مفهوم التنمية الشاملة
د. طيب تيزيني
تُولد مفاهيم، وتضْمر أو تنتهي أخرى بحسب واقع الحال المعيش في بلد أو آخر، وكذا الحال في العالم العربي. وفي البدء، ينبغي عدم التفريط بخصوصية هذا البلد العربي الاجتماعية أو ذاك. وبعدئذ، يغدو الحديث وارداً عن عمومية اجتماعية تشمل العالم العربي، وتجعل منه بنية اجتماعية مركبة تسمح بتناوله من حيث هو أنموذج للبحث العلمي السوسيولوجي. فمنذ العِقد السابع من القرن العشرين، كانت العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الثقافية في معظم البلدان العربية، تتحرك وفق النموذج الذي أطلق عليه -في حينه- النموذج العالم ثالثي، أو نموذج حركة التحرر الوطنية، مقابل مُعسكريْ الرأسمالية والاشتراكية. ومعروف أن ذلك النموذج أتى في سياق التأكيد على أنه حمل سمات وخصائص ما اعتبر “طريقاً لا رأسمالياً”، يجمع بين الثورة الوطنية السياسية، والتحول باتجاه عدالة اجتماعية، مع إصلاحات أخرى.
في ذلك الحال، برزت منظومة المفاهيم والقيم المطابقة، بقدر أو بآخر، لتلك السمات والخصائص، ومنها مفهوم “التنمية الشاملة”. ولقد اشتغل أجيال من الباحثين في العلوم الاجتماعية والاقتصادية والنفسية وغيرها، كي يجيبوا على أسئلة الواقع القائم. ولن ندخل في الأسباب التي كانت وراء الإخفاقات الكبرى، التي أفضت إلى هزيمة ما اعتُبر خططاً في التنمية الشاملة، مثل غياب الديمقراطية في الحياة المدنية بمختلف حقولها (الاقتصادي والسياسي والثقافي)، وهيمنة الجيوش التي فقدت وظائفها العسكرية مع إخفاقها في “الوظائف السوسيواقتصادية والسياالثقافية، ومع بروز عوامل جديدة خطيرة، مثل الطائفية والفساد والإفساد…إلخ
لقد سقط القطاع العام، ومعه كل رموزه، خصوصاً في “الأحزاب العقائدية الشمولية”، التي أكملت البقية بأن سارت قُدماً باتجاه نمط من “الدولة الأمنية” الحاكمة بمقتضى استبداد رباعي يتأسس على الاستئثار بالسلطة وبالثروة وبالإعلام وبالحقيقة.
وعلى هذا النحو، تحولت “التنمية الشاملة” في بلدان عربية إلى “تنمية شاملة” لكل أوجه المشكلات، يداً بيد مع استيلاد أوضاع استثنائية تجعل السلطات الثلاث في أيدي منْ لا يؤتمنون على أي من القطاعات التنموية. ومن ثم، يلاحظ أن ما انتهى إليه ذلك “الفعل التنموي الشامل الوهمي” إنما تمثل في مجموعة من النتائج الحاسمة الكبرى، يمكن أن تكون التالية في مقدمتها: ١) تدمير الاقتصاد الوطني بدءاً بالقطاع العام. ٢) تفكيك الأولويات أولاً ضمن العلاقة فيما بين الحقول المجتمعية، وثانياً ضمن الحقل المجتمعي الواحد. ٣) خربطة التوازن بين تلك جميعا. ٤) تحول ثروة الوطن إلى أموال خاصة تُشغَّل بعد تهريبها إلى بنوك أجنبية. ٥) التأكيد على نمط من الاقتصاد الاستهلاكي، الذي يبعثر ثروة البلاد أولاً، ويحصرها في أيدي مجموعات قليلة تؤسس لـ”المجتمع العشرين والثمانين” ثانياً. ٦) تكريس اقتصاد السوق، القائم على إيجاد التفاوت الاجتماعي المتصاعد. ولقد جاءت العولمة لتمنح ذلك بعداً قطرياً محلياً وقومياً وعالمياً مكسَّر الثقافة والهوية والآفاق المستقبلية، إلا ما قد يخرج على السرب ويحمل بعداً آخر.
إن ثقافة الهزائم والانكسارات تتكرس في الواقع العربي القائم، وذلك على نحو يعبّر فيه هذا الواقع عن منظوماته القيمية الأخلاقية والنظرية والإيديولوجية، التي من شأنها أن تُنظّر وتؤدلج، على الأخص، لمفهوم الحُطام العربي المفتوح، وتمنحه القيمة الأخلاقية المناسبة والمطابقة. وإذا كان هذا الحطام مفتوحاً، فالأمر لا يصح البتُّ فيه الآن!
الاتحاد