صفحات العالم

حول أوضاع الأقليات والمسيحيين في منطقة مضطربة الوطنية

حسن شامي
يبدو أنّنا محكومون بالعيش، في الأمد المنظور، مع عوارض موجعة يداريها كثيرون في البلدان العربية والإسلامية بعدم الاكتراث أو بالامتناع عن الخوض فيها مع اعتبار ذلك أعلى درجات الحكمة إن لم يكن رأسها. يمكننا أن نضع عنواناً عاماً وعريضاً لهذه العوارض هو قضية «الأقلّيات» في هذا البلد العربي – الإسلامي أو ذاك، بل حتى فيها جميعاً، وتوسيع دائرة التناول بحيث تشمل، على سبيل المقارنة في الأقلّ، بلداناً أخرى أو مجالاً جغرافياً – ثقافياً آخر. ويمكننا أن نقصر العنوان على أوضاع المسيحيين، على اختلاف مشاربهم وجماعاتهم وتنوّعها، في المشرق العربي. فوضع المسيحيين في غير بلد مشرقي، بما في ذلك البلدان التي لا تشهد نزاعات أهلية مسلّحة، بلغ حدّاً مأسوياً بكل المقاييس. فلنسارع إلى القول إنّ الصفة المسيحية المستخدمة هنا محمولة على المعنى السوسيولوجي العريض للكلمة وليس على المعنى الديني أو الطائفي الضيق لها. هذه الصفة، في المعنى المشار إليه أي المشتمل على جملة من المعطيات والشروط اللاشعورية التي تجيز لأصحابها أو لآخرين أن يتّصفوا بها وينتسبوا إليها من دون تعصّب، هذه الصفة تشهد أو تتعرّض منذ بضعة عقود لاستنزافٍ مؤلم. بالضبط مثلها مثل صفة المسلم السوسيولوجي.
المنطقة تنزف «مسيحييها». فلا يمرّ أسبوع من دون حوادث ووقائع تشير إلى تزايد هجرة المسيحيين، لاعتبارات مختلفة، وإلى تزايد الاعتداءات عليهم على يد مجموعات تحتكم غريزياً إلى أهوائها الطائفية أو الأهلية العنيفة. لقد بات أمراً معلوماً أنّ العراق يكاد يفرغ من مسيحيّيه الذين يتعرّضون بطريقة منهجية للسلب والتنكيل وفرض الإتاوة و… اللامبالاة.
ويظهر من اعترافات عرضتها وزارة الدفاع العراقية في تسجيل مصوّر، وهي لتسعة من عناصر تنظيم «القاعدة» قُبض عليهم في محافظة نينوى، أنّ هؤلاء أقروا بذبح مسيحيين «لم يدفعوا الجزية». وقال أبرز المتهمين إنّ إماماً باكستانياً جنّده في لندن وموّله لتنفيذ عمليات و «نصبني مفتياً فأعطيت فتوى بذبح مدرّس مسيحي، وأخرى ضد صاحب محل مسيحي أيضاً لعدم دفعه الجزية»، وأكّد المتهم ذاته أنه أشرف على تفجير استهدف أقلية الشبك في قرية الخزنة موقعاً حوالى أربعين قتيلاً في آب (أغسطس) الماضي.
ويظهر من أنباء نقلتها الصحف قبل أيام قليلة عن اغتيال مسيحيين في الموصل أنّ المسلحين اتّبعوا الطريقة ذاتها التي استخدموها سابقاً في قتل عدد من المسيحيين خلال الأسابيع الأخيرة.
لا حاجة للتوسّع في سرد مثل هذه الوقائع، خصوصاً في الحالة العراقية. بل حتى يمكن «تطبيعها»، بشيء من الصلف السجالي طبعاً، بدعوى أنّ البلد العراقي «المعلّق» يزخر بمقاتل واستهدافات من هذا النوع وعلى نطاق أوسع، إذ هو منذ سنوات يتخبّط في نزاعات أهلية دامية ومفتوحة على كل الاحتمالات. لا حاجة أيضاً للتذكير بالمواجهات التي وقعت أخيراً في مصر وأودت بحياة خمسة من الأقباط وشرطي مسلم، كما لا حاجة للحديث عن تزايد هجرة المسيحيين الفلسطينيين ليس بسبب جموح إسلامي يبحث عن كبش فداء، بل بالدرجة الأولى بسبب الاحتلال الإسرائيلي واعتماده المدروس على التضييق والخنق المنهجي لشروط حياة وطنية لائقة.
المنطقة تنزف مسيحييها وتستنزفهم. وليست الاعتبارات الإنسانية والأخلاقية هي التي تستدعي وحدها إطلاق صرخة نعلم أنها ستضيع وسط الصخب والعنف اللذين يلفّان مجتمعات تنخرها العصبيات المتنازعة. فمن الناحية الإنسانية يمكن القول، من دون أيّ رغبة في لطم النفس واستدعاء غربانها، إنّ تراجع الحضور المسيحي وانسحابه المتزايد نحو الهامش الوطني، سواء كان ذلك بسبب تناقص الوزن الديموغرافي أو بسبب تضخّم الأصوليات والعصبيات القبلية، ينذر بتزايد الفقر والبؤس الروحي والثقافي للمنطقة برمتها.
ثمة في هذه المنطقة من يظنّ أنّ تناقص الأشجار الواقعة خارج أرضه وإقليم عصبيّته، بل حتى قلعها، لن يمنع من استمرار الحياة واعتبارها حصراً حديقة الأهل والقبيلة وإن بهواء وشجر أقلّ. وهذه طريقة للقول إنّ قراءة الهامش وكيفيات التهميش تصلح كثيراً لقراءة المتن ومنطق اشتغاله. والمقصود بهذا أنّ الخروج التدريجي للمسيحيين من المشهد الوطني العام، أكان هذا الخروج طوعياً أم قسرياً أم مزيجاً من الاثنين، هو بالتأكيد مؤشّر على مدى التجويف الذي بلغته الفكرة الوطنية بالذات في غير بلد مشرقي. لقائلٍ أن يقول متسائلاً أو معترضاً: لماذا هذا التوقف الخاص عند النزف المسيحي ما دامت المنطقة كلها تنزف أصلاً؟ بل حتى يمكن عطف السؤال على سؤال آخر أكثر تشكيكاً: أو ليس استثناء المسيحيين من المصير الوطني كما لو أنّهم فوق رهاناته التاريخية والسياسية هو نوع من العنصرية، أو «الذميّة» إذا شئتم، ولكن بالمقلوب؟ هذا الاعتراض له وجاهته والحق يقال. على أنّ المسألة تدور في مدار آخر يمكن مقاربته من خلال رصد العلاقة بين المتن والهامش كما سبقت الإشارة. فالعصبيات الزاعمة حيازة الأكثرية والمستندة إلى القوة العددية العارية تتصارع على المتون.
وفي خلفية تصارعها هذا، أو ربما بسببه، تتوالد صور وتمثيلات تسعى إلى المطابقة بين سلطة العصبية والدولة الوطنية، وبذلك يتلاشى تدريجياً الالتباس «البنّاء»، الموروث من الحقبة العثمانية الحديثة ومن عصر النهضة الانتقالي، بين المحلي والوطني.
وفي هذا المعنى تكون الوضعية المسيحية اليوم مأسوية ليس فحسب بالمقارنة مع حقبة ما قبل الاستقلال الوطني وبعده، بل بالمقارنة مع حقبة التنظيمات العثمانية التي حاولت تكريس وطنية عثمانية يتساوى فيها كل مواطني السلطنة وأضفت على النخب المحلية صفة سياسية جديدة بعض الشيء وليس من دون التباس.
هامشية الدور المسيحي هي مؤشر على مشكلة تتعلق بطريقة إنشاء المتن نفســه، أي علـــى اضطـــراب النصاب الوطني. إنها مشكلة وليست مرضاً. بل يجدر، لمقاربة هذه المشكلة والعمل على حلها، الابتعاد قدر الإمكان عن الخطاب الطبي، خصوصاً عندما لا يكتفي بالتدليل الكنائي والمجازي بل يزعم القبض على الحقيقة. فنحن في منطقة تتناطح فيها مقولتان عريضتان تزعمان كلاهما امتلاك حلول تفيض عن الأسئلة والمشكلات الفعلية. إنهما مقولة «الإسلام هو الحل» ومقولة «الغرب هو الحل». وهذه قصة أخرى.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى