التقارب السوري ـ السعودي: لعبة الهدايا المسمومة
صبحي حديدي
إذا كنتَ تقرأ عموداً في صحيفة سعودية، رسمية أو شبه رسمية، فإنّ القمة السعودية ـ السورية الأخيرة بين بشار الأسد وعبد الله بن عبد العزيز هي تتويج لجهود الأخير في سبيل ‘إتمام المصالحات العربية التي أطلقها في قمة الكويت الاقتصادية’؛ وحرصه على ‘تصحيح العلاقات العربية – العربية وإعادة التوازن إلى الوضع العربي الذي يتعرض للتهتك من حين لآخر’؛ وإيمانه بأنّ ‘صالح الأمة وقضيتها أن تتلاقى البلدان الرئيسية في المنطقة على رؤية عربية موحدة تخدم القضايا العربية وفي مقدمتها القضية المركزية في فلسطين’؛ كما جاء في افتتاحية صحيفة ‘الوطن’ السعودية.
من جانبها، اختارت ‘الوطن’ الأخرى، الصحيفة السورية التي يملكها رجل الأعمال وابن خال الرئاسة رامي مخلوف، أن تطلق تسمية ‘قمة المبادرة’ على لقاء الجنادرية: ‘المبادرة باتجاه قضايانا وشعوبنا ومستقبلنا، المبادرة باتجاه الحقوق العربية والقرار العربي الحرّ والمستقل، والمبادرة باتجاه المصالحة وعودة كل العرب إلى عروبتهم’. وبالطبع، الأسد هو صاحب المبادرة إلى ‘موقف عربي موحد قائم على الحقوق العربية والشرعية الدولية’، من أجل ‘سلام دائم وشامل يضمن عودة الحقوق كاملة’، و’إعلاء شأن العرب الذين يستحقون بمكانتهم وثقافتهم وعلمهم وثرواتهم أن يكون لهم كلمة الفصل وأن يكون لهم حضور ودور يحترمان دولياً وأن يكونوا هم أصحاب القرار في رسم خريطة منطقتهم’…
إذاً، هل عفا الله عمَّا جرَّه اللهوُ والصِّبا/ وما مرَّ من قالِ الشباب وقيله، حين كانت افتتاحيات الصحيفتين إياهما تتبادلان أقذع الشتائم، في إطار الحرب الإعلامية التي اندلعت بين النظامين السوري والسعودي بعد خطاب الأسد الشهير، صيف 2006، الذي غمز فيه من قناة ‘أشباه الرجال’، وكان يقصد حسني مبارك وعبد الله بن عبد العزيز ومَنْ لفّ لفّهم؟ للسذّج وحدهم نعمة أن يصدّقوا هذه البلاغة اللفظية، الهالكة المستهلَكة من كثرة ما تردّدت وتكررت وتعاقبت، ليس في ما يخصّ حاضر ومستقبل العلاقات بين النظامين فحسب، بل في نطاق الحصيلة الإجمالية لمسمّيات مثل ‘التضامن العربي’ و’وحدة الصفّ العربي’ و’الموقف العربي الموحّد’… شتان بين الأقوال التي تسعى إلى تجميل القبح والعيب والعار، والأفعال التي تستبطن الحقد والتآمر أو التسوية والتواطؤ.
في الجانب الإعلامي، على نحو خاصّ، تتجلى أبشع أنساق الاحتراب، فلا يكاد الأسد ينطق بصفة ‘أشباه الرجال’، دون أن يتجاسر على ذكر أيّ اسم، حتى تلهج صحافته بقبائح هؤلاء ومخازيهم، دون تسمية هنا أيضاً؛ فتردّ الصحافة على الجانب الآخر، السعودي، بما لا يقلّ عنفاً في القاموس اللفظي، وفي محتوى الخطاب المرذول. ‘الوطن’ السعودية، دون سواها، كانت في صيف 2007 قد اعتبرت أنّ بعض أخطاء النظام السوري ترقى إلى مستوى ‘الخطيئة الأكبر’، ونصحت أهل النظام بـ’التوقف عن اللغو ريثما تنهي المحكمة الدولية أعمالها’، في إشارة إلى ‘تصريحات نائب الرئيس فاروق الشرع الطائشة’. ‘الوطن’ السورية لم تقبل بأقلّ من ‘نهاية الحقبة السعودية’، بما اتسمت به من ‘تقلب وتغير وعجز وإرباك’، ومواقف تميزت بالانحياز وافتقدت دائماً إلى الاعتدال والمسافة الواحدة والآلية التنفيذية المنطقية والمطلوبة لتنتقل النيات من القوة إلى الفعل’.
كذلك يحدث أن يتولى بعض المسؤولين أدوار ‘تأطير’ الخصام سياسياً، أو هكذا تبدو أقوالهم وأفعالهم في أنظارهم، كما في السجال الشهير، الصيف ذاته، بين الشرع و’مصدر مسؤول’ سعودي. الأوّل ألمح إلى أنّ حملة الصحافة السعودية هي ‘محض تعبير وترجمة للهجمة التآمرية الكبرى على سورية’؛ وفي حديث إلى صحيفة ‘المجد’ الأردنية، أردف يقول: نحن نعرف أن إعلامهم يهاجمنا ويتهجم علينا، بدءاً من سيادة الرئيس، ودون أن يوفروا احداً، فقد هاجموني وهاجموا اللواء آصف شوكت وغيره من القيادات الوطنية، وبثوا حولنا من المزاعم والأكاذيب ما يندى له الجبين، ولكن نحن ندرك أنّ هذه الحملات الإعلامية هي محض تعبير وترجمة للهجمة التآمرية الكبرى على سورية’.
الثاني، المسؤول السعودي، صنّف أقوال الشرع في باب ‘الأصوات المنكرة التي ستذهب ويذهب أصحابها أدراج الرياح’، وهي ‘تضمنت الكثير من الأكاذيب والمغالطات التي تستهدف الإساءة إلى المملكة’، التي ‘تربأ بنفسها أن تنحدر إلى الأسلوب الذي استخدمه السيد الشرع في استهتار واضح بالتقاليد والأعراف التي تحكم العلاقات بين الدول العربية الشقيقة’. وأوضح المصدر أنّ ‘المملكة ما زالت حريصة كل الحرص على العلاقات مع الشعب السوري الشقيق ومع الحكومة السورية’، ولكن إذا ‘طرأ الآن خلل على هذه العلاقات، فإنه خلل ليس للمملكة يد فيه ولا يُسأل عنه سوى المتسببين فيه والذين يعرفهم السيد الشرع جيداً باعتباره أحدهم’…
فهل، سوى السذّج، مَنْ يصدّق البلاغة الوردية التي تطفح اليوم على ألسنة المسؤولين السوريين والسعوديين، وفي أعمدة الصحف الموالية للنظامين، حول انبلاج فجر جديد للعلاقات السورية ـ السعودية؟ من الخير أن يبدأ المرء العاقل، في الحدود الدنيا لتحكيم مَلَكة التفكير المنطقي، من حقيقة أنّ هذه العلاقات شهدت، منذ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في شباط (فبراير) 2005 وانسحاب القوات السورية من لبنان في نيسان (أبريل) من السنة ذاتها، الكثير من المدّ والجزر والبرود والدفء. في الجوهر كانت ثلاثة ملفات إقليمية كبرى هي لبنان وفلسطين والعراق؛ يُضاف إليها اليوم ملفات ترتبط بتعاظم المدّ الإيراني في المنطقة، من تمرّد الحوثيين إلى اتفاقية المصالحة الفلسطينية ـ الفلسطينية، دون إغفال مفاعيل النفوذ الإيراني في المناطق السعودية التي تقطنها أغلبية شيعية.
صحيح أنّ التدهور بلغ مستوى الشتائم، كما سلف القول، على مستويات عليا في البلدين؛ ولكنّ الصحيح، أيضاً وقبلئذ، أنّ الرياض ظلت حريصة على مستوى من العلاقة مع دمشق لم يهبط عن الحدّ الأدنى. بل يتوجب التذكير بأنّ ذلك المستوى بلغ ذات يوم درجة ضمان السلوك المستقبلي للنظام السوري أمام واشنطن وباريس (أيّام رئاسة جاك شيراك) في أعقاب التقرير الأوّل للمحقق الدولي في اغتيال الحريري، ديتليف ميليس.
كذلك، في واقعة أخرى ذات دلالة، حين شاء بندر بن سلطان ـ من موقعه في رئاسة مجلس الأمن القومي السعودي ـ منح قناة ‘العربية’ الإذن باستضافة عبد الحليم خدّام، لإعلان ‘انشقاق’ دراماتيكي عن نظام ظلّ أحد أركانه طيلة عقود طويلة؛ لم يكن وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل موافقاً على هذا الإجراء، اتباعاً لقاعدة ذهبية عتيقة تقضي بتفادي الاحتضان الرسمي العلني لأيّ طرف يستهدف النيل من نظام عربي. وحين سافر الأسد، في نصف يوم تقريباً، إلى الرياض فالقاهرة فالرياض، وطلب تحكيم عبد الله بن عبد العزيز شخصياً في أمر احتضان خدّام، أفتى العاهل السعودي بإغلاق الصنبور الإعلامي عن خدّام… حتى إشعار آخر، بالطبع!
اليوم، بتوجيه من البيت الأبيض على الأرجح، تستكمل الرياض السعي إلى ‘كفالة’ النظام السوري ليس أمام واشنطن وباريس ولندن وبرلين هذه المرّة، بل في ثلاث ساحات قديمة، لا تكفّ التطوّرات فيها عن تجديد عقابيلها. الساحة الأولى هي العلاقات السورية ـ الإيرانية، وفي هذا يلوح أنّ المملكة تعتمد مقاربة ذرائعية (لعلّها آخر بضائع سعود الفيصل، قبيل تقاعده من منصب وزير الخارجية) قوامها المقايضة التالية: إذا تمّ تلزيم النظام السوري بالملفّ اللبناني مجدداً، فإنّ دمشق سوف تردّ المعروف ببسط نفوذ شبه متكافىء على جميع القوى في لبنان؛ ولعلّ هذا هو التطوّر الوحيد الذي يفتح احتمال دقّ إسفين، أو إثارة سلسلة من التناقضات في المصالح، بين دمشق وطهران على الساحة اللبنانية، في ما يخصّ يد ‘حزب الله’ العسكرية العليا، والنفوذ الإيراني عموماً.
هي هبة من طراز الهدايا المسمومة، أغلب الظنّ، بدأ الدليل على اعتمادها تركي السديري، رئيس تحرير صحيفة ‘الرياض’ السعودية، حين طالب بإعادة لبنان إلى سورية (ثمّ اعتذر عن مطلب يصعب أن يكون زلة لسان من رجل مقرّب تماماً من دائرة القرار العليا في المملكة). كذلك كانت زيارة رفيق الحريري إلى دمشق إشارة صريحة إلى أنّ الترتيب السعودي لهذه الزيارة كان خطوة أولى على طريق مقاربة التلزيم تلك، حيث يتوجب على النظام السوري أن يتعامل مع كلّ ‘الفرقاء’ في لبنان. وبالطبع، كانت التفاصيل المسرحية الباذخة التي اكتنفت استقبال الحريري بمثابة صكّ غفران، أو براءة ذمّة، يمنحها الابن إلى النظام ذاته الذي اتهمه منذ البدء باغتيال أبيه؛ ومثله كان الصكّ الذي منحه الجنرال المتقاعد ميشيل عون، حين زار دمشق.
ولم يكن غريباً، في ما يخصّ الساحة الثانية، أي العلاقات السورية ـ الإيرانية، أن يختار الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد توقيت لقاء الجنادرية بين الأسد وعبد الله لكي يشنّ هجوماً مباشراً على السعودية، لأنها لم تلعب دوراً سلمياً بين ‘الأطراف المتحاربة’ في اليمن: ‘لقد كان المتوقع أن تضطلع السعودية في هذا النزاع العائلي بدور الأب والشقيق الأكبر، وأن تعمل في اليمن على إحلال السلام والصداقة لا أن تدخل هي الحرب، وأن تستخدم المدافع والقنابل والرشاشات ضدّ المسلمين’. ليس هذا فحسب، بل ثمة واجب نجدة الشعب الفلسطيني ضدّ إسرائيل: ‘اذا استُخدم جزء صغير فحسب من الأسلحة السعودية لصالح غزة ضدّ النظام الصهيوني، ما كان سيصبح هناك وجود لهذا النظام اليوم في المنطقة’!
في عبارة أخرى، التقارب السعودي ـ السوري، ولا سيما في شطره المتعلق بإعادة تلزيم لبنان إلى النظام السوري، لا يطرب طهران البتة، بل يغضبها في السرّ، ويخرجها علانية عن الطور المعتاد في لغة التخاطب مع الرياض. وثمة ما يوحي بأنّ طهران سوف تستخدم ما ملكت من نفود على المكتب السياسي لحركة ‘حماس’، وفريق خالد مشعل في المقام الأوّل، لتعطيل التوقيع على اتفاقية المصالحة الفلسطينية ـ الفلسطينية، ويستوي أن تكون عاصمة التوقيع هي القاهرة، أو دمشق، أو حتى طهران ذاتها. صحيح أنّ هذه ورقة فلسطينية في المقام الأوّل، ولكنها أيضاً ورقة لبنانية في رصيد ‘حزب الله’، ثمّ إنها ورقة سورية ـ إيرانية لم تتوقف طهران عن سداد أثمانها في الماضي، ومن غير المعقول أن ترمي بها اليوم أرضاً، على مذبح التقارب السعودي ـ السوري. وهي، إلى هذا وذاك، ساحة ثالثة في حسابات الربح والخسارة بين دمشق والرياض، ولهذا تتحوّل عند طهران إلى ساحة لتفعيل هوامش المناورة، مع الحلفاء مثل الأصدقاء.
وليس الأمر أنّ المرء لا يرجو لهذه الأنظمة أن تتوقف عن احترابها، بيد أنها تظلّ كيانات تابعة تنفّذ أجندات قوى أخرى، دولية كبرى أو إقليمية صغرى، ولكنها أكبر شأناً من أيّ نظام عربي. وحين تتقاطع الأجندات فتتلاقى عند هذا الغرض أو ذاك، فإنّ وحدة صفّ الأنظمة العربية ـ المنفّذة لبعض أو كلّ تفاصيل ذلك الغرض ـ ترتدّ بصفة آلية نحو الشعوب العربية، في مزيــد من الإستبداد والفساد والحكم الوراثي العائلي.
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –