صفحات ثقافية

معرض ريم الجندي في صالة “جانين ربيز”: ألفة المفارقات

null
احمد بزون
المسافة باتت واضحة جداً بين بدايات الفنانة ريم الجندي وما وصلت إليه تجربتها اليوم، أي بين تعبيريتها القوية والجريئة التي لا تهتم للواقع بقدر ما تهتم بقول ما يدور في داخلها، من خلال الانحرافات المجازية التي تزخّم التعبير، من جهة، والواقعية التي تسحبها اليوم، خصوصاً في هذا المعرض، نحو الكثير من الاهتمام بالبوب آرت، من جهة أخرى.
المعرض الذي تقيمه الفنانة في غاليري «جانين ربيز» لغاية 28 الجاري، يحمل عنوان «رجال»، وتعتمد في لوحاته الأربع والعشرين تقنية المواد المختلطة. في واقعية تبدأ من تصويرية تمثيلية شديدة الدقة في بعض اللوحات، كما في تصويرها للديك مثلاً، وتنتهي عند الاختصار الذي يصل إلى تسطيح الأشكال، وتحويل بعض مساحات اللوحة إلى فسحات زخرفية.
أيقونة
عنوان «الرجال» يحقق مضمونه في المعرض، إذ تضعنا الفنانة أمام أنواع وألوان وأشكال مختلفة من الرجال، من السوبرمان حتى الأشكال الهزيلة، ومن المدني إلى العسكري، ومن الزمني إلى الديني. إلا أن اختيارها لموضوع الرجال يضخ في اللوحات شيئاً من القوة والحركة، بل العنف أحياناً، من عنف التظاهرات التي يخوضها ملتحون، إلى عنف المواجهات في إيران، إلى عنف الرياضيين والمصارعين وأصحاب العضلات المفتولة، أو أولئك الذين يتباهون أحياناً بعضلاتهم الذكورية أو الجنسية.
العنف، ربما، هو الذي بث الحركة في اللوحة، بل حرك الأيقونة نفسها، وجعل الفنانة تهتم بالخطوط، بل بحدة هذه الخطوط وصرامتها، التي تجعل الشكل أكثر بروزاً، حتى أن عدداً من شخوص اللوحات بدت كأنها منحوتة نحتاً، أو أن الرسامة استعارت لتصويرها أسلوباً نحتياً، ساعدت فيه الألوان النحاسية في إضفاء لمسة معدنية على الشكل. نتحدث عن العنف والحركة، في الوقت الذي تتابع فيه ريم الجندي ما بدأته من توجه نحو أيقونية الأشكال، منذ معرضها الذي صوّرت فيه معاناتها أثناء المرض، المعرض الذي تركت قسوته آثارها أيضاً في حدة الخطوط التي «تحفر» شكل الرأس والجسد. منذ ذلك المعرض ولم تفارق الفنانة الشكل القريب من الأيقونة، من خلال الألوان والصمت وإلغاء حدود الزمن أو الانفتاح على زمن أزلي، وحتى وجود الأشكال القدسية، وأحياناً الهالات الضوئية أو الدائرية.
الظل
الأيقونة موجودة في لوحة ريم الجندي، لكنها، في أي حال، تلاعب الأيقونة، أي أنها تستخدم شكل الأيقونة، من دون أن تقف عند حدودها، فالأيقونة هنا تحمل حركتها، وتعيش واقعنا، وتؤشر إلى أحداث لها زمنها ووقائعها. الحركة قد تكون بارزة بوضوح، أو تكون كامنة خلف صمت الأشكال، أو تكون رمزية، أو تكتسب حواريتها وتفاعلها من خلال وجود أكثر من شخص، وهنا أكثر من رجل تضجّ بينهما المفارقات. أو تكمن هذه المفارقات أيضاً بين الأصل والظل، الظل الذي يبدو كثير التكرار في المعرض، فمن الظل الذي لا يختلف عن أصله، كما في لوحة تصوّر فيها الفنانة رجل دين، لا يختلف ظله عنه إلا باللون، والظل الذي يؤول إلى حالة شبحية تجريدية مسطحة لا تعوم فيها التفاصيل، كما في عدد من اللوحات. على أن الظل يغذي هنا الحالة الحوارية في اللوحات، حالة الاختلاف بين الرجال في اللوحة الواحدة. والظل ربما يرمز إلى التبعية، أو البله الشعبي في اتباع الزعيم، أو ربما يكرر الشخص نفسه أو الشجرة أو النافذة… فيدخل في المنطق التكراري الزخرفي الذي تعتمده الفنانة في معرضها.
وبالفعل فإن التكرار بات نهجاً أسلوبياً لدى الجندي، وقد بدأ منذ كررت الفنانة شخصيتها، وإن مع بعض التغييرات، في معرض متكامل أقامته بعد انقضاء مرحلة مرضها، ثم تابعت التكرار في معارض أخرى لا سيما معرض «طريق المطار»، الذي أقامته منذ سنتين. لكنه ليس التكرار الذي يُدخل اللوحة في الروتين، أو في النمطية، بل ذاك الذي يستعير من منطق الزخرفة ما يضفي على اللوحة نكهة شرقية، فمن تكرار المربعات أو الأشكال الهندسية، إلى تكرار المرأة الملاك حول رجل أنيق، إلى مزيد من تكرار الأشكال البشرية والطبيعية والزخرفية. على أن التكرار ليس محور اللوحة، بل يبدو في أكثر الأحيان فضاء اللوحة وخلفية شخوصها، لذلك هي لا تصور التكرار ليكون مادتها التشكيلية المحورية في اللوحة، بقدر ما تستخدمه كمادة جمالية بصرية.
التكرار إذاً، يساهم في تبسيط اللوحة، ويحل محل الخلفية التجريدية لشخوص اللوحة التي يعتمدها فنانون، كما يخفف من حدة الخطوط أحياناً وقسوة الحالة التي تعبر عنها الفنانة، أو قسوة الرجل الذي تحمّله تبعات ما يجري في هذا العالم الذي يقوده هو، فالزخرفة من شأنها أيضاً أن تلطف القسوة أو تخفف خشونة الرجولة وانتفاخ العضلات.
تضعنا ريم الجندي كل مرة أمام موضوع واحد، تشتغل عليه وتشبعه، في وقت لا تهتم فيه بالانقياد إلى مدرسة أو تيار انتهجته، ولا إلى أسلوب أو هوية فنية تحرص على تكريسها. فهي تحب المفاجأة والتجديد وربما الانقلاب على نفسها، لا فرق، فالمهم أن لوحتها تبقى حاضرة بقوة، ليس من خلال الأفكار التي تطرحها فيها وحسب، بل من خلال المهارة التقنية وقدرتها على جمع التناقضات الأسلوبية في المساحة الواحدة، بمزيد من النباهة التشكيلية.
السفير

ريم الجندي تخفي عنّا حكاية موجعة
بيار أبي صعب
الهوّة المستترة في أعمال ريم الجندي (١٩٦٥)، تكاد تختصر تجربتها. كأنّها تخفي عنّا حكاية موجعة. لوحتها لغز مثلما الحياة التي ترويها «عابرةً بين الحلم والخيبة»، حسب تقديم معرضها الحالي «رجال» في «غاليري جانين ربيز». إنّها لوحة مزروعة بالأسرار، مشحونة بكثافة دراميّة خاصة، مسكونة بإشارات ورموز تجعل منها منجماً لعلم النفس التحليلي.
هناك شيء ما في هذه اللوحة لا يقال. «الشيء» كامن خلف السطح الهادئ والمرتّب، المنمّق والأنيق، الذي ينضح بحيويّة الألوان، وديناميّة الأجساد والتشكيلات، ونورانيّة المشهد، وصرامة التقطيع السينوغرافي للفضاء… في مرحلة أولى تأسرك حدّة التصوير المتأرجح بين واقعيّة قصوى وسرياليّة وبوب آرت، بين ماغريت (لوحة «المخطوط») وآندي وراهول («عزيزي آندي»). تطرب عينك للزخرفات الشرقيّة والنقشات المختلفة، ناهيك بالإحالات المباشرة إلى فنّ الأيقونة البيزنطيّة، أو إلى مراجع دينيّة وأسطوريّة تختصر الأزمنة، وتزاوج بين علامات من العصر الحديث وأخرى من ذاكرة ثقافيّة بعيدة.
لعلّ الموضوع الرئيسي لمعرضها الجديد ليس الذكورة… بل السقوط!
لكنّ ريبة تنتابك، عاجلاً أو آجلاً، بأن «في هذا العالم خللاً ما»، كما يكتب بريشت في «روح سيتشوان الطيّبة». تقع تحت تأثير التكرار المهووس للموتيفات والأشكال، ويطأ على صدرك عالم «ذكوري» متأرجح بين قسوة وعذوبة، يتسرّب منه صراخ أصمّ. تحاصرك تلك النظرات المشبوهة ويصفعك الاختلال في قواعد المنظور. وتستهجن الخفّة الساذجة لحظة الفاجعة. لا بد من أن تصيبك عدوى العنف المدسوس بمهارة ملتبسة تبلغ حدّ التنزيه. ستختلط عليك الأمور حتماً، وتتوقّف مليّاً عند تلك الثنائيّة المقلقة التي تجعل لكل رجل طيفه، أو ظلّه، أو «قرينته».
كل شخصيّة ذكوريّة هنا، تجالس فراغها، تتمرّن على ترويض غيابها وامّحائها، كما في لوحة «الكنبة الحمراء» التي تماهى في أعلاها شمس وقمر ذهبيّان. ريم الجندي التي رسمت نفسها وعالمها الحميم في «مواعيد زيارة بينيلوب» (٢٠٠١)، و«أشياء بسيطة» (٢٠٠٣)، و«طريق المطار» (٢٠٠٨)، خرجت هذه المرّة، في معرضها الفردي العاشر، من حقل الرؤية، لتترك بصماتها على القماشة. رسمت نظرتها إلى «الرجل» الذي يثير مشاعر الرغبة، والاشمئزاز، والطمأنينة، والضعف، والخوف، والحنان، والشفقة، والقرف، واللامبالاة، والفضول، إلخ.
بين الشاب الأنيق المشتهى الذي تحيط به ملائكة الرغبة النسائيّة (Beautiful One)، والرجل الخارق الذي يستقبلنا عند باب المعرض (Superman)، نعبر بشتّى احتمالات الرجولة وتجلّياتها: الملاكم والصيّاد والمصارع، العسكري ورجل الدين والميليشيوي، والحشود الغاضبة التي يظلّلها «بعل» شفيع الذكورة المطلقة، رجال المافيا الطالعين من فيلم قديم بربطات عنقهم والقمصان البيضاء المنشّاة، وخلفهم لقطة من السماء لكورنيش البحر في بيروت. وفي المقابل هناك الأب الرؤوم الذي يحمي ابنه من الخطر الداهم، والمتنزّه الحالم عند «بحر بيروت»، والحبيب النائم الذي يسهر عليه الملاك السداسي الأجنحة، والشاب المطالب بالحريّة في شوارع طهران بعدما وقع في قبضة القمع، فبدا كأنّه جان بول مارا القتيل في لوحة دافيد، أو عيسى الناصري بعد إنزاله عن الصليب (Twitter). و«في تلك الأثناء» رجل ممدد على رصيف المدينة المقسّمة إلى شوارع وأحياء متناحرة، فيما كابوس ٧ أيّار/ مايو يحوم في الجوار.
تلجأ الفنانة إلى الألوان الزهيّة والصارخة، أكريليك على القماش كالعادة، مع تقنيات مختلفة، أبرزها وريقات الذهب التي تستعمل في الأيقونات. تصنع بها زهرة هنا، وشعلة هناك، ودوائر أعلى اللوحة تستعيد وجهاً أو تفصيلاً تسامى عن سياقه. ذلك أن ريم تختبئ في هوامش لوحتها وتفاصيلها الصغيرة. كلب الدبرمان المكرّر إلى ما لا نهاية لتجسيد الخطر، الحيوانات البريّة كما رسمت على جدران الكهوف، وأيضاً آلهة وأساطير وملائكة. «تانيت» ربّة الخصوبة الفينيقيّة تظلّل رجل الدين الشيعي وقرينه على خلفيّة حمراء. «بعل» يعلو الرجال الغاضبين. الملاك «ساروفيم» بأجنحته المزروعة عيوناً، يحرس النائم. «البُراق» بألوانه الشرقيّة الحارة، في حالة ارتقاء تصاعدي أعلى لوحة يسكنها رجال بقبعات ماغريتيّة، بالأزرق على خلفيّة قاتمة، يعومون في الهلام على دراجاتهم.
للاقتراب من سرّ اللوحة عند ريم الجندي، علينا أن نبدأ من الخلفيّة التي تجمع بين زخرفات البوب والمنمنمات والأيقونات. موتيفات تنقشها الفنّانة بصبر، لعلّه سلاحها الأخير بوجه اليأس. تكررها بإيقاعات صوفيّة، إلى ما لا نهاية. تخلق مستوى آخر للمشهد… لنتأمّل «أحد السكّان» يتهاوى من أعلى عمارة بيروتيّة، فإذا بستائر الشرفات خلفه تستحيل نقوشاً تزيينيّة. أما حارس المرمى الألماني أوليفر كان، فمعلّق في الفراغ أيضاً. لقد أخطأ الكرة، وخلفه «بناية الأشرفيّة» تخترقها النقط. لعلّ الموضوع الرئيسي لمعرض ريم الجندي الجديد ليس الذكورة… بل السقوط!
الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى