‘متحف البراءة’ لأرهان باموك
: رواية موسوعية عن اسطنبول وبحث في حياة المدينة وسط حداثة زائفة
ابراهيم درويش
رواية التركي ارهان باموك الحائز على نوبل 2006 تبدو اكثر تجريبية من غيرها من رواياته السبع السابقة، فمن ناحية الاسلوب يغرق الراوئي في تجربة المرواغة وخداع القارئ بتبادل الادوار والظهور داخل النص الروائي كواحد من الابطال الذين يتلاعبون بالاحداث فهو الراوي والبطل.وهذا وان لم يكن جديدا عليه حيث بدا واضحا في روايته قبل الاخيرة ‘ثلج’ لكنه يبدو اكثر وضوحا اذا اخذنا بعين الاعتبار ان روايته ليست عن قصة حب رومانسية ذات طابع تراجيدي لكنها عنه وعن مدينته وذاكرة اسطنبول الماضية التي حدثنا عنها في مذكراته ‘اسطنبول’ (2003) وكما بدت الاخيرة متحفا للذاكرة والتاريخ الماضي فهي الان متحف للبراءة وهو عنوان الرواية، ‘متحف البراءة’، التي ظهرت ترجمتها للانكليزية هذا الشهر وبترجمة مورين فريلي. وتظل الرواية كما هي الروايات المعاصرة تحاول اغراء القارئ بصدقيتها وصدق شهادة رواتها وعدالتهم، فمن ناحية الشكل يقص علينا باموك قصة تركيا المعاصرة في منتصف الخمسينات مع ان الراوية لا تبدأ في الحقيقة الا عام 1975 وتنتهي عام 1984 بوفاة البطلة او الحبيبة لكنها ( الرواية) تعود بنا اماما وخلفا وتحفر في الماضي التركي منذ اتاتورك وتعود الى الماضي العثماني القديم. وعليه فالقصة تقدم الينا من خلال 83 فصلا قصيراً وخفيفاً باستثناء الفصل 24 وهو حفل عقد القران الذي يقدم في اكثر من 44 صفحة (103 -147). وفي نهاية الرواية يقدم لنا باموك مسردا باسماء الابطال واماكن ظهورهم في الكتاب. وقد استعاض بهذا المسرد عن قائمة المراجع التي يذكرها ويتخذها كمرجعية تاريخية وادبية لحكاية قصة تركيا الحديثة وهي مراجع عن الثقافة الشعبية والسينما التركية والموسيقى وكتابات المستشرقين والادباء من دوستوفسكي الى بروست وناباكوف واخرين تحضر اسماؤهم هنا وهناك في سياق سرد قصة حب البطل كمال بيه وفوسون وتجلية اجواء الحزن الذي دائما ما يخيم على مدينته اسطنبول، والبحث مثل فيلسوف عن معنى السعادة والحب والفقد والنسيان. ففي المدينة الشرقية لا بد ان يكون الحب مدمرا ولا بد ان يكون عشقا على طريقة ‘ ليلى المجنون’ وهو العشق الذي ينتهي بأبطاله إلى الجنون والبله. اللافت هنا ان شقي الرواية هما كمال بيه واخوه عصمان ‘عثمان’ الذي يبدو شخصية ثانوية في الرواية ولكن وجود كمال بيه لا يمكن تخيله بدون عثمان ببساطة فترتيب فصول الرواية وطريقة سردها يوهم القارئ بأنه يتعامل مع عمل اكاديمي، فالسارد هنا يذكرنا دائما ويحيلنا بشكل متكرر للاحداث الماضية ويقول بلغة الكاتب الواثق من معلوماته ان هذه الشخصية ظهرت هنا وان الاحداث بدأت كما يقول في ‘ الالف والتسعمئة وخمس وسبعين’هكذا بالحروف بدلا من الارقام.
الحب في زمن الكوليرا ـ على الطريقة التركية
تبدو الرواية في ملمح من ملامحها تذكيرا بماركيز ‘الحب في زمن الكوليرا’ من ناحية ملاحقة البطل للحبيبة حتى النهاية لكن بطلنا لم ينتظر سوى 8 اعوام قضاها الى جانب الحبيبة وفي بيتها تناول 1593 وجبة عشاء بعد الدعوة المفتوحة التي وجهتها له والدة فوصون، نسيبة هانم على مدار 2864 اي 404 أسابيع حيث كان يذهب كل سبت لبيت العائلة وخلالها جمع 4212 عقباً من اعقاب السجائر التي دخنتها فوصون اثناء الزيارة ولعب ‘الطمبلة’ ومشاهدة التلفاز وشرب العرق ‘راكي’ وهذه الارقام والتواريخ مهمة لان الكاتب هنا يحدثنا كمدير للمتحف الذي اقامه تخليدا لذكرى فوصون والحب وذاكرة اسطنبول، فهو يذكرنا لاحقا ان كل عقب مر من شفتي فوصون له قصة كتبها وسردها تحت كل عقب علقه على جدار المتحف. وعليه يفهم هوس السارد بالمعلومات والتواريخ والارقام وتأكيد اقواله اما من شخص اخر ‘باموك’ نفسه او كتاب وقصاصة جريدة تعود لتلك الفترة، صورة او حكاية من شلة الاصدقاء شهود قصة الحب.
لوليتا تركية
وحول طبيعة الحب هنا من يطرح ملاحظة اخرى ان ‘متحف البراءة’ هي نسخة ناباكوفية تركية ‘ لوليتا تركية’ من ناحية طبيعة العلاقة التي تمت بين صبية دخلت عند لقاء كمال بيه سن الثامنة عشرة، فيما كان عمر كمال ثلاثين، مما يطرح اشكالية حول طبيعة خيارات الفتاة وهي قريبة بعيدة لكمال بيه استبعدت عائلتها بسبب قرارها المشاركة في مسابقة ملكة جمال تركيا، لحسن الحظ لم تتقدم لكن فكرة المشاركة في مجتمع تركيا المنفتح والمتحرر كانت خروجا على التقاليد. ومن هنا قطعت عائلة كمال بيه العلاقة مع العائلة. وهناك من يرى في الرواية الجديدة على انها عودة لعصر البراءة وتذكير برواية ايديث وارتون ‘ عمر البراءة’ وكل هذه التمثيلات يمكن تقبلها او التعامل معها بايجابية من خلال تعاملنا مع تجربة باموك التي ظلت متجذرة في تقاليد الرواية الاوروبية فهو ابن مدرسة الرواية الاوروبية وممثليها: دوستويفسكي وبروست وجويس وناباكوف وبورجيس وفولكنر .وكما قال انه كان يكتب ‘ بعين مفتوحة على الغرب’ فقد تعلم من دوستويفسكي الطاقة والتأكيد على الكتابة، ومن ناباكوف الاهتمام بالتفاصيل التي تعود الى طفولته ومن براوست القدرة على اختراع الحكايات الخيالية عبر استحضار الطفولة.
ضد ادب الريف
تظل رواية باموك الجديدة وحتى تجربته الراوئية متجذرة في التقاليد الروائية التي اكدها الراوئي التركي احمد تانبينار (1901 – 1962) والذي قابلناه في اسطنبول مع اننا لسنا بحاجة الى قراءة الاخير كي نستمتع بروايات باموك الذي يكتب بلغة عالمية انسانية مساحتها اسطنبول. ويظل قريبا من نماذج الكتابة التقليدية الغربية، اكثر من قربه من التجربة الروائية التي عبرت عنها الواقعية الاشتراكية ورواية اليساريين الاتراك من يشار كمال ونيسين فكمال الذي يعد ابا الرواية التركية الحديثة قدم رائعته ‘ محمد الناحل’ واخرى مثل جريمة سوق الحدادين وباب القلعة وعبرت عن ادب الريف او القرية ومن هنا يقال انه عندما اخبر باموك احد اقاربه بقراره بالتفرغ للكتابة الروائية جاءت الاجابة الطبيعية من القريب ‘انك لم تزر قرية في حياتك’ فباموك هو ابن الطبقة الثرية التي حافظت على تراثها من الغنى والتراتبية الاجتماعية ورواياته تظل تدور في سياق هذا العالم، الذي لم يذق يوما ابطاله اضطهاد ارباب الاراضي ولم يعرف عن الفقر وجرائم الشرف التي كانت تيمة خاصة في السينما التركية الشعبية. ومن النادر ان يغادر ابطال باموك المدينة للقرية. فمشاكلهم دائما نابعة من طريقة رؤيتهم لانفسهم مقارنة مع الغرب.
باموك والعثمانيون الجدد
ولهذا تظل الذاكرة مسرحا هاما لاعماله والحفر فيها وعنها وانشغالا مهما من انشغالاته، فهو مهتم بالكشف عن التناقض والهشاشة والتوزع والانفصام في الشخصية التركية نظرا للعلمنة والتغريب القسري الذي مارسته مؤسسة كمال اتاتورك عندما اجبرت التركي على التخلي عن ماضيه ‘ الرجعي’ وكل ما يذكر بالعثمانيين مع انها لم تكن قادرة على محو الاثار العثمانية ليس في اطارها الجسدي بل من ناحية تجذرها في الروح التركية التي ظلت اسلامية. ولهذا ينظر الى ان باموك اول من احيا التاريخ العثماني ويمكن ودون تردد نسبة ‘ العثمانيين الجدد’ اليه واعماله الروائية قبل ان يتجسد سياسيا من خلال المؤسسة الحالية وسياساتها المتمثلة بحزب العدالة والتنمية، لأننا عندما ننظر الى مجمل التجربة الروائية لباموك نلحظ هذا الهام من ‘الكتاب الاسود’ و ‘اسمي احمر’ و ‘القلعة البيضاء’ وبروزها الاشد في مذكراته عن ‘اسطنبول’ كلها تشير الى هذا المنحى الذي حاول تفكيك اسطورة النشوء التي قامت عليها الكمالية وتركيا الحديثة. ويبدو هذا واضحا في مواقفه السياسية التي سببت له اشكاليات مع القوميين الاتراك من ناحية تجرئه على التعامل مع قضايا حساسة مثل مذبحة الارمن عام 1916 واشكالية الاكراد الذين يسمون ‘اتراك الجبال’، ولكن الاهم من ذلك وهو ما تتضمنه الرواية الاخيرة هي قدرته على تعرية الرضوض في النفسية التركية ومعنى ان تكون غربيا. خلاطات كهربائية من دون قطع غيار فالطبقة الغنية التي تتسوق في باريس وهارودز في لندن وترسل ابناءها الى المدارس الاوروبية والخاصة تظل محافظة في العمق. التحرر مقبول في المظهر ولكن فكرة العذرية والحياء والعار تظل حتى في المجتمع الراقي امرا اشكاليا، فالتغرب هنا ليس الا قشرة، طبعا هنا نتحدث عن ظروف تركيا في الستينات والسبعينات التي كان فيها، كما تنورنا الرواية، ابناء هذه الطبقة يتنافسون على امتلاك كل ما هو جديد واوروبي، آلات حلاقة كهربائية، خلاطات وآلات لصنع المايونيز دون ان يعرفوا ان قطع الغيار غير متوفرة في تركيا مما يعني تحولها الى خردوات وصورة عن ماض قريب. وفي الوقت الذي كانت الدولة تتحكم فيه باستيراد البضائع الاجنبية الا ان كل ممنوع كان متوفرا من الخمور والدخان المهرب عبر البحر والمباع في السوق السوداء. اسطنبول التي يقدمها لنا باموك هي تلك التي كانت فيها المكالمات الدولية نادرة والهواتف العامة غير موجودة. وهي تركيا التي لم تعرف المشروبات الغازية الا من خلال اول مصنع اقامه صديقه زعيم’ لبيع اول ماركة ميلتيم’ قبل ان تدخل كوكا كولا وغيرها من الماركات. وتركيا التي يقدمها لنا في ‘ متحف البراءة’ هي تلك التي كان مجتمعها الراقي يعيش على النميمة ويتنابز بالالقاب، وهي تلك التي كانت فيها اصوات الانفجارات والصراع بين اليسار واليمين على اشده والانقلابات العسكرية لا زالت شكلا عاديا من الصراع على السلطة. وهي تركيا التي كان يقاس فيها تحرر الشخص من خلال قربه من ‘ التقاليد’ اي اشكالية فلاح ومدني. فيما كانت دور الازياء الراقية تزيف الماركات وتنقلها من مجلات الازياء وتبيعها لهذا المجتمع المتخم بالمال والمتعطش لكل ما هو غربي. هذا المجتمع الفوقي كان يدعي الحداثة ويشرب العرق المحلي الصنع حتى السكر. هذه اجواء ضرورية لفهم رواية باموك ‘ متحف البراءة’ فهي تحيل من خلال ابطالها الكثر على الواقع وتتخذ من التاريخ والماضي اطارا لرسم معاناة الشخوص وفكرة ان تكون تركيا حديثا في العقود الاخيرة من القرن العشرين. ومن هنا وجد باموك من التاريخ ومتحفيته اطارا لرسم تفاصيل هذا العالم الذي يبدو بعيدا رغم انه تمظهر في مجتمعاتنا كما في تركيا. فمن خلال المتحفية هذه نفهم طبيعة التحولات التي واجهها المجتمع، سياسية، ثقافية واجتماعية. كيف لنا ان نسرد تاريخ وذاكرة مدينة ضمن هذه التصورات. ارهان باموك منشغل دائما بالكشف عن الذاكرة الحاضرة والماضي في مجتمع متغرب ومتعلمن هو تركيا وهو ما يمكن ملاحظته في كل رواياته التي كان آخرها ‘متحف البراءة’.
قبلات وحب في شقة
ما سبق هو اطار للقضايا التي تحتفي بها الرواية، تسامح وحب وحرية فردية وشوق انساني للسعادة ولكن الرواية التي تبدأ بفصول عن القبلات والعلاقات الجنسية تدور حول كمال بيه وهو ابن رجل اعمال يدير مع اخيه شركة والده ‘ساتسات’، ونعرف انه متعلم في امريكا لكنه لا يعرف من الحب الا تلك الصور التي شاهدها في التلفاز او السينما ولم ير مشهد تقبيل الا اثناء دراسته. يلتقي كمال قبل حفل قرانه بفتاة تعمل في محل للملبوسات الراقية ويعرف فيما بعد انها قريبة له استبعدت عائلتها بسبب مشاركتها بمسابقة لملكة جمال محلية، حيث اعتبر التصرف خروجا على التقاليد مع ان ام الفتاة نسيبة هانم كانت تأتي لخياطة ملابس لوالدته. سبب دخول كمال بيه محل ‘شانزليزيه’ هو شراؤه حقيبة يد لخطيبته، سيبل، التي نعرف انها ابنه دبلوماسي سابق ومتعلمة في فرنسا وجميلة وكل من حول كمال يرى انه اختياره لها كان مناسبا وانهما زوج مثالي. لكن كشف والدته عن سر عائلة الفتاة واسمها فوصون التي يعجب كمال بجمالها واكتشافه ان الحقيبة مزيفة يدفعه لمغامرة اخرى والعودة الى المحل تحت ذريعة اعادة الحقيبة وعندها يتعرف على الفتاة اكثر وانها تدرس لامتحانات الثانوية. والكاتب هنا لا يصور لنا دوافع فوصون الاستجابة له ولقاءه في شقة تعود للعائلة وقرارها منح نفسها له ـ اي عذريتها ـ حيث يبدأ الاثنان علاقة حب ساخنة ويجربان فيها كل الوان الحب. كل هذا يحدث وكمال يحضر لقرانه من سيبل التي تبدو متسامحة وحريصة على خطيبها. تنتهي العلاقة قبل ايام من حفلة القران. لكن اثرها سيكون مدمرا عليه وعلى علاقاته مع خطيبته واصدقائه وعائلته وعمله ورؤيته لنفسه. كان كمال بيه يقضي ساعات الغذاء مع فوصون في عش الحب الذي تحول لمتحف الذاكرة وفيه سيقوم كمال باستعادة كل الاشياء واللحظات ويشم كل الاشياء التي تركتها تلك الحبيبة التي اختفت من المشهد، تركت العمل وتركت البيت مع والدها لنعرف انها تزوجت من اخر يعمل في مجال السينما وكتابة النصوص.
البحث عن الجانب الاخر للمدينة
فقدان كمال بيه اللحظات الخاصة والمحرمة وخيانته لخطيبته هي مجال سرد الاجزاء الاولى من الرواية اذ نجده ضائعا موزعا بين خطيبة وفية وحبيبة عصية ومن خلال هذا التوتر نفهم الحياة وذكريات البطل عن المدينة وناسها، فهو يتذكر انه قابل البنت فوصون وهي صغيرة في عيد الاضحى مرة، وكيف انه ذهب معها للبحث عن ويسكي في دكان قريب وكيف شاهدا عملية التضحية بخرفان العيد في ساحة البيت. وكيف خافت فوصون في تلك المرة، ثم الفسحة التي قاما بها بسيارة والده مع السائق بحثا عن الخمر وكيف كانت اسطنبول في يوم العيد مثل مسلخ يجري الدم في حي من احيائها. لم تكن علاقة كمال وفوصون عابرة بل دخلت في دمه وكان خروجها من مجال نظره مدعاة للموت البطيء بالنسبة له. في البداية تعترف خطيبته بالوضع وتحاول مساعدته نفسيا وتأخذه لاول عيادة تحليل نفسي تفتح في المدينة. ولكن العلاج النفسي لم يكن مفيدا له، اذا انه على خلاف الكثيرين ممن يرتكبون خيانات لم يكن قادرا على التخلص من اثر وحب ‘ فتاة الدكان’ كما تشير اليها خطيبته، في الماح الى البعد الطبقي للمجتمع التركي ذلك الوقت. ولم تنفع محاولات سيبل لتخليصه من حب الفتاة سواء بالانتقال معا إلى شقتها او تشجيعه على التركيز على عمله فقد ظل اسير لحظاته مع فوصون وحس الفقدان ظل يسكنه ويأكل روحه ويضعف جسده. وتصل الامور الى حالة تقرر فيها سيبل زيارة باريس مع صديقتها نورجيهان للتسوق. كان كمال بيه يعرف ان رحلتها ستكون اعترافا بان عقمه معها بداية تصدع في العلاقة وستعود ثم ترحل الى فرنسا لاكمال الدراسة ورحلتها الثانية ستكون آخر مرة يراها فيها، بعد ان فسخا الخطبة ولن يسمع باخبارها الى بعد 30 عاما حيث ستقترن بصديقه زعيم. رحلة خطيبته تعطيه الفرصة للبحث عن حيبيته الضائعة ومن خلال هذا البحث يتعرف على الجانب الاخر من اسطنبول واحيائها الفقيرة. يسكن في فندق بحي الفاتح ومنه يبدأ رحلة جديدة من حياته يقطع صلاته مع عالمه ويهمل عمله وتدور الشائعات حوله من انه اصبح صوفيا او شيوعيا ولكن رحلاته في داخل الاحياء الفقيرة بمدينته ستكون جذور متحفه، حيث اخذ يراكم المقتنيات له. ولن يخرجه من عزلته وتشرده الا وفاة والده حيث يعود لبيت العائلة ويعيش مع والدته. المرحلة الاخرى من حياته عندما تعود فوصون مع زوجها فريدون وتصبح زيارات كمال بيه لبيت العائلة متكررة وبعد الدعوة المفتوحة يصبح فردا من العائلة كل هذا من اجل ان يكون قريبا من حبيبته ‘. يذكرنا هذا بجميل في مسلسل دقات قلب التركي’ وكما ذكرنا فقد حدثنا الراوي عن عدد الزيارات والمرات التي تناول فيها العشاء. في النهاية يقترب كمال بيه من فوصون بعد طلاقها من زوجها. ولكن قصة الحب لم تنته بنهاية سعيدة اذ تموت اثناء رحلة لهما الى اوروبا في حادث سير. على العموم هناك مقاربة بين مسلسل دقات قلب والرواية ويبدو ان كاتب نص المسلسل استلهم كثيرا من الرواية لكن كل هذه الاحداث ليست مهمة فالنص لا يكشف لنا عن صورة فوصون او سيبل الا بقدر وتظلان شخصيتين هامشيتين على الرغم من مركزيتهما للنص هنا، وما يهم هو ما يكشفه لنا كمال عن نفسه ومدينته وقدره فوالده احب مثل ابنه امرأة اخرى لكنها تركته لتتزوج بعد ان اكتشفت تردده ليعرف لاحقا انها لم تتزوج وماتت بالسرطان.
كل معلومة لها تاريخ
كل مفصل ونقطة وملمح او قطعة في ‘ متحف البراءة’ تحمل الكثير من الدلالات التاريخية والثقافية والسياسة ومعها ينفتح الباب على التفسير والقراءة ومن هنا تنبع اهميتها فاقدار الابطال لا تعنينا بقدر أن ما يهمنا هو الذاكرة وما بقي منها. ويبدو باموك مثل طبيب تشريح او حارس للذاكرة يذكر طلابه او زوار متحفه الحي بكل شيء. كل ما يريده كمال هو ان يكون مواطنا صالحا ‘تركيا’ اصيلا لكنه متشوش حول الكيفية التي يزاوج بين تركيته وحداثته وهذه هي ازمة تركيا التي ظلت تدور بين الطربوش والقبعة. لكن مشكلة بطلنا انه كان يعيش في زمن التحولات والخيارات الصعبة ليس للدولة التي اختار لها كمال مسارها ولكن الجيل الذي كان يشهد هذه التحولات. والاشكالية تبدو معقدة لان الكاتب او البطل هو ابن ثقافة السبعينات المعروفة بتحررها ولهذا نلاحظ التردد ليس لدى بطلنا لكن كل من يحيط به. التحرر والحداثة تبدو مزيفة لان كل الاشياء التي تتداولها الطبقة الراقية مزيفة من السجائر الى الخمر الى حقائب ومن هنا تشير سيبل الى اشكالية الحداثة بقولها ان الاغنياء في اوروبا لديهم القدرة على التصرف وكأنهم ليسوا باغنياء. في النهاية تظل الرواية محاولة للبحث عن النفس او ‘المركز’ ولا تتم معرفة النفس الا بالحفر الاركيولوجي ومن هنا الاشارة الدائمة من قبل السارد لنفسه باعتباره انثروبولوجيا.
باموك في حالة عشق للذاكرة ومدينته وكل شيء فقدته المدينة منذ ان انهارت دولتها. وفي الرواية الاخيرة تتحول المدينة الى متحف للذاكرة او البراءة
في مذاكراته عن اسطنبول تجسد تاريخ المدينة من خلال شقة معتمة مليئة بالتحف والاشياء من الماضي. كان باموك يحلم بان يكون فنانا واخذ يرسم لوحات يقلد فيها اعمال بيكاسو ومونيه لكن امه ذكرته ان الهواية او الحرفة التي يريدها لا سوق لها في مدينة متوزعة بين الشرق والغرب ‘هذه ليست باريس’. في ‘اسطنبول’ وصف لنا تعلقه صغيرا بموسوعة اسطنبول من تلك الموسوعات للناشئين لكن روايته الجديدة بناسها واشيائها ومتحفها وكشفها عن عادات وتقاليد سكان المدينة هي موسوعة بحد ذاتها ولهذا كتبت على مرحلتين من 2001 -2002 و2003 – 2008
نجم ولد في الشرق
يذكر ان تعرف القارئ الانكليزي على اعمال باموك تمّ عام 1990 مع ترجمة روايته ‘القلعة البيضاء’ اي الرواية الثالثة حيث لم تتم ترجمة العملين الاولين ولقيت الرواية حفاوة في الاوساط النقدية الغربية حيث اعلنت ‘ نيويورك تايمز’ عن ولادة نجم في الشرق ومنذ تلك اللحظة يقارن باموك بجويس وموزيل وكافكا وكالفينو ومن الكتاب المعاصرين يشبه بول اويستر وهاروكي موراكامي. وانتج باموك سلسلة من الاعمال ومعها جاءت الجوائز امباك عام 2003 وجائزة الكتاب الالمانية عام 2005 ونوبل عام 2006، وفي نفس العام اختارته مجلة ‘التايم’ من بين مئة شخصية شكلت العالم منذ هجمات ايلول (سبتمبر).
ويقضي معظم وقته في نيويورك حيث يدرس بجامعة كولومبيا. وتنتمي عائلة باموك للطبقة الغنية وبنت عائلته ثروتها من بناء سكك الحديد في الايام الاخيرة للدولة العثمانية وخسرت معظم اموالها بسبب سوء الاستثمار وظل انتماؤه للعائلة ذات تاريخ ارستقراطي محل اهتمامه ومشهد العديد من رواياته ومذكراته.
ناقد من اسرة ‘القدس العربي’
The Museum of Innocence
by Orhan Pamuk,
translated from the Turkish by Maureen Freely
Faber& Faber
London/ 2010
القدس العربي