شروط الإصلاح وإلغاء الطائفية السياسية في لبنان
د. منى فياض
موضوع الإصلاح في لبنان من الموضوعات الأزلية المستعادة، والتي لا تعالج جدياً في أي إطار، وتحت أعذار الأزمات السياسية التي تعصف بالبلد بشكل دوري. ويتم التعامل مع الإصلاح، وكأنه يشكل نوعاً من ترف يمكننا أن نتفرغ له بعد انتهائنا من أزماتنا، متناسين أن تأجيله هو سبب أساس لهذه الأزمات، وأنه يشكل جزءاً من الحلول المفروضة لها.
ويبدو الإصلاح من طريقة طرحه في لبنان، وكأنه وصفة كالدواء، نأخذ جرعاته عند الضرورة وينتهي الأمر. لكن الأخطر استخدامه كسلاح يشهر في وجه الخصم عند تأزم الأمور حول موضوع ما، ويكون وسيلة لطي الملف المقصود. بينما الاصلاح في حقيقة الامر، ليس انتقاماً، ولا هو وصفة ثابتة ونهائية، بل هو مشروع ينمو ويتطور بالتدريج مع التقدم في إنجاز خطواته. وبمعنى ما فإن بناء دولة الكل للكل، هو منطق الإصلاح وهدفه. فليس هناك نصف إصلاح. وكما أنه لا إصلاح بلا الدولة. كذلك لا دولة من دون إصلاح.
ولا يتم الإصلاح بالسياسة وحدها، بل بالاقتصاد والتنمية المستدامة، بما تعنيه من عقد اجتماعي حديث، وعبر التربية واقتصاد المعرفة وتنظيم المدن. ومن هنا نجد أن ما يعيق الإصلاح هو التركيبة الداخلية نفسها المعيقة لبناء الدولة والاختلال على مستوى شبكات الأمان التي تشكل مقومات العقد الاجتماعي.
ويظل السؤال قائماً: هل يمكن للإصلاح أن يتم في ظل الوضع الراهن؟ ربما تدل حركة المصالحات القائمة على قدم وساق على إمكانية البدء بورشة إصلاح حقيقية. لكن حذار من الغرق في ظواهر الأمور، فربما تدلنا حركة المصالحات المتفشية هذه بين بعض القيادات السياسية للطوائف والمذاهب والقبائل اللبنانية، واستعصاء بعضها الآخر على هذا التصالح، على مدى تجذر الكراهية والأحقاد التي ترسخت بسبب الحروب المتكررة، وبسبب الانقسامات التي طالت بنية المجتمع اللبناني في صميمها، وبدل أن تتعمق روح المواطنية، طغت مشاعر التعصب والطائفية والمذهبية بطريقة لم يعهدها المجتمع اللبناني من قبل.
والاختلافات السياسية التي كان يمكن تدبرها في السابق، وإيجاد حلول لها بروح وطنية وعلى قاعدة التنافس السياسي صارت تتخذ منحى مذهبياً وطائفياً، ما يحيل كل خلاف سياسي إلى صراع مذهبي. وفي هذا الوقت الذي بلغت فيه الطائفية والمذهبية أوجهما، وتغلغلت هذه المشاعر إلى جميع المستويات، من البيوت إلى المؤسسات، مرورا بالمدارس وبالشارع، بحيث صارت مسألة معالجتها تحتاج إلى جهود جبارة قد تمتد إلى سنوات مديدة للعمل على معالجة ذيولها.
وفي هذا التوقيت بالذات، الذي تشتد فيه الصراعات والتجاذبات، ويبلغ الاحتقان مداه، يشعر جزء كبير من اللبنانيين بالإحباط والخيبة والخوف من اعتداء إسرائيلي.
برزت التجاذبات حول التعيينات وآلياتها، واشتد التنافس حول كيفية الحفاظ على عملية المحاصصة بين الأطراف السياسية في لبنان؛ وفي الوقت نفسه تتم المطالبة بالعمل على تهيئة إلغاء الطائفية السياسية كنوع من أنواع تطوير النظام اللبناني وإصلاحه. لكن إذا كان المقصود بذلك الإصلاح حقا، فالسؤال هو كيف يمكن لمن ينادي علناً بالمحاصصة أن يكون الإصلاح غايته؟ وهل المطالبة بإلغاء الطائفية السياسية هي الوسيلة الوحيدة للإصلاح؟؟ أليس الأجدى البدء بالإصلاح في ظل الوضع الراهن، انطلاقاً من مسألة التعيينات بالتحديد؟ وبدل المطالبة العلنية بالمحاصصة التي يحاولون التخفيف من وطأتها، بجعلها تتم تحت راية «أفضل العناصر وأكفئها عند كل مذهب وفئة سياسية»، أن يتم البدء بالإصلاح عن طريق جعل التعيينات تتم وفق معايير محددة تعتمد الكفاءة والخبرة والاختصاص عبر مباريات علنية وشفافة تبتعد عن المحاصصة بجميع أشكالها، وتبدأ بتمرين عملي لكسر الاحتكار الطائفي والتمثيل المذهبي.
لماذا يشكل البدء بالإصلاح من هذا الباب المدخل الأنسب؟
لأن آليات التعيين السائدة، التي تخلط بين الخاص والعام، تجعل من الموظف من حصة الجهة التي عينته ويمثلها في الإدارة. وهناك تناقض جوهري بين المحاصصة، بما هي آلية تدعم الولاء والتبعية للزعيم، أو الطائفة، أو المذهب بما يؤدي إلى مأسسة الفساد، وجعله نمطا وطريقة في إدارة الشأن العام، وبين المطالبة بإلغاء الطائفية السياسية، بما هي الخطوة الأولى المؤدية إلى مجتمع مواطني يكون فيه الناس سواسية وخاضعين جميعهم لدولة القانون.
ولسنا هنا في معرض نقاش صحة، أو عدم صحة هذا التسرع في طرح الإلغاء او آلياته، لكن ذلك يعني فيما يعنيه في الدرجة الأولى إلغاء التمثيل الطائفي في الوظائف السياسية والوظائف العامة، فنصبح في دولة مدنية وفق مبدأ الإقرار باستقلالية السلطة السياسية عن المفاهيم الدينية كافة.. ويعني تطبيق قانون مدني واحد للأحوال الشخصية على الجميع، بحيث يكون الجميع متساوين امام القانون، بمن فيهم النساء، فلا ترث نصف حصة الرجل. وفي هذا تأسيس لمبدأ المواطنية واعتماد الكفاءة والمساواة التي على أساسها نبني النظام بشكل جيد وديمقراطي.
وهذا ما يتناقض بشكل صريح وواضح مع ما نسمعه عن محاصصات في التعيينات للطوائف وممثليها في السلطة والتي تشكل ركن الزاوية في الفساد المتفشي في الجمهورية. كيف ذلك؟
بداية، لا يمكن فهم أوالية الفساد من دون العودة إلى مفهوم عام / خاص اي Public / Privé. ذلك أن الفساد بالمفهوم الحالي للكلمة، هو إما الاستيلاء على المال العام، أو التسبب بهدر المال العام، أو الاستفادة من الوظيفة العامة للفائدة الشخصية. وعندما يتم تعيين الشخص باقتراح من زعيم، أو ممثل طائفة، أو ككوتا لهذا الطرف، أو ذاك من دون العودة إلى آليات موحدة تعتمد معايير موضوعية تراعي الكفاءة والجدارة تفقد الوظيفة صفتها العامة وتصبح شأناً خاصاً، وبدل أن يشعر الموظف بالولاء للدولة، التي هي فكرة معنوية، يصبح تابعاً للجهة التي يمثلها. ومن هنا نلاحظ صعوبات المواطنين في الحصول على الخدمات التي هي حق بديهي لهم، يدفعون ضرائبهم للحصول عليه، وخوف المواطن من طريقة استقبال الموظف له بحسب انتماءاته السياسية والمذهبية.. فيبحث عن وسيلة للتقرب منه، أو لإيجاد صلة ما «شخصية»، أو رشوة، أو واسطة للحصول على حقه البديهي بالخدمة.
لهذا نجد أن المواطن لا يحصل على الخدمة المتوجبة له في مؤسسات الدولة إلا عبر تحمل أنواع من القهر، لأن الموظف ليس في خدمة المواطن، إنه في خدمة مصالح سيده ورئيسه الذي اقترح تعيينه ورعاه. وإلا فما معنى ووظيفة المحاصصة؟
من هنا الخلط بين المصلحة العامة والمصلحة الشخصية، أو الخاصة، بما ينفي إمكانية المحاسبة والمساءلة ويجعلها مستحيلة، لأن الجميع هو جزء من هذه التركيبة الشاملة. وذلك ما يسهم بتدعيم الاستتباع، وبتدعيم جعل أمور الدولة وشؤون المواطن كلها جزءا من قطاع خاص من نوع خاص، يجعل العام متعلقا بمفاتيح ومداخل وزعامات ومناطق وطوائف.
ونظام الواسطة هذا هو إحدى الأواليات المستخدمة للحفاظ على الولاء، والذي موضوعه العائلة والعشيرة والمذهب والطائفة. فكيف يمكن لمن ينادي بإلغاء الطائفية السياسية، وبالمحاصصة في الوقت نفسه أن يكون جاداً، أو راغباً حقاً في الإصلاح؟
كاتبة من لبنان
أوان