صفحات العالمما يحدث في لبنان

قلقـون ومُقلقـون

سليمان تقي الدين
يخرج اللبنانيون من مواجهة سياسية إلى مواجهة أخرى. لكن الحيوية السياسية هذه تضيع سدىً في نزاعات عقيمة. تكاد «الحرية» و«الديموقراطية» في شكلهما اللبناني أن تكونا نقمة. اللبناني المسيّس المتصدر واجهة النشاط العام «يهرف بما لا يعرف». النخبة السياسية وإلى حد بعيد النخبة الثقافية تلوكان جملاً فارغة المضمون مع شعور بالزهو بالقدرة على المجادلة. الوعي الحقيقي لم يتقدم عن طروحات أزمة 1958 وبدايات الحرب الأهلية مطلع السبعينيات. هذا الإخفاق الخطير يتجلّى في تكرار موضوعات كان يجب أن نعالج بعضها على الأقل. الدولة، الطائفية، السلاح خارج الشرعية، الهوية، العروبة، العدو الوطني والصديق، الحقوق المدنية والسياسية، إصلاح الإدارة، الفساد.. الخ..
يوم تصدّعت الصيغة الطائفية عشية الحرب الأهلية كانت تنذر بالفوضى وزوال الكيان وتفكك المجتمع. صارت قنوات نظام الطائفية السياسية عاجزة عن إدارة الصراعات والنزاعات الاجتماعية والثقافية والسياسية. حجم التحولات الديمغرافية والمعطيات الأخرى صارت أكبر من أن يحتويها نظام قائم على المحاصصة. طرحت «الحركة الوطنية» برنامجها السياسي المرحلي المتضمن إلغاء الطائفية السياسية، كما طرحت القانون المدني الاختياري للأحوال الشخصية. قيل آنذاك في مواجهتها لماذا إلغاء الطائفية السياسية وليس الطائفية بالإطلاق.
تجاهل كثيرون البعد المدني من المشروع والإصلاحات الأخرى والضمانات من قانون الانتخاب النسبي إلى استقلال القضاء. قوبل مطلب إلغاء الطائفية السياسية بالعلمنة الشاملة.
وضعت العلمنة كتحدٍ في وجه الإسلام السياسي. العلمنة مفهوم مثقل بالأديولوجيا ملتبس قد يعني لكثيرين المواجهة مع الدين، في حين يمكن أن يكون مقصوراً على السياسة وليس على المجتمع. يعود النقاش القديم يتجدد بتحميل أي طرح إصلاحي غير ما يحتمل. الزواج المدني في لبنان موجود بمعنى ما، أي بقبول مفاعيل أي زواج مدني في الخارج. الزواج المختلط أكبر بكثير مما يظن البعض. أكثر من ثلاثمئة ألف من عقود الزواج بين السنة والشيعة مثلاً ولم تلغِ الحالة المذهبية. مئات آلاف اللبنانيين لديهم أسر مختلطة.
هذا جزء من المسألة، وكذلك أنظمة الأحوال الشخصية عموماً، لكنه ليس المسألة نفسها. طائفية الأمس ليست طائفية اليوم. في العقود الأربعة الماضية تطورت المسألة الطائفية من نزاعات على السلطة وامتيازاتها، وبين قوى وتيارات شبه مدنية (قومية لبنانية وقومية عربية) على نزاعات دينية. بين حركة المحرومين الشيعية المنفتحة على قضية الحرمان الوطني وبين حركة أصولية ملتزمة بقواعد دينية معينة، هناك فارق كبير.
بين طروحات رؤساء حكومات لبنان السنة عن المشاركة بالأمس لتصحيح الخلل الطائفي في السلطة لأسباب تتعلق بعروبة لبنان، وبين ما يجيش في الشارع السني في لبنان والمنطقة من اتجاهات وتيارات تتصاعد دينياً، هناك فارق كبير. بين نزوع درزي ملتبس تتقاطع فيه طموحات الزعامة السياسية لدور أكبر في النظام ونزوع إلى البحث عن هوية مذهبية عازلة متمسكة بصفاء جغرافيتها الخاصة هناك فارق كبير. أما المسيحيون فقد اجتازوا منذ زمن بعيد طموحهم للاحتفاظ بالدور المحوري في الكيان والدولة وما عادوا يفكرون إلا بحفظ هويتهم الطائفية وجغرافيتهم المتراجعة وحق النقض في السلطة.
هذه المعطيات خلافاً لرد الفعل العاطفي والارتجالي الذي يصدر من هنا أو هناك متهيباً تجاوز الطائفية، تؤكد ان المسار الطائفي الحالي ذاهب بسرعة إلى إلغاء مساحات العيش المشترك وإلى تطوير آليات الصراع الأهلي وتغيير موازين القوى وقضم المواقع وتعميق النفور والخوف والحذر وتأهيل البلد لجولات من العنف وكسر القواعد وما يعتبر حدوداً وضمانات تبدو وهمية بحاصل التجربة وما حصل في التسويات الطائفية السابقة. النظام الطائفي لم يعد ضمانة لأحد، بل صار أحد محرضات الحركات الدينية وأحد مصادر شرعيتها.
إذا صح هذا التشخيص للحال اللبنانية وقد أكدته الشكوى العامة لدى مختلف الجماعات من دورها وموقعها وهواجسها صار البحث عن بديل منه في أمر اليوم وفي مقدمة جدول الأعمال. وإذا كان يرضي البعض التلاعب بالألفاظ والجمل وتزويق العبارات فليجعلوا من الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية هيئة حكماء لوضع مخطط واضح لإزالة أو لمواجهة أزمة العيش الوطني وحل المشكلات التي يخلقها النظام، وليكن في صلاحياتها تناول كل القضايا والملفات التي تقترح لها حلولاً متكاملة متضافرة للخروج من الأزمة الكيانية.
وبالفعل كنّا نتمنَّى لو أن اقتراح تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية الذي هو إلزام دستوري والإجماع قائم فيه، انبثق عن وعي وطني وإصلاحي قديم وله كل المسوغات، كنا نتمنّى أن يقدم للبنانيين بصيغة أسباب موجبة وبتصور شامل يعطي كل التطمينات. بل كان من الأفضل لو أعلن ان هذه الهيئة هي التي ستدرس التنظيم الإداري الجديد للبنان وتبلور مفهوم التنمية المتوازنة واللامركزية، وتتناول التعليم بوظيفتيه الوطنية التوحيدية والإنتاجية وقانون الانتخاب وتحديث قوانين الأحوال الشخصية وطبعاً نظام العدالة القضائية، وكذلك نظام الأحزاب والحريات والإعلام الخ..
لعله لم يفت الوقت على ذلك لكي يبادر المجلس النيابي إلى صياغة ورقة بهذا الخصوص مع تصور أولي لنظام الهيئة الداخلي وصلاحياتها علماً بأنها ليست هيئة تقريرية. والأكثر جدوى وإقناعاً أن يناط بها اقتراح ما يلزم لتطبيق الدستور بجميع مفاصله وبنوده. عندها نعرف القلقين من المقلقين.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى