تركيا المفيدة
امين قمورية
العلاقة التركية – الاسرائيلية منذ اعتراف انقرة بتل ابيب عام 1949 محكومة بعقدة فلسطين. ففي عام 1967 اثار احتلال القدس والضفة وغزة غضب تركيا الشديد، وفي 1980 انزلت انقرة علم الممثلية الديبلوماسية الاسرائيلية لديها ردا على قرار ضم المدينة المقدسة، كذلك كان غضبها عارما اثناء اجتياح لبنان عام 1982، وبعد مجزرة جنين عام 2002 خرج رئيس الوزراء التركي انذاك بولنت اجاويد عن طوره واصفا حملة “السور الواقي” الاسرائيلية بانها ابادة للشعب الفلسطيني.
وفي طبيعة الحال ليس شرطا ان يكون المرء ناشطا في “حماس” او اي من الحركات الثورية العربية (ان وجدت) حتى يدرك ان ما ترتكبه اسرائيل في غزة منذ سنوات هو تنكيل وليس سياسة، وتاليا ليس مستغربا ان يفجر اردوغان غضبه على الاسرائيليين مرة في وجه بيريس ومرة في وجه اولمرت ومرات في وجه نتنياهو ووزير خارجيته. المستغرب ان يرتفع في الوقت عينه علم اسرائيل في ابو ظبي وينحدر السور الواطي المصري في بطن رفح لملاحقة حليب اطفالها!
في الكباش التركي – الاسرائيلي الذي فجره “وادي الذئاب” وعلى خلفية مايجري في فلسطين، سجلت انقرة نقطة لمصلحتها على حساب اسرائيل عندما اجبرتها على الاعتذار بعد اهانة “المقعد المخفوض” التي تعرض لها السفير التركي في تل ابيب. وهذا الاعتذار النادر لدولة اعتادت تحدي العالم ومن جملته الولايات المتحدة، جعل اردوغان بطلا في الشارع العربي الذي “فش خلقه” بقوة غيره عملا بالمثل القائل “صلعاء وبتشوف حالها بشعر بنت خالها”.
هذه “الخبطة” الديبلوماسية التركية القوية، وان كان مردها غطرسة اسرائيلية غبية، فانها اثلجت صدور غلاة المتحمسين للقضية الفلسطينية الذين راحوا يراهنون على طلاق نهائي بين انقرة وتل ابيب من شأنه ان يضع اسرائيل في الزاوية الصعبة، حتى ان بعضهم قال ان “اسرائيل لاتفهم سوى التركية”.
بيد ان هذا الانغماس التركي المستجد في شؤون المنطقة وارتفاع حرارة التوتر بين انقرة وتل ابيب نظر اليه آخرون من زوايا مختلفة. البعض فسر الحماسة التركية لفلسطين بانها استثمار جيد للورقة الفلسطينية في البازار التركي- الاسرائيلي وستار يخفي خلافا امنيا مستجدا بين اسرائيل وتركيا احد اوجهه مماطلة اسرائيل في تسليم صفقة الطائرات من دون طيار المتطورة التي يحتاج اليها الجيش التركي لملاحقة المسلحين الاكراد، وعندما يطوى هذا الخلاف تعود المياه الى مجاريها. البعض الاخر سأل عن موقف واشنطن “الصامت الاكبر” ازاء ما يجري وعما اذا كان اردوغان ينطق بعلمها وخبرها بما لاتريد الولايات المتحدة ان تنطق به حيال تعنت اسرائيل ومواقفها الرافضة للسلام. والبعض الثالث كان اكثر تحفظا اذ اعتبر ان ما يحدث بين الجانبين في الاونة الاخيرة ليس سوى سحابة صيف لن تؤثر على الروابط والمصالح المعقدة والمترابطة بين الجانبين وان ما يجري ما هو إلا صراع لتحديد الاوزان والاحجام لا كسرها قبل تحضير المنطقة لمرحلة جديدة يجري الاعداد لها على نار حامية.
في اي حال، ان تركيا تتغير وتفرض نفسها لاعبا اقليميا، ولو كان ثمة مشروع استراتيجي عربي موحد لكان موقف انقرة اليوم المنقلب من متحالف رئيسي مع اسرائيل الى مشروع ند بارز لها، بمثابة اكبر سند له. لكن في غياب مشروع، كهذا، فان النبض التركي الجديد ليس من شأنه ان يجعل اسرائيل تحسب الف حساب لهوجها المتمادي والمتفلت من كل قيد فحسب، بل من شانه ايضا ان يعقلن الاندفاعة الايرانية في المنطقة ويحفزها على التعاون بدل المواجهة ومراعاة الحساسيات القائمة. ولعله كذلك يعلّم الدول العربية الكبرى درسا في المواقف التي سحبتها من التداول!
النهار