الوجه الآخر لداود أوغلو
محمد علي بيراند
من يقرأون مقالاتي يعلمون أنني غالباً ما أكتب عن التغيير الكبير الذي يُدخله داود أوغلو في السياسة الخارجية لهذه البلاد، في البداية كمستشار رئيس الوزراء لشؤون السياسة الخارجية، ولاحقاً كوزير للخارجية. وقد كتبت مراراً وتكراراً أيضاً أن هذا لا يعني أن “تركيا تغيّر اتجاهاتها”، بل على العكس، إنها تفعل ما يلزم.
يملك داود أوغلو خلفية أكاديمية. وعلى الرغم من ذلك، استطاع التخلّص من المفاهيم التجريدية واللغة الأكاديمية. وبدأ يطبّق بنجاح السياسة الدولية والمواقف البراغماتية اليومية.
لقد بث الحياة من جديد في الوزارة. ومنحها مركزاً مجلّياً. تطرّق إلى محرّمات لم يكن بالإمكان مسّها من قبل. وحقّق نتائج جيدة في مسائل السياسة الخارجية التركية، وعلى رأسها مسألتا قبرص وأرمينيا. لقد واجه أموراً عدة كانت قد وُضِعت جانباً لأننا نخشى مسّها.
إنه يستحق التصفيق والاستحسان حتى الآن. لكن هناك الوجه الآخر للعملة.
لقد أعلن أن تركيا زادت أخيراً “علاقاتها الاستراتيجية”. “العلاقة الاستراتيجية” تقام مع عدد محدود من البلدان، وإلا لا معنى لهذا المفهوم. على سبيل المثال، أقامت الولايات المتحدة علاقات استراتيجية مع كندا وإنكلترا وإسرائيل. والباقي مجرّد كلام. وتركيا توصَف أيضاً بأنها “شريك استراتيجي”، إنما فقط بالأقوال. في الواقع، نحن من نستعمل العبارة بوتيرة أكبر. أما الأميركيون فلا يتلفّظون بها سوى من حين لآخر لاسترضائنا. المسألة الأخرى هي الجهود المتزايدة في مجال المفاوضات.
داود أوغلو يتسبّب بتشنجات لنفسه ولطاقمه
موقع “الوسيط” يجلب هيبة لصاحبه، لكنه يحمل مخاطر أيضاً. إذا نجحت، يصفّقون لك. لكن عندما تفشل، تخسر أحياناً الطرفَين اللذين كنت تحاول التوسّط بينهما. لقد شمّرت تركيا عن سواعدها مرات عدة متتالية في مجموعة واسعة من المسائل، من فلسطين إلى ليبيا، ومن جورجيا إلى باكستان، ومن إيران إلى اليمن، مما زجّها في وضع صعب جداً. لدى داود أوغلو جدول مواعيد حافل بالأسفار. ليس واقعياً أن يعمل وزير وطاقمه المحدود جداً في وزارة الخارجية على حل مشكلات بلاده ومشكلات الآخرين على السواء. من المستحيل مواكبة الوتيرة جسدياً. في الواقع، لقد أخذ دواد أوغلو وموظفوه على عاتقهم مسؤوليات أكبر مما يستطيعون أن يتحمّلوا. بهذه الطريقة، نواجه خطر أن ينظر إلينا الآخرون بأننا بلد يُقبِل على المسائل بحماسة شديدة لكنه يعجز عن السير بالأمور حتى خواتيمها. تتزايد فاعلية السياسة الخارجية التركية، لكن يجب زيادة عدد الموظفين والإحجام عن السعي لمعالجة كل المسائل. الانتقائية مفيدة جداً هنا.
إنهم “عمال مجتهدون”
لا مجرد “سادة أعزاء”
الأسبوع الماضي، قامت وزارة الخارجية بأمر لم يسبق له مثيل. أمضى نحو 180 سفيراً يمثّلون تركيا في مختلف أنحاء العالم أربعة أيام في أنقرة، ثم توجّه بعضهم إلى ماردين لحضور اجتماع تقويمي عام.
في الحقيقة، يُعقَد هذا النوع من الاجتماعات منذ سنوات. والهدف من استدعاء السفراء إلى أنقرة هو الإصغاء إليهم وإطلاعهم على نيات الوزير. لكن هذه المرة، كان الوضع مختلفاً. فالنقطة المهمة هنا هي أن السفراء اطّلعوا طوال أربعة أيام على المستجدات في أميركا الجنوبية من وزير خارجية البرازيل، والتطورات في الشرق الأقصى من وزير الخارجية الياباني، والتطورات في أوروبا من وزير الخارجية الألماني، والمستجدات في الشرق الأوسط من الرئيس الفلسطيني محمود عباس.
كما اطّلعوا من السيد علي طلعت على مجريات المفاوضات في قبرص التي تُعتبَر الحدث الأهم لسنة 2010، ومن نائب رئيس وكالة الاستخبارات الوطنية ووزير الداخلية أتالاي على تفاصيل المسألة الكردية.
يعامل المجتمع التركي ديبلوماسيينا في شكل عام على أنهم “سادة أعزاء”. عالم البيزنس والعالم الأكاديمي، إلى جانب رئيس الوزراء والسياسيين، معجبون بهم لكنهم لا يستطيعون أن يمنعوا أنفسهم من النظر إليهم بهذه الطريقة. وتعني عبارة “السادة الأعزاء” بأنهم يكتبون رسائل ديبلوماسية ويحضرون حفلات الكوكتيل، وبأنهم انطوائيون. لكن الواقع مختلف. يجب مناداتهم “العمّال المجتهدون”.
في الواقع، في اجتماع الأسبوع الماضي، وإلى جانب إطلاعهم على شؤون ديبلوماسية، اطّلعوا على مسائل تتعلق بمبيعات منتجاتنا وعلى تنفيذ قنوات الطاقة. ليس الطاقم والموازنة الحاليان كافيين للوزارة. ثمة حاجة إلى مزيد من الموظفين وإلى موازنة أكبر للحاق بوتيرة داود أوغلو. لقد قرّروا خلال الاجتماعات تحطيم جدرانهم. ووضعوا خطة عمل للمشاركة في مؤتمرات في الجامعات والتعامل بتفصيل أكبر مع مشكلات البلاد.
تتصدّر وزارة الخارجية لائحة النوافذ التي تتيح لنا الانفتاح على العالم بالطريقة الأكثر فكرية وتجاوباً. لنأمل أن تلاحظ الإدارة ذلك وتتعامل مع الوزارة انطلاقاً من مكانتها الحقيقية.
(كاتب عمود خاص في صحيفة “حرييت” التركية، ترجمت النص عن الانكليزية نسرين ناضر)
النهار