعني مقتل «أمير ولاية شبوة» مؤخراً أن الأمر في تراجع، بل ربما سيتزايد، مع وجود أرض ملائمة له في الجنوب، الذي يشكّل غليانه الشعبي مشكلة ثالثة كبيرة تحت العنوان اليمني.
فنحن – أنا على الأقل- لم نعد نسمع باسم عدن (وأصبح حي كويتر الشهير في أيامنا من الماضي)، وهي المدينة التي كانت قديماً واحداً من أهم أربعة موانئ في العالم، وما زالت تمتلك مقومات لدور كبير، يؤهلها له موقعها وتركيبتها السكانية التي طالما احتوت على الثقافة والمجتمع المدني، في بلاد تنهش فيها القبلية والطائفية.
يعكس وضع عدن حال الجنوب منذ حرب 1994 التي انتصرت فيها الوحدة على الانفصال، والرئيس صالح على منافسيه. حيث ألغيت الاتفاقات بين الكيانين السياسيين الأكبر في الإقليمين، وتم تعديل الدستور لتركيز السلطة رئاسياً، ومصادرة مقرات الحزب الاشتراكي وأمواله، وتسريح الضباط الجنوبيين غير الموثوقين من الجيش، وتمليك شماليين مقربين أراضيَ في الجنوب، وتهميش عدن.. كما يُقال.
الآن، هنالك حراك واسع ونشيط، يأخذ رسمياً اسم «الحراك» كمظلة لتوحيد القوى السياسية وتحركها- السلمي- باتجاه تحصيل حقوق الجنوب ولو من طريق الانفصال مجدداً، بالاستفادة من أخطاء الحكومة ومفاعيل الاستبداد الذي يأخذ وجهاً ديموقراطياً، أو خداً واحداً من هذا الوجه، لا يلتقي مع الخد الآخر. وفي ما يخص هذا الحراك، رغم تنوعه ونزاعاته الداخلية على القيادة أو على درجة الصراحة في الميول الانفصالية أو الوحدوية، فإنه يستطيع أن يتحول قريباً إلى مشكلة السلطة الأولى، بالإضافة إلى تأثير حقيقة أن الخصم واحد عند القاعدة وقوى الحراك الجنوبي، وما لذلك من دور في تسهيل مهمة القاعدة محلياً وإقليمياً ودولياً، ومساعدتها على تصليب أساساتها على الأرض.
القاعديون حتماً يستفيدون من استنزاف قوة الحكومة شمالاً عند الحوثيين، لكنهم رسمياً من أعدائهم، وأقرباؤهم بالروح في محافظة صعدة يحاربون الحوثيين بشراسة. وأهل الحراك الجنوبي الأقرب إلى أن يكون بعضهم من شظايا الاشتراكيين والمجتمع المدني، أو تحت خيمة الوطنية والقومية ومعاداة التدخل الإمبريالي عموماً، يساعدون القاعدة على التمدد والراحة في تدريباتها وتحركاتها بشكل مقصود وبراغماتي، أو غير مقصود.
كذلك تختلف السلطة التي تمركزت عائلتها في الجيش بفرقه، وفي الحرس الجمهوري حيث يتأسس التوريث على الطريقة الموصوفة، مع القوى السياسية الأخرى في الشمال، ومع «العائلة» الثانية من آل الأحمر، بعد تحلل التحالف بينهما، الذي قام عليه النظام الحالي في بدايته. وكما جرى مع سلطات عربية أخرى استثمرت في القبلية والطائفية لخلق عصبية حولها، أخذت تلك الحالة تنخر في الجسم الوطني وتنمو، لتهدد لا بانفصال الجنوب وحده، بل بانقسام ذلك الجنوب إلى أقاليم تتقاطع مع السلطنات التي كانت في أيام الاحتلال البريطاني. وطريقة تقديم قيادات «الحراك» وتنافسها وانتماءاتها يمكن أن تساهم في إعطاء هذه الصورة الكئيبة.
تلك عقوبة القدر للأنظمة العربية التي لا يختلف كثير منها عن الحالة اليمنية، بشكلٍ جزئي أو كامل، حيث لا تتردد في سلوك أيّ دربٍ على مذبح الهدف «الوطني» الأول، وهو الحفاظ على السلطة بمعناها المملوكي (القمعي- الريعي- اللامنتمي). في حين أن هنالك استبداداً آخر في علوم التاريخ والسياسة، يؤسس للدولة الوطنية الحديثة من خلال قوة الدولة المركزية، ثم يستسلم بشرفٍ لحكم القانون، فالديموقراطية بجناحيها: الحريات الأساسية، فسيادة الشعب وتداول السلطة.
لا يمكن ذلك إلا بـ «النزول» إلى الحوار في إطار مؤتمر وطني جامع تُسلّم الأمور كلها إلى نتائجه وقراراته، وذلك غير الحوار الذي يتكلم به أهل السلطان حين يكونون في الزاوية وحسب، لتمرير مرحلة آلامهم، من دون سؤال عن آلام شعوبهم. وهذا الحديث أصبح صرخة في البرية… فلا اليمن سعيد، ولا الحكمة اليمانية سائدة، بل لا يوجد لدينا من بقايا حكاية الهجرات اليمنية القديمة إلا السيف اليماني فوق رقابنا… وحده القات لا ينقصنا.
* كاتب سوري.
الحياة