المأزق الإيراني
جيمس بوكان
ترجمة : فاضل جتكر
تقديم المجلة:
قليلةٌ هي البلدان التي تستطيع مضاهاة إيران استعصاءً على فهم المعاينة الموضوعية ومقاومةٌ للتحليل المنطقي المتماسك. فالجمهورية الإسلامية، التي كثيراً ما يتكرّر وصفها بالأكثر عداءً للغرب، بين سائر أنظمة الحكم في الشرق الأوسط، تواطأت مع الغزو الأمريكي للعراق واحتلال الولايات المتحدة لأفغانستان، مُساهِمةً في انبثاق نظامين عميلين لأمريكا في بغداد وكابول. وهذه الجمهورية التي تُعَدُّ شبيهة بأيَ دكتاتورية كهنوتية دينية دأبت ــ متميّزة بفرادة عن سائر أطراف الأمّة الإسلامية في المنطقة ــ على إجراء انتخابات تنافسية حقّاً، وعلى الاحتفاظ ببرلمان حيث النقاش والتصويت فيه ليسا شكليين قابلين للتنبؤ بنتائجهما سلفاً؛ ومع ذلك فإنّ السجن ــ أو ما هو أسوأ من السّجن ــ هو مصير المعارضين المبدئيين. ومع أنّ النظام الإيرانيّ يُعَدُّ على نطاق واسع أنّه نظام ديني ــ ثيوقراطيّ ظلاميّ، فإنّه قد أحدث انقلاباً على صعيد محو الأمّية في الأوساط الشعبية، ووفّر للنساء تعليماً جامعياً عالياً أكثر من أي نظام في البلدان المجاورة. ونجح هذا البلد المشهور بشِعْره قديماً في إنتاج أحد أغنى الأفلام السينمائية في العالم منذ عام 1979، رغم أنّ الملايين قد جرى طردهم منه ــ من البلد ــ جرّاء الاضطهاد الثقافيّ. وإيران اليوم تتقدّم نحو صدارة المسرح الدوليّ فيما تعكف الولايات المتحدة على الإعداد لتضييق الأنشوطة الاقتصادية حول عنقها، حفاظاً على احتكار إسرائيل للسلاح النووي في المنطقة؛ والنظام في طهران، وهو أكثر عزلة وتمزّقاً داخلياً ممّا كان فيما مضى، يواجه معارضة جماهير واسعة ساخطة على تزوير الانتخابات وتوّاقة إلى قدر أكبر من التفاهم والتعايش مع الغرب. لقد تمخّض تضافر هاتين الأزمتين عن إطلاق طوفان من الكليشيهات والمواعظ في حشد وسائل الإعلام الأوروبية ــ الأمريكية. وفيما يلي نقوم بنشر الحلقة الأولى من سلسلة مقالات حول إيران، هادفين إلى توفير تغطية أكثر اطلاعاً واتصافاً بالصفة النقدية لهذا البلد. ففي مقالة استثنائية الأصالة يتولّى الكاتب المعروف جيمس بوكان وَضْعَ مأزق النظام في سياق ثقافيّ ــ تاريخيّ متواصل منذ ثورة 1905 الدستورية. ثمّة زحمة من الأسئلة الأخرى تبقى معلّقة. ومن هذه المسائل التي تتعرّض لقدر عنيد من الإغفال أو التجاهل من جانب البيانات التي تتناول السياسة الإيرانية مسألةُ المقارنة الاقتصادية والسياسية على صعيد الممارسة الفعلية بين سجلات حكومات رفسنجاني، خاتمي، وأحمدي نجاد المتعاقبة؛ مسألة التركيبة الطبقية لتكتّل الخُضر في 2009؛ مسألة القاعدة الاجتماعية لظاهرة موالاة النظام؛ مسألة الأدوار الفعلية لكلّ من القوّات المسلّحة والحرس الثوري، على التوالي، في بنية سلطة البلاد؛ مسألة الأسس الفكرية، الثقافية، الإقليمية، وغيرها للانقسامات الفئوية والتكتلية داخل هيئة رجال الدين أو المؤسّسة الكهنوتية؛ ناهيك، بالطبع، عن مسألة جملة استراتيجيات الأنظمة الغربية وفعالياتها الدائبة على إركاع إيران وصولاً إلى تحويلها إلى ألعوبة مدَجَّنة بأيدي “الأسرة الدولية”. إنّ مجلة اليسار الجديد (النيولفت ريفيو) تأمل في مقاربة هذه مع غيرها من القضايا في أثناء عملية تكشف فصول هاتين الأزمتين التوأمين.
يا له من نابليون بازاري!
يقول هيغل في محاضراته إنّ على التاريخ أن يتكرّر ليصبح قابلاً للفهم. وقد علّق ماركس على ذلك في أكثر كتاباته الصحفية رشاقة، في الثامن عشر من برومير لويس بونابرت (1852)، قائلاً: “كلام هيغل صحيح، غير أنّه نسي أن يضيف: بصيغة مأساة في المرّة الأولى، وعلى صورة مسخرة في المرّة الثانية”. لقد رأى ماركس الانقلاب الحكوميّ الذي دَبَّرَه الأمير نابليون في 1851 تكراراً هزلياً مثيراً للسخرية لعملية إقدام نابليون بونابرت على اغتصاب السلطة في الثامن عشر من برومير، من العام الثامن لتقويم الثورة الفرنسية (عام 1799)، رآه مجرد عرض مسرحيّ تاريخيّ في ظروف مختلفة. ما الذي كان من شأن هيغل وماركس أن يقولاه عن الأيام الحزيرانية في إيران؟ فانتصار محمود أحمدي نجاد في الانتخابات الرئاسية الإيرانية العاشرة في الثاني والعشرين من خورداد (الشهر الثالث في التقويم الفارسي)، الثاني عشر من حزيران/يونيو، كان في نظر مؤيّديه نعمةً من السماء، وبنظر منافسيه عملية احتيال مبتذَلة. أمّا بالنسبة إلى باحث مهتمّ بدراسة التاريخ الإيرانيّ فإنّ الثاني عشر من حزيران/يونيو يقع في سياق نَمَطيّ شهد تَعَرُّض سلسلة من الثورات الشعبية (بما فيها ثورتا 1906 و1979) للتعطيل والشلّ عبر سلسلة متعاقبة من الانقلابات الحكومية. لدينا الآن علي خامنئي بدلاً من الشاه القاجاري محمد علي، وزيرُ الداخلية محصولي بدلاً من القائد القوزاقي لياخوف، ومحمود أحمدي نجاد، هذا النابليون الفارسيّ صاحب سترة سائقي العربات، بدلاً من رضا شاه.
بالنسبة إلى الإيرانيين من ذوي الذهنية الدينية، ليس تاريخ بلدهم إلا تعطيلاً متكرّراً لمشيئة الله بفعل دسائس حشد من المتآمرين، المرتزقة، الرساميل الأجنبية، الليبراليين، وموظفي القسم الفارسي في هيئة الإذاعة البريطانية، البي بي سي. أمّا بالنسبة إلى ذوي التوجّهات العلمانية فإنّ عبور البلاد عبورا مضمونا إلى الضفّة التنويرية معرَّضٌ للتقطيع والإعاقة بسلسلة من فترات الظلام غير المتوقعة مثل رحلة بالقطار في مناطق جبلية كثيرة الأنفاق. وعلى الجانبين تبقى المحصلة خيبةً ناجمة عن حرمان البلاد الإيرانية المحروسة من الازدهار والعدالة، وكذلك من المجد الذي تستحقّه بنظر الله وحسب رأي البشر.
في هذا السياق المُرْبِك والمحيِّر ثمّة، كما يمكن أن ينتظر من أرض أنجبت المانوية (الثنوية) للعالم، نوعٌ من أنواع الصراع العميق الذي يتّخذ أشكالاً مختلفة تبعاً للأحقاب التاريخية المتباينة. ثمّة صراع محتدم بين الاستبداد والدستور، بين الشاه والبرلمان، بين اليمين واليسار، بين الله والشيطان، وبين التشدد المتطرّف والإصلاح. جاء تاريخ الثاني عشر من حزيران/يونيو ليفتح صفحة جديدة. فحالة الاستنقاع والجمود الطويلة منذ موت الرائد الثوريّ (آية الله) روح الله الخميني في 1989، هذه الحالة التي أخفق فيها الإصلاحيون في إنجاز الإصلاح والمتشدّدون في ترسيخ خطّ التشدّد، تعرّضت للنسف والتقويض. أُصيبت الجمهورية الإيرانية بجرح بليغ وبادر رجال الدين إلى تجريد خناجرهم من أغمادها. موشكون نحن الآن على ولوج باب مرحلة زاخرة بالفوضى، بالمجابهة مع القوى الغربية، وبفيض من الحماسة الرسولية المهدوية. في بقعة ما من بقاع الصحراء الملحيّة الإيرانية الكبرى، سيكون تفجير نوويّ في زمن غير بعيد.
التيجان والدساتير:
كانت إيران في 1905 بلاداً نائية تتمثّل الحداثةُ الأوروبيةُ فيها ببضع عرباتٍ تجرّها الجياد، بخمسة أميال من السكك الحديدية وكان البعض يمتطونها وهم في جلابيبهم، بمصنعٍ مفلس للسكر، بمعهد بوليتيكنيكي، بفرقة عسكرية قوزاقية، وبقرضٍ قوميّ بلغ ثلاثين مليوناً من الروبلات لتمويل عائلة الشاه وتكاليف استطبابه في الحمامات المعدنية الفرنسية. إنّ حركة احتجاجية على تعريض اثنين من تجّار السكر لعقوبة الفَلَقة (الضرب على راحتي القدمين) وعلى إنشاء بنك روسيّ ما لبثت أن تحوّلت إلى ثورة ضدّ الأوتوقراطية القاجارية، ضدّ الأسعار الفاحشة الكامنة خلف المجاعة، وضدّ بيع الامتيازات لرساميل أوروبية مشبوهة. بادر فريق ضمّ رجال دين تقدّميين، أصحاب محلات تجارية، حرفيين، وحفنة من الليبراليين إلى المطالبة بـ “دار للعدل” ومن ثمّ بمجلس (البرلمان)، بقانون (سيادة القانون)، بل وحتى بالمشروطيت (الدستور). سارع الشاه مظفّر الدين قاجار، وهو المهدود بالنقرس وبالحصى في الكلية، إلى الموافقة على منح وثيقة دستورية في الخامس من شهر آب/أغسطس، 1906، واجتمع المجلس بعد شهرين. وفي بلاد كانت الألقاب والأسماء الثلاثية لا تزال مضطرّة لانتظار بضع سنوات، تعيّن على المندوبين أن يقوموا بالدعاية لأنفسهم من منطلق حِرَفهم واختصاصاتهم: حضرات بائع الكتب، شيخ الخياطين، تاجر الحرير، تاجر الجملة، صانع السهام، بائع المجوهرات، البقال، السمسار، الساعاتي.
مات مظفر الدين في شتاء ذلك العام وبادر خَلَفُه ونجله محمد علي إلى رفض أيّ قيد على الامتيازات القديمة للنظام الملكيّ. وفي الرابع والعشرين من تموز/يوليو، 1908، أقدم قائد الفرقة القوزاقية فلاديمير بلاتونوفيتش على توجيه مدافعه نحو مبنى المجلس في طهران. ومع حلول ذلك التاريخ كان عدد كبير من رجال الدين قد باتوا غير واثقين بالحكم الديمقراطي وبالكلام الطليق والأهوج عن الحرية والمساواة. فالشيخ فضل الله نوري، أبرز شيوخ طهران وأكثرهم نفوذاً (في ذلك المنعطف)، توصّل إلى استنتاج يقول بأنّ حُكْماً استبدادياً ملتزماً بتطبيق الشريعة الإسلامية كان أهون الشرور إلى حين عودة سيّد الزمان، الإمام المدبِّر ــ الإمام الثاني عشر، قائم الزمان سليل النبيّ من خلال ابنته فاطمة ــ المستتر، ومبادرته إلى تدشين عصر العدل وإعلان نهاية العالم. أمّا بنظر المؤرخ المعادي لرجال الدين: أحمد خسروي، فإنّ الثورة الدستورية اندلعت قبل أوانها. وقد كتب يقول:
إنّ الكتلة الشعبية كانت جاهلة كلّياً للدستور ولما ينطوي عليه من معان ولم تشارك في حركة التمرّد إلا انجراراً خلف قادتها. إذن، كان لا بدّ، منذ البداية، من وجود أناس مؤهّلين لقيادة الجميع وتثقيفهم حول الحكم الشعبيّ والحياة الوطنية ــ القومية وتلقينهم معنى التقدم كما هو مفهوم في أوروبا.
لم يدم “الاستبداد الصغير”، الذي عُرف بهذا الاسم، سوى عام واحد. قوّةٌ مؤلّفة من رجال قبائل بختيار الدستوريين احتشدت في أصفهان، هَزَمَتْ الجيش الملكيّ، واستعادت المجلس. جرى إعدام الشيخ فضل الله شنقاً في الثلاثين من حزيران/يونيو، 1909. بيد أنّ الحركة الدستورية ما لبثت أن تفكّكت تدريجياً وكثيرون من رجال الدين عادوا إلى زواياهم وحلقاتهم الدراسية أو خلعوا عماماتهم وجلابيبهم المميّزة. وفي 1921 نجح ضابط قوزاقي يدعى رضا في الاستيلاء على السلطة، في الإطاحة بالقاجاريين وعرشهم بعد أربع سنوات، وفي التأسيس لحكم استبداديّ قائم على التحديث. تجاوب الأجانب وفقاً لأنماطهم القومية: سيّدات إنجليزيات شاركن في حفل تتويج رضا عام 1926 وصَمَّمْنَ أزياء بلاطية شبيهة بأزياء قصر كنزنغتون؛ أستاذ جامعيّ ألمانيّ استخرج من أعماق كتب التاريخ كلمة بهلوي الفارسية التي تعني قمة الأصالة تكريساً لسلالة حاكمة حديثة النعمة؛ أمّا المستشرقون السوفييت في معهد نوفي فوستوك (الشرق الجديد) فقد أضفوا على رضا لقب ثوريّ برجوازيّ، معاد للإقطاع ومعاد للإمبريالية، من شأنه أن يبادر إلى بناء مجتمع صناعي ناضج لقيام ثورة بروليتارية.
أقدم رضا، تبعاً للأصول، على استحداث الألقاب (الأسماء الثلاثية)، اعتماد شرعة زيّ موحّد، إنشاء مصانع، تأسيس مصرف مركزيّ قوميّ، افتتاح جامعة وطنية، تأسيس شركة تأمين، وإقرار نظام التجنيد. قام بتسديد القروض الأجنبية وألزم موظّفي الحكومة بالخروج إلى الملأ مع زوجاتهم. أجهز الشاه الجديد على الطابع التعاوني للمجتمع الإيراني، قتل معاونيه ودفعهم إلى الانتحار، واستعدى سائر أصناف الرجال والنساء. واقعاً تحت أسر السياسات التجارية السوفيتية، وناقماً على التحكّم البريطانيّ بصناعة النفط في جنوب البلاد، وجد رضا نفسه منجذباً إلى فايمار أوّلاً وإلى ألمانيا الاشتراكية القومية بعد ذلك. عمل على تمديد سكّة حديدية من الشمال إلى الجنوب، سدّد تكاليفها بفرض الرسوم على وسيلتي الترف الوحيدتين لشعبه، على مادّتي الشاي والسكر، فكان ذلك خطأه الأكبر.
في 1941، من منطلق الحاجة إلى الخطّ الحديدي العابر لإيران من أجل شحن قاذفات وشاحنات أمريكية إلى الجيش الأحمر، قام البريطانيون والسوفييت بغزو إيران واجتياحها وإرسال رضا إلى المنفى. نَجْلُه محمد حلّ محله، غير أنّ فترة وجيزة من الحكم البرلمانيّ عيشت قبل أن يتمكّن الشاه الجديد من الوقوف على قدميه. تحت جناح الجيش الأحمر في إيران الشمالية، تمكّن حزب جبهة شعبية حمل اسم توده (أو الجمهور) من الفوز بالسلطة والنفوذ. وفي 1953، بعد قيام نبيل مهووس بصحّته يدعى مصدّق بتأميم صناعة النفط العائدة لبريطانيا في أجواء مشحونة بالحماسة الشعبية، نجح رُعاع البازار ورجال الدين المعادون للشيوعية (مرتشين، حرفياً، من البريطانيين والأمريكيين) في تدبير انقلاب حكوميّ ثالث. وبعد عودته إلى عرشه، سارع محمد رضا إلى حل الحكومة التمثيلية، إلى قمع المعارضة العلمانية، وإلى محاولة الإجهاز على المؤسسة الدينية بوصفها قوة سياسية إذ أصدر أمراً قضى بنفي مثير أحداث الشغب “الخميني” إلى خارج البلاد في 1964.
حين اندلعت الثورة في شتاء 1978 – 1979 المرير، ما لبث شعارا الاستقلال وسيادة القانون الدستوريان القديمان أن رُفعا في سائر مراسم العزاء العاشورائية الشيعية المقامة إحياءً لذكرى الشهداء من آل النبي. راح الجمهور يصغي مسحوراً إلى كلام الخميني أمام أجهزة التلفزيون وهو مستغرق في مناقشة آيات فاتحة القرآن الخمس الأولى على امتداد خمس أمسيات. في الوقت نفسه أقدم فريق من الطلاب المتطرفين على احتلال السفارة الأمريكية وظل الحزب الجمهوري الإسلامي، الذي كانت رئاسة تحرير صحيفته وإدارتها عائدة إلى شخص يدعى مير حسين موسوي، عاكفاً على تضليل الليبراليين وخداعهم. ففي الدستور الجديد الذي وضعه منظّرو الحزب الجمهوري الإسلامي، تمّت إعادة إحياء حكومة 1906 الدستورية ولكن بعد تطويقها بعدد من المؤسسات المنصَّبة تعييناً، مثل مجلس الأوصياء، ضماناً لاستمرار هيمنة رجال الدين. فالدستور الجديد الذي اعتُمد عبر استفتاء جرى يوم 24 تشرين الأول/أكتوبر، 1979، وضع على القمة (بالنسبة إلى إيران أولاً، والعالم بعد ذلك) ولياً فقيهاً بوصفه مرشداً إلى حين ظهور قائم الزمان الغائب وتجلّيه. وعلى انفتاحه على زحمة من احتمالات الصراع السياسي والعقدي، فإنّ هذا الترتيب بقي صامداً طوال ثلاثين سنة شهدتْ سلسلةٌ طويلة من الانتخابات الرئاسية، البرلمانية، والبلدية. ولكنّ الأمر ما فتئ أن تغيّر في الثاني عشر من حزيران/يونيو، 2009.
انقلاب انتخابي:
حتى في إيران، حيث معجزات البلدان الإسلامية لا تكتفي بالحدوث بل هي في تزايد، جاءت نتائج الانتخابات الرئاسية العاشرة عجيبة من عجائب الزمان. فَخَلَفُ الخميني قائداً أعلى، أيةُ الله علي خامنئي رأى الاقتراع شاهداً على هبوط “نعمة قائم الزمان وبركته الخاصة على الشعب الإيراني كما على نظام الجمهورية الإسلامية”. وعلى النقيض من ذلك فإنّ ثورياً عجوزاً متقاعداً يعيش في مكان قريب من أصفهان يدعى آية الله حسين علي منتظري أكّد أنّ النتائج “لم تكن مؤهّلة لأن تحظى بقبول أيّ إنسان عاقل”. أن تشارك في الاقتراع نسبة 85 بالمائة من الكتلة الناخبة أَمْرٌ، أمّا أن تأتي الزيادة كلّها تقريباً لصالح محمود أحمدي نجاد فأمرٌ آخر. في أحد الأقاليم، بأذربيجان الشرقية، وهو بالمناسبة مسقط رأس منافس نجاد الرئيسيّ، تضاعفت أصوات الأخير عشر مرّات مقارنة مع ما كانت عليه في انتخابات عام 2005. وفي اثنين من الأقاليم، يزد ومازندران تحديداً، كان عدد المقترعين أكبر من عدد المسجَّلين في قوائم الشطب، وفي أربعة أقاليم أخرى بلغت نسبة المشاركة 95 بالمئة. الإيرانيون حاملو بطاقة الهوية يستطيعون أن يصوّتوا حيثما يشاؤون ويزد قَصَبَة (بلدة) جميلة تؤوي جماعة زرادشتية لافتة ومثيرة للاهتمام، حياكة حرير مقاوم تقليدية، غير أنّ الوصول إليها يستغرق عدداً من الأيام. في هذه البلدة تطلب إحصاء أصوات انتخابات مجلس عام 1943 مدّة ستة أشهر في حين أنّ نتائج هذه الانتخابات الرئاسية ظهرت في غضون ساعة واحدة بعد إقفال الصناديق.
ما يهمّ، في السياسة، هو ما يراه الناس. ملايين الإيرانيين مؤمنون بأنّ وزارة الداخلية، في ظلّ صادق محصولي، وقيادةُ العملية الانتخابية أجهزتا على أصواتهم الانتخابية. بدا الأمر كما لو أنّ الجمهور الإيرانيّ لم يكن أكثر من قطيع بليد ينتمي إلى العصور الوسطى، بدلاً من كونه أمّة تولّت الاضطلاع بدور طليعيّ في التأسيس لأولى حكومات آسيا التمثيلية عام 1906، أمّة نجحت عام 1979 في الإطاحة بنظام استبداديّ مدجَّج بالسلاح، وأمّة متقدّمة أشواطاً على صعيد محو الأمّية والتعليم الجامعيّ خلال الجيل الأخير. ليس هذا مجتمع 1906 ولا حتى مجتمع 1979، بل هو كتلة سكانية متعلّمة، تعيش في مدن كبرى، ومتجذّرة في تاريخها الخاصّ. يدرك الجمهور أنّ الحكم التمثيليّ قوّة في إيران. فالمجلس هو الذي تمكَّن من منع اللورد كيرزون من تأسيس محمية شخصية عام 1919، هو الذي تصدّى للسوفييت في 1946، هو الذي أطاح بالمدراء السكوتلنديين البخلاء لشركة النفط الإنجليزية ــ الإيرانية عام 1951، وهو الذي أقرّ تعديل قانون الطلاق الأحاديّ في 1967.
من المؤكّد أنّ ظاهرة الانتخابات المزوَّرة في إيران ليست جديدة. فالانتخابات الرئاسية التاسعة لعام 2005 التي أوصلت أحمدي نجاد، الذي كان رئيساً لبلدية طهران، إلى فترته الرئاسية الأولى لم توح بأيّ قدر من الثقة بعلم الرياضيات الإيرانيّ. أمّا الأسئلة هذه المرّة فتتركز على السبب الذي دفع المؤسّسة الثورية في إيران، هذه المؤسسة المعروفة باسم “النظام” إلى رؤية تدبير هذا الانقلاب الحكومي التافه المتهوّر والطائش في عام 1388 الاستثنائيّ، هذا حسب التقويم الشمسي الفارسيّ، أمراً مناسباً، كما على جملة العواقب التي سيرتّبها مثل هذا الانقلاب على حياة الجمهورية الإسلامية وازدهارها.
المتنافسون:
من الأربعمائة وخمسة وسبعين شخصاً (رجلاً وامرأة) الذين قدَّموا أنفسهم مرشّحين لرئاسة الجمهورية، لم يحظ بقبول مجلس الأوصياء وموافقته سوى أربعة فقط. وقد كان هؤلاء هم الرئيس شاغل المنصب أحمدي نجاد؛ قائد سابق للحرس الثوري، يدعى محسن رضائي؛ رجل دين عجوز، رئيس سابق للمجلس، يدعى مهدي كروبي؛ ورئيس وزراء سابق، يعيش حياة تقاعد، يدعى مير حسين موسوي. وحسب التقدير كان موسوي هو الأوفر حظّاً بين المتنافسين. يتحدّر موسوي هذا، وهو من أقرباء القائد الأعلى (المرشد)، آية الله خامنئي، من الفرع نفسه لآل النبيّ الذي ينحدر منه الخميني. بدأ حياته مهندسَ عمارة واختصاصي تخطيط مدن. وموسوي، الذي هو (مع زوجه زهرة راهانافارد) من تلاميذ الفيلسوف القانوني علي شريعتي، وصل إلى مواقع السلطة في صيف عام 1981 المنحوس حين كان الجيلُ الأول من مساعدي الخميني يتعرّضون للتكنيس بعمليات التفجير والاغتيال من جانب المجاهدين اليساريين المتطرفين. تمخّض الوضع عن كابوس من الإرهاب أجهز لا على المجاهدين وحسب، بل وعلى اليسار العلمانيّ والانفصاليين الأكراد أو شتتهم في المنافي. حتى السجن تحوّل لبعض الوقت إلى معسكر اعتقال، وما لا يقلّ عن ثلاثة آلاف من الشباب عُلقوا على أعواد المشانق.
بوصفه رئيساً للوزراء خلال فترة الإرهاب وسنوات الحرب الثماني مع العراق البعثي، يُذكَر أنّ موسوي كان على رأس نظام عادل على صعيد تقنين الغذاء والوقود، وعلى علاقة سيّئة مع خامنئي، الذي كان رئيساً للجمهورية. بُعَيْد وقف إطلاق النار مع البعث في 1988، استقال موسوي من منصبه. وموت الخميني بعد فترة قصيرة حَرَمَهُ من ظهيره الرئيسي ورسّخ خامنئي مرشداً، قائداً، أو عاهلاً. تمّ إلغاء منصب رئاسة الوزارة، حُل الحزب الجمهوري الإسلاميّ، وتقاعد موسوي لائذاً بالحياة الخاصة. وحين بادرت البقايا المبعثرة من اليسار الإسلامي إلى الالتحاق بركب جيل محبَط أكثر شباباً لتشكّل حركة “الإصلاحيين”، قاوم موسوي الضغوط الدافعة نحو الترشّح للرئاسة لمصلحة رجل دين ذي شعبية من الصفّ الثاني يدعى محمد خاتمي.
بوصفه “ابناً عادياً من أبناء الثورة”، كما يصف نفسه، لم يَبْدُ تقطيبُ موسوي التقووي ومزاجُه طويلُ النفس تهديداً استثنائياً للنظام أو لطموحاته المتمثلة بتطوير سلاح نوويّ. فقد صرّح مثلاً لمجلة تايم قبل يوم واحد من الانتخاب قائلاً إن استخدام الطاقة النووية الإيرانية لصنع أسلحة «أمر قابل للنقاش». ومن المعروف أن المشروع الإيراني لتخصيب اليورانيوم غير خاضع لتحكم رئيس الجمهورية الإيراني. قد لا يكون إرهابيّ تائب أفضل الخيارات بالنسبة إلى الكثيرين من الشباب الإيرانيين الطامحين إلى وضع حدّ لعزلتهم والمنفيين الحالمين بالعودة إلى بلدهم. بيد أنّ صيغ الحكم التي تبدو بالية تميل إلى أن تكون ذات جذور عميقة في التاريخ. فالصفويون داموا قرناً كاملاً بعد استسلامهم للشراب ولسياسات الحريم، القاجار استمرّوا طويلاً رغم نضوب منابع مواردهم. وحتى البهلويون، وقد كانوا مكروهين كثيراً، ظلّوا شاغلين عرش الطاووس مدّة أربعة وخمسين عاماً. إنّ دستور الجمهورية الإسلامية، هذا الدستور القائم على الخلط بين الديمقراطية البرلمانية ودكتاتورية رجال الدين، باق منذ 1979 دون أن يشهد إلا القليل من التعديلات التي كان أهمّها إلغاءُ منصب رئيس الوزراء وعَوْدةُ موسوي إلى مكتب هندسة العمارة المجهز بالمراسم.
خلال أيام الحملة الانتخابية العشرة، بقي تركيز المرشّحين الإصلاحيين موسوي وكروبي منصباً لا على خططهما وسياساتهما بل على سلوك أحمدي نجاد الذي جرى تصويره رجلاً يُشَكّ بصدقه، يؤمن بالخرافات، فوضوياً في عمله الإداريّ، فلاحياً (ريفياً ومتخلّفاً)، بل وحتّى مهرّجاً مثيراً للسخرية في مظهره على المسرح الدبلوماسي. أمّا أحمدي نجاد فقد ردّ بابتسامته الغامزة، بسلوكه العمليّ، بانفتاحه وفرط سخائه في إنفاق أموال الدولة، بعلاقته الحميمة مع قائم الزمان (الإمام الغائب)، برصيده الوفير من حكايات جحا (نصر الدين خوجا) الشعبوية، بمثابرته على انتقاد اليهود، وبإذلاله لسلاح البحرية الملكيّ في شطّ العرب. وفي سلسلة من الحوارات التلفزيونية ــ وهي مبتكرة حديثاً في إيران ــ قام أحمدي نجاد بإغراق نزاهة خصومه المالية في بحر من الشتائم والاتهامات كما أساء إلى سمعة زهرة راهانافارد (زوج موسوي).
ومع تعاظم قوة حملة موسوي، تمّ اعتماد اللون الأخضر شعاراً لهذه الحملة. كان الأمر حكيماً من ناحية ومتهوّراً من ناحية أخرى. كان حكيماً لأنّ الأخضر هو لون آل النبيّ، إضافة إلى كونه مناسباً. وكان متهوّراً لأن قيادة الحرس الثوريّ باتت تخاف من اندلاع ثورة قاعدية من تحت. فأخضر الموسويين ما لبث أن استحضر الورديّ الجورجي، البرتقالي الأكرانيّ، والزنبقي القيرغيزيّ. وبما أنّ تلك كانت حركات هادفة إلى إطاحة بقايا مهترئة خلّفها الحكم السوفيتي وراءه، فإنها لم تبد ذات علاقة وثيقة بإيران التي كانت قد نجحت، مثيرة دهشة الجميع بما فيها دهشتها هي نفسها، في طرد الجيش الأحمر عام 1946. ففي العاشر من حزيران/يونيو أقدم المدير السياسي للحرس يد الله جاواني على التحذير منبّهاً إلى استحالة تحمّل أيّ ثورة مخملية. وقد قال: «ثمّة مؤشّرات كثيرة على أن بعض الجماعات المتطرّفة تفكّر بإشعال “ثورة ملوّنة”، ثورة خضراء”. وأيّ محاولة لإطلاق أيّ ثورة مخمليّة سيتمّ الإجهاز عليها وهي جنين».
كثيراً ما يؤدّي وجود رئيس ديمقراطي في واشنطن إلى إثارة القلق والمخاوف لدى أيّ نظام دكتاتوريّ متسلط في إيران. ففي عامي 1962 و1976 أصرّ جون اف كندي وجيمي كارتر، على التوالي، على المطالبة باعتماد إصلاحات ديمقراطية كانت كارثية بالنسبة إلى محمد رضا بهلوي. وكما قال توكفيل فإنّ أيّ حكم فاسد لا يدخل أكثر مراحله هشاشة وسرعة عَطَب إلا لحظة ولوجه ذاتياً بابَ الإصلاح. فإيران الثورية تستمدّ دعْمَها الشعبيّ من التهديد الخارجيّ على الصعيدين السياسي والعقدي كليهما. بادر باراك أوباما إلى مدّ يده مقوِّضاً إحدى الركائز الأساسية التي تُبْقي البلاد في حالة توتر أبديّ ــ أمّا سببا التوتّر الآخران فهما خطر قيام إسرائيل بشنّ هجوم على إيران، وخطر التطرف السنّيّ بأثوابه السعودية، البن لادنية، أو الديوباندية على حدّ سواء.
الانتخابات الرئاسية في الجمهورية الإسلامية تجري في دورتين، على غرار الممارسة الفرنسية التي عاد بها الخميني ومستشاروه في حقائبهم مثل قطعة من حلويات النوغة لدى رجوعهم من منفاهم الباريسي عام 1979. ما لم يفز أيٌّ من المرشّحين بنسبة 50 بالمائة من الأصوات في الدورة الأولى، ثمّة بعد أسبوعين دورة ثانية يتنافس فيها المرشّحان الأوّل والثاني من حيث نسبة الأصوات في الدورة الأولى. ويبدو واضحاً بالفعل أنّ نسبة الـ 62 بالمائة الممنوحة لأحمدي نجاد بمثل هذه السرعة المثيرة للشك صبيحة الثالث عشر من حزيران/يونيو لم تكن إلا لقَطْع الطريق على أيّ مضاعفات. تلك كانت الطريقة الفُضْلى لتجنّب أيّ جولة ثانية كان من شأنها أن تمكّن «الموجة الخضراء» من التحوّل إلى إعصار قادر على جرف أحمدي نجاد في طريقه. وكما يحصل في كثير من الأحيان فإنّ ما يبدو نتيجة إن هو في الحقيقة إلا سبباً. مهما كانت حقيقة الأمر، يبقى أحمدي نجاد شديد الولع بالإكثار من الكلام كما سيتبيّن لنا جميعاً في مستقبل غير بعيد.
كان الأسبوع التالي شاهداً في إيران على عودة الروح إلى الجماهير، إلى الشارع، إلى تلك القوة التي ظلّت غائبة عن المسرح السياسي الإيراني منذ جنازة الخميني في 1989. قيل إنّ ما لا يقلّ عن أربعة وثلاثين شخصاً من الشبيبة قتلوا برصاص قوات الأمن. كثيرون قُتلوا في هجوم استباقي على أمكنة إقامة الطلاب بجامعة طهران في ساعات الفجر من يوم 15 حزيران/يونيو كما في أوقات لاحقة من اليوم نفسه، حين تعرّض جمهور يضمّ الملايين لوابلٍ من الرصاص الصادر عن مقرّ الباسيج الميليشيوي المدجّج بالسلاح تحت نصُب محمد رضا التذكاري في ساحة آزادي الملكية.
بطريقة ماركسوية مفضَّلة، بادر أنصار موسوي إلى التزيّن برموز ثورة 1979 وشعاراتها. وكما في أيام كانون الثاني/يناير من ذلك العام، صار نداء «الله أكبر» يتردّد كل ليلة متصاعداً من أسطح المباني عاكساً أصداءه على سفوح الجبال الواقعة جهة الشمال. وكما في 1979، مرة أخرى، تعالت هتافات «الموت للدكتاتور!» (أو الموت للدكتاتورية!) مع أنّ الدكتاتور هذه المرّة لم يكن إلا خامنئي، ولم تكن الدكتاتورية سوى قيادة ولاية الفقيه. رؤوس الموسويين كانت محشوة بذكريات أعوام 1979، 1953، و1908؛ غير أنّ النظام لم يتردّد، هو الآخر، في الاستسلام للحنين الماضوي (للنوستالجيا). سارع أحمدي نجاد إلى رؤية يد دواننغ ستريت الخفية وقَرَصَ ذيْلَ الأسد البريطاني النعسان في عرينه العريشي الأبيض الكائن في شارع فردوسي. ما كان جديداً هو أسلوبُ القمع. حَمَلَةُ العصي القدامى الذين درجت العادة على قيامهم بتفريق التظاهرات اليسارية أو النسوية في الثمانينات، باتوا الآن مدعومين بعناصر ميليشيوية مجهّزة بالدراجات النارية الأنيقة والأسلحة الأوتوماتيكية الرشّاشة. بضع مئات من أنصار المعارضة تمّ اعتقالهم يوم الفاتح من آب/أغسطس، مجموعة كبيرة حوكمت على الملأ. وفي المحاكمة أقدم مستشار لكروبي يدعى محمد علي أبطحي، وهو في ملابس السجن بعد تجريده من عمامته، على الاعتراف بأنه ارتكب خطأ حين أعلن أنّ تزويراً حصل في الانتخاب. وقد قال إنّ خاتمي، موسوي، ورئيس الجمهورية الأسبق هاشمي رفسنجاني كانوا قد تآمروا سلفاً وخططوا لإحداث ثورة مخملية. لا أحد في إيران يصدّق مثل هذه الاعترافات التي تتمّ في السجن؛ فهي من السمات الإيرانية المألوفة منذ أيام البهلويين، ولا تثير إلا قدراً من التعاطف مع الضحايا. لم تكن المسرحية الأبطحية المدبَّرة هذه إلا إنذاراً منطوياً على خطر احتمال صيرورة السادة المذكورة أسماؤهم في الاعتراف أيضاً من نزلاء سجن ايفين في مستقبل غير بعيد.
كان الحشد مفتقراً إلى القيادة، أي قيادة. لم يكن موسوي، زوجُه، وأصدقاؤه مستعدّين لتعريض أنصارهم الشباب لخطر إراقة الدماء. لم يكن لديهم أيّ برنامج سوى شعار: «أين صوتي؟» الدستوري الاستفهامي. لم يكن عندهم أيّ تنظيم سوى تحالف عدد من الأحزاب الصغيرة غير المعروفة إلا عند المتخصّصين بدراسة السياسة الفارسية مثل اتحاد رجال الدين المناصرين وجبهة المشاركة في إيران الإسلامية. وتماماً كما نجحت ثورة 1905 – 106 في اكتشاف الجرائد والبرقيات، نجح الموسويون في توظيف الاتصالات الإلكترونية حديثة العهد. صحيح أنّ هجمات رَفْض الخدمة على مواقع خامنئي والحرس كانت ناجحة جداً، بيد أنها لم تكن لتشكل تعويضاً عن التحرك المباشر الذي تم في 1905 – 1906: تحرّك إقفال البازار، اللجوء الجماهيريّ إلى مقرّ البعثة البريطانية، مع نوع من أنواع الهجرة العامّة لرجال الدين الدستوريين إلى قم. هذا ولم يكن ثمّة، كما في أعقاب الانقلاب الحكومي الملكي لعام 1908، أي قوّة دستورية احتياطية كامنة في المؤسسة القبلية على غرار القوة البختارية التي زحفت على طهران وتولّت إنجاز مهمّة إلحاق الهزيمة بالجيش الملكي. تمكّن البهلويون من سحق القبائل والعشائر، كما تمكّنوا من طحن كلّ شيء في إيران القديمة؛ وما بادر رضا إلى إطلاقه والشروع فيه سارع الحرس الثوري إلى استكماله حين تمّ شنق زعيم الوحدات والسرايا البدوية: خسروف خان في ساحة بازار فيروز آباد في تشرين الأول/أكتوبر، 1982.
قبل كلّ شيء وفَوْقَه، أخفق أنصار موسوي في كسب تأييد الاقتصاد التقليدي أو البازار. ومع أنّ هذا البازار ساخط على تفاهة إيران الاقتصادية كما على ممارسات أحمدي نجاد التضخمية، فإنّه بقي مفتوحاً طوال شهر حزيران/يونيو. لم يكن ثمّة أيّ أثر لذلك الشلل الصناعيّ الزاحف الذي كان قد شكّل واحدة من سمات ليس عام 1906 وحسب بل وخريف 1978، حين بات النظام البهلوي عاجزاً عن تحصيل الرسوم الجمركية أو عن تزويد فرقه المؤلَّلَة بنسغ الحياة. ما من اقتصاد، وإن كان غارقاً في الفوضى وسوء الإدارة والتدبير مثل الاقتصاد الإيراني، إلا ويتمخض عن موارد تؤدّي، إذ يتمّ توزيعها على عناصر الحرس الثوريّ، القوّات النظامية، الشرطة، الميليشيا، الصناعات المؤمّمة، قدماء محاربي الحرب العراقية، خَدَم الدولة، مؤسسة كهنوتية واسعة شاملة لحشد من الهيئات الوقفية والمعاهد التعليمية والزوايا، إضافة إلى الغذاء ووقود السيارات المدعومين، تؤدّي إلى خلق جيش كامل من الإيرانيين ذوي المصلحة المادية في بقاء الأمور على حالها. أمّا الإنفاق الذي يتجاوز الموارد فتتمّ تغطيته بالتضخّم الذي هو على الدوام أسهل أساليب تحميل الشغيلة أعباء الضرائب لأنّه الرسم الذي لا يستطيعون تجنّب الالتزام بتسديده. إنّ مستويات المعيشة المعبّر عنها بمعدلات دخل الفرد لم ترتفع منذ أيام محمد رضا، إلا أن ضروب التفاوت في الثروة باتت أقل بروزاً ممّا كانت في ظلّ البلهويين وثمة مدوّنات أو شرائع إنفاقية ــ اقتصادية قويّة. طوال بقاء النظام مصرّاً على استبعاد المنافسة الأجنبية، وعلى فرض المَلْبَس والسلوك المحتشمين بالنسبة إلى الرجال والنساء (الحجاب)، فإنّه يظلّ مؤهلاً للتعويل على البازار. فعناصر الحرس العاديون الذين قد لا يكونون أكثر صلابة من عناصر جيش الشاه، لم يتمّ امتحانهم في الشوارع والبولفارات.
أمّا صرخات المنفيين الهادرة فما لبثت أن أصبحت، مع حلول الأسبوع الثالث من شهر حزيران/يونيو، مجرّد زقزقات طيور صغيرة في الأقفاص. في صلاة الجمعة بجامعة طهران يوم 19 حزيران/يونيو تحدّث خامنئي من على منبر خطيب الجامع مستحضراً محن مؤسّس المذهب الشيعيّ، الإمام علي، وقال إنّ تزوير مليون، لا أحد عشر مليوناً من الأصوات، أمر ممكن. أعلن المرشد إغلاق باب النقاش حول موضوع تزوير الانتخابات وهدّد بمعاقبة أولئك الذين يستمرّون في الاحتجاج. وفي التاسع والعشرين من حزيران/يونيو أقرّ مجلس الأوصياء صلاحية الانتخاب. وفي الخامس من آب/أغسطس قام أحمدي نجاد بأداء القسم بوصفه رئيساً للجمهورية.
العقابيل:
إذا كانت الأمور كذلك، فما النتائج؟ كثيراً ما كان محمد رضا يقول إن باستطاعة أولئك الذين لا تعجبهم حضارته العظيمة أن يذهبوا إلى الجحيم، أو أن يضربوا رؤوسهم بالجدار. ومنذ عام 1979 ظلّ علاج الجمهورية الإسلامية الرئيسيّ على صعيد التعامل مع المواطنين المعاندين المصرّين على المعارضة متمثلاً بالإبعاد والحرمان أكثر من تمثّله بالقمع والاضطهاد. ما من هزة أو خضّة تعرّض لها النظام إلا وتمخّضت عن قسطها من موجات الهجرة. أقدم الملكيون، أُسَر العسكريين، عناصر السافاك (الاستخبارات)، اليهود، والبهائيون على الرحيل سنة 1979. أما الليبراليون واليساريون فغادروا بعد موجة 1981 الإرهابية. وفي عقد التسعينات، حين أصبح برميل النفط يباع بمبلغ عشرة دولارات، استنقع الاقتصاد وانهارت قيمة النقد وقدرته الشرائية، بادر مئات آلاف الشباب إلى التدفّق نحو الخارج كما حصل ذات مرّة عند التدفّق على حقول نفط باكو ومناجم فحم كريفوي روغ. لاشكّ أنّ الموسويين (أنصار المرشّح الرئاسي مير حسين موسوي) سيشكّلون موجة رابعة في مسلسل الهجرة من إيران.
لمثل هذا التطهير عن طريق النفي والإبعاد تأثيران صحّيان. يتمثّل الأوّل بالحفاظ على صورة الوحدة التي هي حجّة السياسة الإسلامية بوصفها مبدأ اللاهوت (الكلام) الإسلاميّ: فالشعب واحد غير قابل للتجزئة مثله مثل الله بالذات. أمّا الأثر الصحّي الثاني فهو وضع سقف لطموحات الطبقة الوسطى الإيرانية، والحفاظ على طابعها البرجوازيّ الصغير، المتديّن، والتقليديّ. كان ثمّة أثر جانبيّ تمثّل بإيجاد جيش مؤلّف من مليون أو أكثر من المنفيين الإيرانيين في كلّ من الولايات المتحدة، كندا، بريطانيا، ألمانيا، والسويد، وجميعهم، باستثناء قلة، مزدهرون، كما أنّهم جميعاً، عدا قلّة، شديدو الشوق إلى الوطن، إلى مسقط الرأس. يبدو أنهم، في بلير وكنزنغتون الجنوبي، قد فقدوا ميزتهم الإيرانية الميتافيزيقية. أمّا التعويض عن الأعداد الكبيرة من هؤلاء المنفيين فقد تمّ عن طريق استقبال أفواج اللاجئين الهاربين من الحروب المتمادية في أفغانستان والعراق.
غير أنّ ما حصل قد حصل. وفقدان النظام غير المتوقّع لأعصابه في الأيّام الحزيرانية أدّى إلى تقويض هيبته. فرغم وجود حشد من الهيئات غير المنتخبة حول كلّ من المجلس ورئاسة الجمهورية، فإنّ النظام يبقى عاجزاً عن تحقيق رغباته دون الانزلاق إلى إحداث انطباع قويّ بحصول تلاعب وإلى إطلاق النار على عدد غير قليل من الفتيان والفتيات. إنّ نظاماً كان ذات يوم حالماً بفرض نوع من أنواع الحكم الإسلامي على العراق (أو أقلّه على حوزة النجف التي كان الخميني شديد الكُره لها خلال منفاه العراقيّ في عقدي الستينات والسبعينات) يجد نفسه مهزوزَ الأركان والركائز بفعل مهندس عمارة بائس على رأس جمهور أعزل غير مجهَّز بأيّ سلاح. إنّ ثورة وعدت بإلباس العالم ثوب القانون وبإعادة القدس إلى المسلمين باتت منكفئة على شيعية متشائمة في بلد واحد، متحصّنة خلف أسوار معتقد ومسلك اجتماعيّ مطَّردَيْ التعرض للانتهاك والخرق.
وهذه النزعة التشاؤمية، في حالة فيلسوف ومتصوّف في قم يدعى آية الله محمد تقي مصباح يزدي، وهو على صلة قوية بكلّ من أحمدي نجاد وحلقته السياسية المعروفة باسم آباد غاران، لا تلبث أن تتحوّل إلى نزعة انهزامية. إنّ إيران، بنظر مصباح يزدي هذا، هدف أبديّ للهجوم وليس على الصعيد العسكري وحسب. إنها مستهدفة «في المجال الاقتصادي» وقد سبق له أن قال:
تتّخذ هذه الحرب صيغة حُزمةٍ من المؤامرات والدسائس الدولية الهادفة إلى الحيلولة دون التقدّم الاقتصادي والعلمي في العالم الإسلامي. يتجلّى الأمر في تحرّكات المرتزقة والعملاء المحليين الدائبين على غَرْس بذور الفوضى والشقاق السياسيين بين صفوف المسلمين. إلا أنّ ساحة الحرب الأهمّ هي الثقافة حيث ظلّ المستعمرون والمستكبرون لسنوات طويلة يمارسون سلسلة من أساليب الخداع والتضليل في تعاملهم من المسلمين. وممّا يبعث على الأسف أننا نلمس مؤشّرات دالة على انتصارهم في بلدنا بل وحتى في أسرنا وبيوتنا.
وفي خطاب له في مشهد بتاريخ 19 تموز/يوليو قال هذا الشيخ الصوفيّ إنّ أولئك الذين حاولوا إعلان بطلان الانتخابات وزيفها كانوا يقعون في خطيئة إنكار مبدأ ولاية الفقيه بالذات.
سارع دستور الجمهورية الإسلامية إلى الاضطلاع بدوره وأداء وظيفته. بطابعه التمثيليّ أضفى على الجمهور الإيراني شعوراً بأنه ذو حصة في الحكم، ما أدّى إلى توفير عباءة مشروعية لسياسة إيران القائمة على القوة. استعادياً، كان إحجام البهلويين عن تحمّل الحكم التمثيلي هو الذي أبقاهم عاجزين عن التعامل مع المعارضة، أيّ معارضة. انزلق رضا إلى درك إساءة معاملة البرلمانيين وضربهم كما كان يفعل مع أنصاره، ونفيه بعد الغزو الإنجليزي ــ الروسي في 1941 لقي الترحيب لأنه أدّى، في المقام الأوّل، إلى إتاحة فرصة إحياء الحكم البرلماني. ومع الزمن، لم يجد نَجْلُه محمد رضا، الذي تحوّل من شاب طرّي العود مسكون بالرعب في سنوات الحرب إلى نسخة مونتروية عن أبيه، ملاذاً يلوذ به في 1976 سوى حزب راستاخيز (البعث) الأوحد الفضائحيّ غير المتمتّع بأيّ شعبية. من المستحيل الآن أن نتصوّر أن من شأن الانتخابات الحادية عشرة أن تكون مصحوبة بأيّ قدر من الحماسة. من المؤكّد أنّ خامنئي كان، خلال صلاة الجمعة في التاسع عشر من حزيران/يونيو، وهو ينظر من علٍ إلى أحمدي نجاد في الصفّ الأول من المصلّين مبتسماً مثل أيّ تلميذ نجيب، يتساءل بينه وبين نفسه قائلاً: «ما السبيل إلى الخلاص من هذا الزبون في غضون أربع سنوات؟ من المحتمل بقوّة أن تتدهور الانتخابات غارقة في مستنقعات نوع من أنواع البيعة أو الولاء مثل تلك التي سبق للشيخ فضل الله أن فكّر بها».
مثلها مثل نظرتها المأساوية التراجيدية إلى التاريخ، ووعْدها بالخلاص، فإنّ العقيدة الشيعية كانت منذ أيام الصفويين الوسيلة الرئيسية للاستيلاء على سلطة الدولة والاحتفاظ بها داخل فضاءات مصونة أو محروسة. ففي مواجهة مأزق جميع الكتابات المقدّسة المدوّنة في الزمان غير أنّها ملزمة بالتشريع للأبد، تتيح العقيدة الشيعية الإيرانية لأولئك الذين يستطيعون امتلاك الفهم الصحيح والعميق للمناهج الدراسية المرهقة في الحوزات التعليمية الدينية هامشاً واسعاً على صعيد وضع التشريعات والقوانين. وهذا الهامش بالذات هو الذي مكَّن المذهب الشيعيّ من استيراد هذا العدد الكبير من البضائع الذهنية والفكرية مثل الحركتين الدستورية والماسونية في القرن التاسع عشر؛ نزعة ستينات القرن العشرين العالم ثالثية؛ وظاهرة الإنترنت الحالية. ومع ذلك فإنّ التاريخ الإسلامي، من ألفه إلى يائه، لم يشهد ابتكاراً كالذي انطوت عليه نظريات الخميني الخاصة بالاستيلاء على السلطة والمحافظة عليها في العالم. إذا عدنا إلى الوراء ونظرنا في محاضرات الخميني التي ألقاها في النجف خلال شهري كانون الثاني/يناير وشباط/فبراير 1970، وباتت الآن تُعرف باسم الحكم الإسلامي: ولاية الفقيه، فإنّنا نُصاب بالذهول إزاء طابع تقدّم الخطاب لا بالاستناد إلى المرجعية (كما في الفكر الإسلامي الكلاسيكي) بل من خلال التأكيد. يبدو كما لو أنّ الخميني كان قد نجح، عبر رحلاته الطويلة في أقاصي العوالم النائية للثيوصوفية (الإشراقية، العرفانية) الفارسية على امتداد سني عقدي العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين، في امتلاك جملة تلك الألغاز والأسرار العرفانية الضائعة مما أهّله لأن يتحدّث بصوت الله.
لم يسبق لهذه النظريات الفارسية الخيالية القائمة على الوهم أن كانت ذات جاذبية خارج إيران في أيّ وقت من الأوقات. إنها غير واردة وغير جديرة بالتفكير بها بوصفها هرطقات في بلاد أهل السنّة وهي مجهولة تماماً في معاقل الشيعة بجنوب العراق، جنوب لبنان، والهند. حين قام رضا بهلوي في 1964 بنفي الخميني وشقّ الأخير طريقه إلى مزار الإمام علي في النجف وجد نفسه منبوذاً من جانب كبار رجال الدين. وأكثر آيات الله تمتّعاً بالاحترام في نجف هذه الأيام، آية الله علي السيستاني، وهو إيرانيّ من الجيل الذي جاء بعد الخميني، هو نفسه أحد الدستوريين من نمط دستوريي أوائل عشرينات القرن العشرين. تمثّلت مساهمته الاستثنائية في إنقاذ العراق من الحرب الأهلية بفتواه التي دعت الشيعة عام 2005 إلى المشاركة بالتصويت في الانتخابات البرلمانية.
حتى في إيران تعرضت وحدة رجال الدين الخمينيين للتمزق. ثمّة آيات ذوو مرجعيات عظيمة أُسكتت أو دُفعت إلى التقاعد والانزواء. أبطال حركة الخميني الذين تحمّلوا المنفى وسجون الشاه البهلوي وكانوا أهدافاً لرصاص القتلة على منابرهم، يجدون أنفسهم مُبعدين من قِبَل حشد من مدمني السلطة والمشعوذين. فمنتظري الذي قال عنه الخميني ذات يوم «إنه ثمرة حياتي»، مسجون في بيته بنجف آباد منذ عام 1997(توفّي مؤخّرا – المحرّر). وفي 2002، بادر آية الله جلال الدين طاهري، إمام صلوات الجمع في أصفهان، إلى الانسحاب من حياة عامّة فاسدة إلى درجة غير قابلة لأن تطاق، مطلِقاً عبارات تفوح منها رائحة حركة 1906 الدستورية، إذ قال: «حين أتذكّر جملة الوعود والتعهّدات التي أُطلقت في أيام الثورة الأولى، أرتعش وأرتجف مثل غصن صفصاف قلقاً على عقيدتي. أرى شمس حياتي باعثة أشعتها الأخيرة، طحيني منخولاً، ومنخلي معلقاً في مكانه. أجدني غارقاً في بحر من عرق الخجل والخزي». وفي أوائل تموز/يوليو قام بإصدار بيان دان فيه التلاعب الحاصل بالانتخاب. وهكذا فإن لدى أهل التقوى من الإيرانيين الساخطين على عنف الحكم الإسلامي والمستائين من انحرافات هذا الحكم وفضائحه وفرة من «مراجع التقليد» البديلة كما هو معروف عند القاصي والداني.
مثل دستور 1848 الفرنسي الذي «صيغ بقدرٍ كبير من الدهاء حتى بات غير قابل للانتهاك»، كما قال ماركس، فإنّ دستور الجمهورية الإسلامية «لا يمكن أن يصاب في نقطة محددة مثل آخيل. لا يمكن أن يصاب في العقب، بل في الرأس». إنّ دور القائد أو المرشد، ذلك الدور الذي تمّ ابتكاره في 1979 للبطل الخميني، يبقى أكبر من أحجام أيّ خلفاء عاديين. ورجل الدين صانع الملوك هاشمي رفسنجاني الذي تولّى عام 1989 مهمّة التلاعب بمجلس الخبراء وصولاً إلى انتخاب خامنئي خلفاً للخميني قد غيّر رأيه منذ مدّة طويلة. ففي صلاة الجمعة بجامعة طهران يوم 17 تموز/يوليو، قدم رفسنجاني أحداث الثاني عشر من حزيران/يونيو بوصفها خيانة لتراث الخميني. وقد قال: «إنكم تستمعون إلى رجل عاش كل ثواني الثورة منذ البدايات الأولى للنضال قبل نحو ستين سنة حتى هذا اليوم. أنا أعرف ما كان الإمام يريده، وأنا كلّيّ الاطلاع على تفكير الإمام». لو أقدم مجلس الخبراء، الذي يضطلع رفسنجاني بقيادته، على إقالة خامنئي، لتهاوت الجمهورية الإسلامية ممزّقة أشلاء.
البشائر والنذر (الاحتمالات السلبية والاحتمالات الإيجابية):
قليلة هي الإيديولوجيات التي تدوم بعد رحيل الأجيال التي أنجبتها. والشبيبة التي مُنحت فرصة التصويت للمرّة الأولى يوم 12 حزيران/يونيو تكاد لا تتذكّر حكومة خاتمي في 1997 بله موت الخميني، الدفاع المقدّس ضدّ العراق في ثمانينات القرن العشرين، الثورة، أو سنوات محمد رضا الغارقة في بحر من الويسكي. إن رموز تلك الفترات المبهرة لا تُحْدِث إلا الباهت من الاستجابات في مخيلات تلك الشبيبة. والمواعظ اللانهائية عن الخونة والمرتزقة والمؤامرات البريطانية لا تفضي إلى إحداث أيّ أصداء. فهذه الشبيبة لم تكن تتوقّع قط أن يكون التحرّر من التدخّل الأجنبي منطوياً على معنى الانعزال عن تيّار الشؤون العالمية الرئيسي، وعلى معنى البطالة في بلد يعاني من نزيف الرساميل والأدمغة. هي ليست خائفة من أي عودة للنظام الملكي، أو هي لا تعرف معنى النظام الملكي بوضوح. إنها تريد الحرية، لا بمعنى الخلاعة، بل بمعنى ما يمكن أن نطلق عليه اسم حرمة الحياة الخاصة.
ليس ما سيحصل عليه هؤلاء الشباب، كما نعرف جميعاً، سوى الضياع والانحراف. ففي كتابه التاريخ الطبيعي للدين، قام هيوم، على نحو استفزازيّ، بتقسيم العواطف الدينية إلى نزعات تعصّبية من ناحية وميول خرافية من ناحية ثانية. والخميني الذي بدأ أحياناً غائباً تماماً عن هذا العالم الانتقالي العابر كما لو كان غير مبالٍ بالظواهر لم يكن لديه أيّ وهم حول نفسه كما لم يكن يطيق هذا العالم. وأولئك الإيرانيون أقسموا بعيونهم مؤكّدين أنّهم رأوا وجهه على صفحة بدر يوم 16 كانون الثاني/يناير، 1979 اختصروا الطريق. لا بدّ لأحمدي نجاد، ابن الشعب الواعي لذاته، من أن يكون مولعاً بالخرافة الشعبية الفارسية؛ فالشاه عباس بالذات أبقى أفضل جياده في الإصطبل مسروجة وملجومة جاهزة لخدمة الإمام الثاني عشر. أمّا أحمدي نجاد فقد تولّى رعاية تقديس بئر جامكاران خارج قُم حيث تجلّى قائم الزمان للحظة، كما تقول الروايات، وحيث يُنتظر أن يعود. وفي زخمة الاختمارات الأُخروية السائدة هذه الأيام، من المحتمل بقوّة أن يعثر النظام في واحد من مواقف الشاحنات القذرة في سيستان أو فارس على نبيّ إيرانيّ من الطراز القديم. ولن يلوم النظام على ذلك إلا نفسه. ورغم أنّ الخميني ورضا بهلوي لم يكونا يتقاسمان أيّ شيء آخر، فإنّهما كانا متشاركين في الاقتناع بصحّة القاعدة التالية: لن يكون ثمّة أيّ أنبياء في إيران طوال بقائي قادراً على التنفّس.
يتمثل الانحراف أو الضياع الثاني بالسلاح النووي. ثمّة نوع من أنواع الإيمان الأعمى، في طول إيران وعرضها، بأنّ من شأن امتلاك قنبلة نووية أن يؤدّي إلى دوام حكم العمامة إلى الأبد. ولا أهمية بالمطلق لحقيقة أنّ القُدْرة على تفجير قنبلة نووية لم تفعل شيئاً على صعيد الحفاظ على نظام الفصل العنصري (الأرباتهايد) في جنوب أفريقيا أو على الحكم العسكريّ في باكستان. إنّ عمليات تخصيب اليورانيوم وصولاً إلى الدرجة المطلوبة لصنع قنبلة جارية على قدم وساق. وإذا كان الأمر يزرع الخوف في قلوب الأوروبيين أو مرشّحا لأن يستثير هجوماً إسرائيلياً، فإنّ ذلك هو المطلوب لأنّ من شأنه يضمن وحدة الشعب وبقاء أطوال الخرّاطات (التنانير) واصلة إلى الأرض. إذا كان المستقبل منذراً بالمجابهة مع الغرب، بالمهدوية الرسولية الخلاصية، بالتماثل الاجتماعي، وبمعهد لاهوتي نووي، فما وجه الغرابة في أن تبادر هذه الأعداد الكبيرة من الإيرانيين إلى الزحف من ميدان انقلاب (الثورة) إلى ساحة أزادي (الحرية)؟ وإلى ذلك الحين يستطيع الإيرانيون أن يتابعوا أداء أحمدي نجاد الشبيه بأداء لوي نابليون الموصوف في فقرة الثامن عشر من برومير الختامية حيث يقال:
إنّ بونابرت، وقد ساقته إلى ذلك مطالب وضعه المتناقضة وكان في الوقت نفسه يقوم بدور الحاوي المضطرّ إلى إبقاء نفسه محط الأنظار كبديل لنابليون، وذلك بقيامه بالمفاجآت المستمرة، أي بالأحرى إلى إجراء انقلاب مصغر كل يوم، إن بونابرت هذا قد ألقى الاقتصاد البرجوازي برمته في هاوية الفوضى وانتهك كل ما كان يبدو مصوناً بالنسبة إلى ثورة 1848، وجعل البعض يتسامحون مع الثورة، وآخرين يرغبون فيها الثورة، وخلق فوضى فعلية باسم النظام، بينما كان في الوقت نفسه يجرد جهاز الدولة بكامله من الهالة التي تحيط به، يلوِّثُه، ويجعله بغيضاً ومحلاً للسخرية في آن واحد.
عن مجلة: نيولفت ريفيو، عدد أيلول/سبتمبر ــ تشرين الأول/أكتوبر، 2009 [59]، ص: 72 – 87.
– جيمس بوكان: كاتب ألف عدداً غير قليل من الكتب والمقالات منها: رغبة مجمد (1997)، عروس فارسية (1999)، رأس المال والعقل (2003)، وآدم سميث والسعي إلى الحرية الكاملة (2006)؛ انظر أيضاً مادة في المسلسل الأول من مجلة نيولفت ريفيو، العدد 210 (آذار/مارس ـ نيسان/أبريل 1995).
تعليقات حول الموضوع
موقع الآوان