الدور الإيراني والعلاقة الإيرانية ـ السّوريةجورج كتنصفحات العالم

نموذج لرجل دين شجاع

جورج كتن
“تراث منتظري حي”
في منطقة الشرق الاوسط حيث تنتشر الدعوة لتوجيه وضبط السياسة وحركة المجتمع وجميع اوجه الحياة وفق النصوص الدينية، لا يخلو الامر من رجال دين استثنائيين يعارضون هذا التوجه ويقفون بشجاعة نادرة مع الشعب في قضاياه العادلة مهما كانت نتائج ذلك بالنسبة لحياتهم.
نموذج هؤلاء وأجرأهم آية الله حسين منتظري المتوفي الشهر الفائت، من المواجهين الاوائل للنظام الأتوقراطي للشاه الذي سجنه لأربع سنوات ونفاه وشرده، وأول من واجه السلطة الدينية التي تلته. من أهم صفاته التي جعلته متميزاً ومكنته من التخلي عن النظام الذي كان من أعمدته المؤسسة، استقامته إذ لم يقبل إلا أن يقول الحقيقة كما يعتقدها دون لف أو دوران رغم ما يسببه له ذلك من متاعب، مفضلاً ذلك على إغراءات السلطة من نفوذ وثروة ومناصب.
أول انتقاداته التي أثارت السلطة ضده عندما كان معيناً كخليفة للإمام الخميني، استنكاره العلني للإعدامات الجماعية للسجناء المعارضين للثورة الإسلامية في العام 1988 عندما أعدم بوحشية ما لا يقل عن خمسة آلاف منهم في ليلة واحدة ودون أية محاكمة بموافقة الخميني، الذي تكاد آرائه ومواقفه تكون نصوصاً مقدسة لا يمكن مراجعتها. كما أنه في تحد واضح اعتبر ان فتوى الخميني لإهدار دم سلمان رشدي ستعطي الرأي العام العالمي انطباعاً ان عمل إيران هو قتل الناس. كما انتقد شعار “الطريق إلى فلسطين يمر عبر كربلاء” معارضاً الحرب العبثية مع العراق التي أصر الخميني على إبقائها مشتعلة تأكل الأخضر واليابس، ولم يقبل بوقفها إلا مضطراً “لتجرع السم”. كما أن منتظري أعلن أن “تصدير الثورة”، الذي كان مبدأً أساسياً للنظام، يتم بضرب المثل وليس باستخدام العنف.
انتقد منتظري نظرية ولاية الفقيه كما مورست، فالولي الفقيه برأيه خبير في القضايا الإسلامية الدينية ولكنه غير مختص في مسائل الحكم والجيش والشؤون الخارجية… التي يجب أن تسند لخبراء، ويبقى دوره استشارياً وليس مقرراً. وأن الشعب يجب أن يحكم نفسه من خلال حكومة ينتخبها وليس من خلال ولي فقيه فوق القوانين، ودعى لانتخابه من قبل الشعب وليس تعيينه، مع حق الشعب في مراقبته ومحاسبته على أعماله، وأن شرعية أي حكم تتأتى من قبول الشعب له. كما دافع عن حريات التعبير والتجمع والحراك السياسي، وأدان القمع وإغلاق الصحف واعتقال المعارضين، كما دافع عن الحريات الدينية للآخرين وأدان القمع المسلط على أتباع المذهب البهائي.
وإذا كان الخميني اكتفى بتجريده من مناصبه وإبعاده عن الحلقة الرئيسية للسلطة، فإن المرشد التالي وضعه في الإقامة الجبرية ببيته لمدة ست سنوات، ومنع أي اتصال عنه وأغلق مكتبه وصفوفه لتدريس الدين، لم يتمكن من اعتقاله لحصانته الدينية كونه من المراجع المعدودة بين رجال الدين الكبار، لكنه سمي “ملحد العصر” من قبل أنصار خامنئي. تمكن منتظري من التواصل مع الناس فيما بعد بالاستفادة من وسائل الاتصال الحديثة فطالب رجال الدين أن يقفوا مع الشعب في الصفوف الاولى ضد النظام القمعي، فالثورة الإيرانية برأيه لم تحقق وعودها بتأمين حقوق الإنسان وحرياته، فهدفها ليس تغيير الشعارات مع بقاء القمع والاضطهاد الذي كان ممارساً من النظام السابق. ووصف الجمهورية الإسلامية ليس فقط بأنها غير ديمقراطية بل ايضاً غير إسلامية وفاقدة للشرعية. وقد اعترف بخطأه واعتذر عن دوره في احتلال السفارة الاميركية في العام 1979.
ازدادت شعبيته والتفاف المؤيدين حوله بعد دعمه حركة الاحتجاج الراهنة حيث صرح أن نظاماً سياسياً مبني على العنف والقمع وتزوير أصوات الناخبين وقطع الاتصالات بين الناس والقتل وممارسة التعذيب الشبيه بالستاليني أو بتعذيب القرون الوسطى لانتزاع الاعترافات في السجون..، مدان وغير شرعي. وقد وصفه الكاتب “سعد محيو” بأنه تروتسكي الثورة الإيرانية، وهو وصف دقيق لحالة مشابهة لثوري حالم بنظام عادل يعمل لصالح الشعب، تستغرقه الثورة فيهمل حياته الخاصة، فإذا وصل للسلطة يغرقه بريقها إلى أن يفطن إلى أن ما يقوم به ضمن صفوفها يتعارض مع مبادئه فيتخلى عن مناصبه مهما كانت، ويتمسك بالمبادئ مهما أدت إليه من عواقب.
وفاته في خضم الانتفاضة أضافت وقوداً إليها وتوسيعاً لصفوفها، فجنازته التي شارك فيها مئات الآلاف تحولت إلى مظاهرة احتجاجية أخرى ضد النظام، ولم يهدأ الشارع في احتجاجاته المتصاعدة حتى بلغت الذروة في ذكرى عاشوراء حيث أصبح أحد شعارات المحتجين: “تراث منتظري حي وسينهي الديكتاتورية”. فقدت حركة الاحتجاج “زعيمها الروحي” لكن انتقاداته للنظام أصبحت مسموعة أكثر من أي وقت مضى، فقد أدت وفاته بقطاع واسع من المتدينين للانخراط في حركة الاحتجاج.
حصيلة الجنازة واسبوع عاشوراء الذي تلاها كانت 1300 معتقل وتسعة قتلى برصاص قوى الامن، وبذلك قدم المتظاهرون شهدائهم في ذكرى الشهادة، وبالنسبة للمتدينين فأن يزيد الذي في عهده قتل الحسين أصبح بالنسبة للمتظاهرين مماثلاً لخامنئي.
رفع درجة استخدام العنف أظهر مدى التهديد الذي تمثله الانتفاضة للسلطة، فقد تحلي المتظاهرون بالمزيد من الجرأة في المواجهات برمي الحجارة على الشرطة ومهاجمة سياراتهم لتحرير المعتقلين فيها وحرق دراجات الباسيج وإقامة المتاريس.. وقد ذكرت التقارير أن عدد من أفراد الشرطة رفضوا إطلاق النار وخلعوا خوذاتهم وابتعدوا عن طريق المتظاهرين. السلطة لا زالت تحتفظ بقوى عسكرية كافية لمواجهة حركة الاحتجاج، ما ينتقص من هذه القوة أنها قابلة للعطب من خلال انحياز قطاعات منها للمنتفضين أو الوقوف على الحياد، وهو ما حدث على نطاق ضيق جداً ومن المحتمل أن يتوسع إذا ظلت المواجهة قائمة.
لحفظ ماء الوجه نظمت السلطة مسيرات موجهة حشدت لها بوسائل النقل العام من الأرياف المجاورة، بعد اعلان عطلة لتمكين موظفي الدولة والقطاع العام وتلاميذ المدارس من المشاركة فيها مع تقديم عصير أثناء المسيرة التي كانت أهم شعاراتها:”لا تصالح، نموت من أجل قادتنا”. كما شنت السلطة حملة لاتهام حركة الاحتجاج بانها مؤامرة للقوى الخارجية الغربية والصهيونية والماركسيين والمنفيين الإيرانيين!!، فيما أتى الدعم الخارجي للسلطة من الصين التي قمعت بوحشية معارضيها في تيان آن مين، إذ أرسلت آليات مسلحة خاصة بمواجهة المتظاهرين تحمل مدافع لقذف الماء الحار والبارد والغاز المسيل للدموع ومواد كيماوية مهيجة، فالديكتاتوريات تؤازر بعضها عادة.
الانتفاضة متدحرجة ككرة الثلج، وهي ستظل سلمية رغم بعض الردود العنيفة ضد عنف السلطة. التطورات المتسارعة ستبين إلى أي مدى سيذهب التغيير، إصلاح النظام أم إنهائه، علما بأن النظام تجاهل مشروع موسوي لحل وسط يوقف تدهور الاوضاع، يعتمد على إقامة حكومة قابلة للمحاسبة وإصدار قانون انتخاب جديد وإطلاق سراح المعتقلين ورفع الرقابة والحظر عن وسائل الإعلام والاعتراف بحق المواطنين في التظاهر والاحتجاج وتشكيل الاحزاب..
“أسلمة” المجتمع التي اتبعها النظام منذ قيامه فشلت فشلاً ذريعاً وتقدم الآن الحساب بعد أن باتت الاوضاع غير محتملة من جموع المواطنين التي ضاقت ذرعاً بمحاربة الثورة الإسلامية للحداثة ولحرياتها الفردية، ووصلت لحدود اليأس من إصلاح النظام بعد تجربة طويلة خلال حكم خاتمي الذي أتت به الأغلبية المستاءة من القمع والاوضاع المعيشية المتدهورة..، والتي تزداد قناعتها بأن التغيير لا طريق له سوى الانتفاضة الشعبية ضد النظام الذي سيذهب عن طريق نفس القوى التي اتت به وكتلتها الاساسية الشباب الذي يشكل غالبية المجتمع *.
“الاسلمة” يمكن أن تنجح في مجتمع مغلق ومعزول، وهو أمر لم يعد من الممكن توفره إذ أن شمس الحداثة وثورة الاتصالات لم يعد من الممكن حجبها بغربال الاستبداد بشتى أشكاله وخاصة المترافق مع الأيديولوجيا الدينية.
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى