صفحات مختارة

دور المسيحيين الريادي في حركة القومية العربية.. من جديد

كرم الحلو
هل انتهى مشروع النهضة العربية الى الخيبة والإخفاق بعد قرابة القرنين على انطلاقته؟ هل تداعت وسقطت مقولاته القومية والوطنية والعلمانية ورهاناته على وحدة الأمة العربية وتقدمها وانخراطها في حركة الحداثة؟ هل قدر المسيحيين الذين تبوأوا ريادة النهضة العربية الحديثة أن يكونوا أكبر ضحايا عثارها واخفاقها وأن يدفعوا ثمن مخاضها المزمن والعسير؟ هل قدرهم أن يعاقبوا على مناداتهم بحقوق الانسان والمواطن والنهضة العلمية والحكم الدستوري ودولة الحرية والمساواة، وعلى تنبيهاتهم المبكرة والطليعية الى مخاطر الصهيونية وأطماعها في العالم العربي؟
أسئلة مريبة ومربكة تضغط على الفكر العربي ازاء المآلات البائسة للواقع العربي الراهن المهدد بالانقسامات العصبوية والأصوليات الظلامية، في حين يواجه المسيحيون العرب تحدياً يطاول وجودهم في الصميم من فلسطين والعراق الى مصر والسودان، فيرحلون عن ديارهم ويتضاءل حضورهم التاريخي في العالم العربي الى ما دون ال 3 في المئة من سكانه.
في هذا الاطار التراجعي القاتم تستعيد الباحثة فدوى نصيرات في كتابها “المسيحيون العرب وفكرة القومية العربية” دور المسيحيين العرب الرائد واسهاماتهم المركزية الكبرى في النهضة القومية العربية.
بدأت من أوضاع المسيحيين المزرية في ظل الحكم العثماني في القرن التاسع عشر، ودخولهم عهداً جديداً مع حكم محمد علي لمصر وبلاد الشام، لالغائه القوانين التمييزية بين الرعايا، واقراره حرية ممارسة الشعائر الدينية المسيحية، وانشاء المدارس والكنائس. وامتدت هذه الاصلاحات الى عهد ابنه ابراهيم، ما مهد لأفكار القومية العربية والحريات السياسية وفصل الدين عن الدولة.
وتتابع تحسّن أوضاع المسيحيين العرب بعد صدور الفرمانات العثمانية مثل خط كولخانه عام 1839 وخط همايون عام 1856 وخط التنظيمات الجديدة عام 1874.
وجاءت الارساليات التبشيرية لتساعد المسيحيين العرب على تعلم لغات الغرب والتشبّع بثقافته، وتسهم بالتالي في ايجاد فئة من المثقفين المتنورين، الأمر الذي كان منطلقاً لاتجاه ليبرالي تنويري تميز بطروحاته القومية والعلمانية، برز ونما عبر الجمعيات الأدبية والصحف والمجلات التي قامت على أكتاف المسيحيين، كما وجد تعبيراً له في مؤلفاتهم وقصائدهم ومسرحياتهم.
وكان أول ظهور الوعي القومي العربي في الجمعيات الثقافية التي كان جل أعضائها من المسيحيين، حيث شدد هؤلاء على الانتماء العربي ووحدة العرب وفضائلهم، وأشادوا بلغتهم وآدابهم. ففي الجمعية السورية عام 1859 أشاد بطرس البستاني بالعقل العربي وفضل العرب ولغتهم على العلوم الانسانية. وفي الجمعية العلمية السورية 1857 ـ 1867 ألقى ابراهيم اليازجي قصيدته الشهيرة “تنبهوا واستفيقوا ايها العرب” التي عدّها جورج انطونيوس “أول صوت لحركة العرب القومية”.
وفي هذه الجمعية بالذات ألقى بطرس البستاني خطبته في “الهيئة الاجتماعية والمقابلة بين الفوائد العربية والافرنجية” حيث تبلور لديه احساس عميق بمعنى الجنس العربي، المقدمة الأساسية للفكر القومي العربي.
وللدوريات العربية التي أنشأها المسيحيون دور أساسي في تطور الوعي القومي العربي، بدءاً من “حديقة الأخبار” لخليل الخوري عام 1857 و”نفير سورية” لبطرس البستاني عام 1860، مروراً بعشرات الصحف النهضوية التي كان لها الأثر العميق في الفكر القومي، من خلال الدعوة الى الرابطة الوطنية، ونبذ التفرقة الطائفية، والاعتزاز باللغة العربية باعتبارها علة الضم الحقيقية ومدار الوحدة الوطنية بين العرب. ولم يتوانَ المسيحيون العرب في دورياتهم عن الاشادة بالجنس العربي وعوائده وأخلاقه وشجاعته وكرمه، كما لم يألوا جهداً في الدعوة الى الاعتصاب بالعصبة الوطنية، وتقديم رابطة الوطن على رابطة الدين، والسؤال عن الجنسية قبل السؤال عن الطائفة.
ونشر المسيحيون في دورياتهم ثقافة التقدم، فنادوا بالاقتباس عن الغرب على رغم الاختلاف بيننا وبينه في الجنس والدين، ودعوا الى الاقتداء به في الأخذ بأسباب التقدم والمدنية، وأولها العدل واطلاق الحريات.
وكذلك أسهم المسيحيون النهضويون العرب عبر مؤلفاتهم ودورياتهم في تعزيز المشاعر القومية. فوضعوا القواميس بهدف تحديث اللغة العربية لتجاري العصر. الفّ بطرس البستاني “محيط المحيط” و “قطر المحيط” و “دائرة المعارف” وفارس الشدياق “الساق على الساق” وناصيف اليازجي “مجمع البحرين”. وبرز التوجه القومي في مسرحيات المسيحيين مثل مسرحية “عنترة” لشكري غانم و”غابة الحق” لفرنسيس المراش و “الدرر” لأديب اسحق و”يقظة الأمة العربية” لنجيب العازوري.
وكان للمسيحيين دور بارز في الثورة العربية الكبرى ضد الأتراك عام 1916، اذ قاتلوا في صفوفها، ونظموا القصائد في مدحها، وشكلوا اللجان من أجل الدعاية لها في الخارج.
تخلص الباحثة الى ان المسيحيين العرب لعبوا دوراً تأسيسياً في الفكر القومي العربي، ومن ابرز هؤلاء ناصيف وابراهيم اليازجي وبطرس وسليمان البستاني وفرح انطون وأديب اسحق وفرنسيس المراش وفارس الشدياق ونجيب العازوري وغيرهم. وقد أضاءت بكتابها، الذي تميز بالرصانة والشمول، على صفحة مشرقة من التاريخ العربي الحديث، مهددة بالتغييب والنسيان. لكننا مع تقديرنا الكبير لما قامت به نلفتها الى بعض الأمور:
أ ـ ان النهضويين العرب، والمسيحيين منهم خصوصاً، كانوا في معظمهم، باستثناء بعضهم مثل رزقالله حسون ونجيب العازوري، عثمانيي الولاء، على رغم انتقادهم الشديد لجور السلاطين والولاة واستبدادهم، ولم يكن في ذلك تناقض مع اعتزازهم بقوميتهم العربية.
وقد حظي النهضويون العرب بدعم الفئة المتنورة من العثمانيين التي كانت تريد تحديث السلطنة، من أمثال مدحت باشا الذي كتب في مجلة “الجنان” لبطرس البستاني، وحرّر هذه المجلة من مقص الرقابة.
كما ان من رجالات الدولة العثمانية من شارك في بعض جلسات “الجمعية العلمية السورية” بينما كان الخطباء يتبارون في الافتخار بانتمائهم القومي العربي والتغني بأمجاد العرب.
ب ـ تذكر الباحثة ان يوحنا ورتبات “مبشّر اميركي” والواقع انه أرمني من عائلة ذات مركز ديني مرموق هاجرت من أرمينيا الى سورية، وقد تعهده المرسلون الأميركان بالتربية والتعليم بعد وفاة والده.
ج ـ لم تأتِ الباحثة على ذكر رواية فرنسيس المراش “درّ الصدف في غرائب الصدف” على الرغم مما في هذه الرواية من مواقف متقدمة، ان لجهة الانتماء القومي العربي أو لجهة مكانة المرأة الاجتماعية وحقها في الزواج بمن تحب من دون قسر أو اكراه.

[ فدوى أحمد محمود نصيرات
[ المسيحيون العرب وفكرة القومية العربية في بلاد الشام ومصر 1840 ـ 1918
[ بيروت ـ مركز دراسات الوحدة العربية 2009
[480 صفحة
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى