نسائم للروح
اسكندر حبش
غالبا ما أجد أن الحياة أوسع من الكلمات التي نستعملها. لست وحدي في ذلك بالطبع، فعديدون غيري يجدون ذلك أيضا. أمام ذلك، ينبغي القول إن الحياة لا تقف على أفكار معينة أو على كلمات مبرمجة. قيل لنا دائما بأن هذه السيرورة لا تتوقف عند نقطة معينة، إلا أننا نعود ونخون هذه الفكرة من حيث اننا لا نعمل بها، أي نعود ونخالفها، أقصد بالطبع هذه السيرورة، لنتوقف مطولا عند مصطلحات لا أعرف فعلا، ماذا تعني، على الرغم من كثرة كتابتنا عنها وعلى الرغم من كثرة استهلاكنا لها.
من جملة الكلمات التي تحيّرني، وهي كثيرة، أجدني مثلا، أتوقف دائما عند كلمتين. الأولى قديمة نسبيا، والثانية جديدة بمقدار النسبة ذاتها: «الهوية والعولمة». ولا أخفيكم أنني حاولت أن أقرأ مرارا عن هاتين الفكرتين وبخاصة الكتابات العربية المندفعة لعلّي أجد حلا لجهلي المتواصل، بيد أنني وهنا لا أكتمكم أيضا كنت أخرج في كل مرة والقضية قد أشكلت عليّ زيادة عمّا كانت عليه من قبل.
حقا ما معنى أن نعود ونطرح اليوم أسئلة من مثل سؤال الهوية والهوية القومية؟ هل المقصود بذلك أن الهوية هي التي تقف على طرف النقيض مما ندعوه العولمة؟ هل المقصود في بحثنا عن الهوية هو البحث عن انعزال ما والخروج من حركية التاريخ؟ ما المشكلة في أن يكون وطن المرء هو العالم بأسره، بعيدا عن الانغلاق ضمن حدود واحدة وضمن شرنقة واحدة تعيد إنتاج آلياتها البائدة الراغبة في عدم الانفتاح على كل ما هو إنساني، بالمعنى الواسع للكلمة. فعلا لا أفهم كيف يرغب البعض منا في أن لا يوسعوا هذه الجغرافيا لتصبح مشتركة، بينما يريدون أن يقبعوا بلا حراك في دائرة تاريخية ضيقة.
كيف نستطيع أن نطالب اليوم بهكذا آلية، في حين نجد أن «أفضل» ممثليها أشخاص يسيئون إلى هذه الهوية أكثر مما يفضلون إليها. لماذا نحدد العولمة في مسألة سياسية بحتة، بينما هي أوسع من ذلك بكثير. لا شيء نهائيا في هذا العالم، ولا حتى الأوطان. من يرغب في وطن تقوده حفنة من المخابيل الذين لا نجد في إنجازاتهم، النيرة والعظيمة وما إلى هنالك من صفات لا تتوقف الطبول عن إعلانها، سوى القتل والتدمير والخطف و… و…
من دون شك أن ما كتبه كافكا، على سبيل المثال، قد يعني لنا أكثر ممّا يكتبه زميل يشاركنا الحياة في المدينة عينها. ولا داعي لإعطاء أمثلة أخرى عن أولئك الانسانويين، الذين شكلوا حسّنا المرهف. من هنا، هل نقول عكس ذلك، فقط لأن هذه الهوية، المثقوبة، عليها أن تملي علينا آراءها؟
حقا، لا أفهم كل هذه الخطب التي ترشح بفاشية حديثة. لذلك دعونا نحتك بإنسيانتنا قبل أن نفقد آخر نسائم هذه الروح التي لن تعيش في هوية واحدة.
السفير