تجربة اليومي بين الاعتياد والمتعة
عزيز بومسهولي
تنشأ العلاقة ما بين الكائن واليومي على قاعدة الاعتياد التي تصيّر تجربة اليومي ممكنة، بما أنها تجربة للحياة تؤسس للتفاعل ما بين الأنا بوصفه كائنا حيا، وما بين التغير الذي تحمله صيرورة الوجود. ومن هنا فاليومي الذي يمثل كحاضر ما يفتأ يحضر بشكل اعتيادي، منكشفا كعادة لا تكف عن التكرار بما هو عودة دائمة يحمل في ذاته جدته التي تقترن بحدثية تولد تلك الحركية التي تحول دون أن يغدو التكرار استنساخا وتشابها كليا. فاليومي لا يفتأ يتكرر لكنه في الآن ذاته لا يفتأ يحدث، انه يعود دوما لكن عودته ليست مماثلة ما دام الحدث يلازمه بوصفه انكشافا للتغير، فبدون تغير لن يغدو اليومي ممكنا، فلن نستطيع أن نتحدث عن يومي يعرض بشكل دائم في الوجود الزماني، بل سنتحدث عن اليومي بإطلاق، اليوم الثابت الأبدي، أو عن حاضر ساكن مماثل لذاته مطلق، أي عن عدم خالص. إذاً، فاليومي هو أثر الحياة، أثر للتغير الدائم، هو ما ينشأ لدى الكائن عبر الاعتياد، من خلال عادة الظهور المتجددة التي تتولد عن التمفصل الزمني وعن حركة الطي، ينبعث كل يوم معتليا سطح الحياة، حياة الوجود والإنسان ليتوارى داخل الطي، تاركا خلفه أثر انكشافه، فاليومي هو نداء اليوم: هو نمط حضور الكائن اليومي في العالم. فاليوم هو ما ينفلت، ما يتناهى، ما يتعذر بعثه ما دام المضي ينخر وجوده، فيصير ماضيا، متواريا خلف الوجود وخلف الكائن، واليومي هو حركة الاعتياد التي تجعل انبعاث يوم جديد ممكنة، فتصيره حاضرا لا يمتلك سلطة الحضور والثبات المطلق. فالأنا باعتبارها ذاتية زمانية تعتاد اليومي فتجعله أفقا لتجربتها في العيش، والاعتياد يقوم داخل الحياة النفسية من خلال التسوية التي تقيمها الذات مع الواقع اليومي، ومن ثمة فإن الكائن الإنساني هو بالذات كائن يومي بامتياز، وتجربة اليومي تصير الاعتياد نمطا لاختبار القدرة على العيش من خلال العمل، والقدرة على الاستمتاع باليومي باعتباره إرضاء لرغبة الأنا. تقترن تجربة اليومي باليقظة الذاتية، فأنا اعتاد أن استفيق من فراشي، لأجد نفسي مستقبلا يومي، وبحكم العادة انخرط بشكل تلقائي في تغذية ذاتي، فاستعد للقيام بمجموعة من المهام التي تنتظرني خلال هذا اليوم الذي أعيشه، لكنني في نفس الآن انتزع لنفسي متعتها الخاصة التي امنحها من خلالها انتعاشتها بالوجود، ربما كأسلوب حياة لمقاومة الروتين اليومي، ولتجنب سأم العادة، فتجربة اليومي بما هي تمرين على الحياة، يمكن أن تظل مماثلة للاعتياد أو أنها لا تتعدى حدود العادة اليومية، حيث تغدو العادة كنمط حياة غاية في حد ذاتها، وبالتالي فإنها لا تتمثل إلا كتشابه يعيد نفسه، ما يحول دون الذات وأفق ابتكار وجودها الخاص، ومن الممكن أن تتحول تجربة الاعتياد إلى تنمية القدرة على المتعة أي على ابتكار أفق وجود مغاير ينفلت من الاعتياد ذاته سواء من خلال الرغبة في الحياة، التي تحتفي بالوجود كأفق حي للسعادة، للحياة بطريقة أمتع وأفضل، أو من خلال ما اسماه برغسون بالتعلق بالحياة أي بتلك المنفعة التي نعلقها على حياتنا الحاضرة، وتجعلنا متحررين من ثقل الذاكرة المرتبطة بالماضي، لتحفز على الفعل وعلى الابتكار. وتجربة اليومي تجعل من الحاضر أفقها الذي يمنح القيمة لأية لحظة يختبر فيها الإنسان قدرته على الفعل، وعلى تقدير الوجود. وكما يرى بيير هاودت، فالتمرن على التركيز على الحاضر لا يقوم على معرفة الاستمتاع حينما تحل لحظة سعيدة، لكنه يقوم على معرفة القيمة اللامتناهية لأي هنيهة فـــــــــــي الواقع ، وهذا صعب، لكن بحسب استطاعتنا على الفعل، فمن الأفضل أن نحوز الوعي بثراء اللحظة الحاضرة، وهذا الثراء هو الذي نمنحه للحظة، بفضل تحويل علاقتنا بالزمان، فعادة تكون حياتنا غير مكتملة لأننا ركزنا على أمالنا وانتظاراتنا نحو المستقبل، واعتبرنا أن السعادة تكمن حين نحقق هدفا من الأهداف، إذاً فنحن لا نعيش، وإنما نحن نأمل وننتظر أن نعيش فالابيقوريون والرواقيون يدعوننا إلى تحقيق تعديل شامل لعلاقتنا بالزمان، أن نحيا في اللحظة التي نعيشها، أي في الحاضر، وأن لا نعيش في المستقبل كما لو انه ليس مستقبلا، وكما لو انه ليس لنا سوى هذا اليوم فقط، وهذه اللحظة المعبرة عن الحياة بطريقة أفضل، وقبل كل شيء فنحن نركز على الفعل وعلى إتقان انجازه، وباستطاعتي القول إذاً: أنا هنا أحيا وهذا يكفيني بمعنى أني استطيع امتلاك الوعي بقيمة الوجود والاستماع بمتعة الوجود، فأي لحظة يمكن أن تكون لحظة سعادة، سواء كانت متعة وجود أو متعة إتقان فعل ما، ومن الواضح أننا لا نستطيع أن نعيش باستمرار في هذا الوضع، لأنه يجب أن يبذل مجهود شاق من اجل التحرر من إغراء المستقبل والروتين اليومي.(1) لا شك في أن الاعتياد يقودنا إلى الألفة مع اليومي، أي إلى إغراء الانسجام مع الروتين والاستكانة إليه، وهو يجعلنا مستسلمين للعجز الذي يحول طريقة وجودنا إلى سأم لا يطاق والى حزن وبؤس، فنحن نبدو بئيسين كما يقول سبينوزا لأننا عاجزون عن القدرة على ابتكار المتعة، ومن ثمة فلا سبيل للتخلص من العجز سوى بالانفلات عن الاعتياد، أي ببذل جهد شاق من خلال تركيزنا على الفعل الإبداعي، لاستعادة حيوية الوجود فينا، فالعلاقة بين الفعل والمتعة ترتكز على تجربة اليومي التي يلزم تحريرها على الدوام من سلطة الخضوع للاعتياد، فلن يغدو الاعتياد غاية وإنما وسيلة لابتداع القدرة وتنمية كفايتها، وبالقدر الذي تتملكني فيه العادة، بالقدر الذي أغدو فيه كائنا منفعلا باليومي، كائنا من غير رغبة، ما دمت غير قادر على تجاوز هذا اليومي الذي اعتادته رغبتي، أي ما دمت غير قادر على الانفصال بوصفه حياة باطنية أو حياة نفسية، «فالحياة النفسية وما تفتحه من آفاق تمسك بالفرق الذي يفصل الميتافيزيقي عن الميتافيزيقا، ويفصل مقاومته عن الثشميل»(2). الانفصال شرط لحياة أفضل، بدونه يغدو لقاؤنا باليومي رتابة، وتغدو يوميتنا ذاتها ثقلا، والانفصال هو الذي يمنح الفردية الذاتية قيمتها، وهي القيمة التي تنكشف بالمتعة، من حيث هي تنعم بالحياة، ومن حيث هي رغبة في ابتداع أسلوب فن الحياة. يحول الكائن اليومي شروط الحياة إلى استمتاع، وبالتالي هذا التحويل يحقق انفصاله ويتعالى كذاتية تجد في برانية الوجود جماليتها القصوى، وهذا التعالي ليس سوى تحرر من الخضوع للطبيعة والثقافة، في الطبيعة يتنعم بالتغدية التي تخلصه من الجوع، وبالعمل الذي ينمي قدرته ليس على ضمان قوته اليومي فقط، وإنما ينمي قدرته على تغيير ذاته، وتحويل الوجود، يتجاوز الطبيعة لكنه في الآن ذاته يبتكر أسلوبا لتجاوز النمطية التي تكرسها الثقافة بما هي عادات وتقاليد وأفكار جاهزة. فالتغذية والعمل مترابطان بالنسبة للكائن الإنساني، فهي شرط أساسي لأي استمتاع يتجاوز الاعتياد اليومي، فالتغذية كوسيلة للإنعاش، هي تحويل للآخر في عين الذات. فهي بحسب لفناس تدخل في ماهية الاستمتاع، هي طاقة أخرى، طاقة داعمة للفعل الذي ينحو نحوها، وكل استمتاع بهذا المعنى فهو تغذية، فهذه المحتويات معيشة تغذي الحياة، ونحن نحيا حياتها، والعيش مثل فعل متعد، حيث إن المحتويات هي مكملة مباشرة، أما فعل العيش فهو مضمون الحياة، والعلاقة مع المكمل المباشر لفعل «يوجد» تشبه الارتباط مع التغذية، حيث هناك ارتباط مع موضوع ما، وارتباط مع هذا الارتباط الذي يغذي بدوره الحياة ويشبعها، فلا يوجد فقط الم الحياة وفرحها، لكننا نوجد بآلامها وأفراحها، وهذه الطريقة بالنسبة لفعل العيش بنشاطه الخاص ذاته هي بالتحديد المتعة أو الاستمتاع. إن العيش بالخبز، ليس هو إذاً تمثلا للخبز، ولا تصرفا إزاءه أو من خلاله، من المؤكد أن الإنسان يجب أن يربح خبزه، فالخبز الذي أكله، هو أيضا ما به اربح خبزي وحياتي لكني آكل خبزي من أجل أن اعمل وأعيش، فانا أحيا بعملي وبخبزي، فالخبز والعمل لا بالمعنى الباسكالي، عن واقعة الوجود العارية، كما لا يشغلان فراغ وقتي: «إن المتعة هي الوعي الأخير لكل المحتويات التي تملأ حياتي، والحياة التي اربحها ليست وجودا عاريا، بل هي حياة شغل وتغذية، فثمة محتويات لا تثير اهتمامها فقط، لكنها تشغلها وتسليها، من حيث هي استمتاع… ونحن نحيا بالعمل الذي يضمن بقاءنا لكننا نحيا أيضا بالعمل، لأنه يفعم الحياة (يفرحها ويقرحها).. وهي باعتبارها سعادة تكون استقلالا» ومعنى ذلك أن كل وجود هو تمرين على الوجود، والفعل الذي ينتشر على سطح الوجود يدخل في سعادتنا. إن العلاقة الأخيرة هي متعة وسعادة.(3) إن المتعة والسعادة تؤولان إذاً إلى العلاقة التي تتأسس ما بين الكائن الإنساني بما هو كائن يومي، وما بين الوجود، وطبيعة هذه العلاقة هي التي تصير وجودنا اعتيادا ينقاد للخضوع اليومي ذاته، لرتابته، ومن ثمة لعجز مولد للبؤس، وإما أنها تصير وجودنا تحريرا للرتابة وتصير اعتيادنا تمرينا على الحياة، وقوة ابتكار لقدراتنا أي أنها تحولنا إلى كائنات متعوية، ليست جديرة بالسـعادة فقـط بل تتعين السعادة فيها ومن خلالها.
(كاتب مغربي)
هوامش: (1)-pierre hadot : la philosophie comme manière de vivre Ed. Albin Michel. S.A. Paris 2001.P 261 (2)-Emmanuel Levinas : Totalité et infini. Martinus Nijhoff, 1971. P112 (3) Ibid. P
السفير