الثقافة والعنف بين التحليل النفسي وعلم الاجتماع
الخير أملٌ ضروري لكن الشرّ أكثر إبداعاً ومكراً –
سلام عبود
ربما لا توجد كلمة في القاموس العربي تنطبق عليها الإشكالية الفرويدية المتعلقة بتعريف مصطلح ثقافة، أكثر من كلمة ثقافة نفسها، التي تشير الى ما ذهب اليه فرويد، من أن الثقافة تتعارض مع غرائز التدمير تعارضا تاماً؛ فغالبية معاني هذه الكلمة تدلّ على الحذق والمهارة والفطنة والذكاء ورسوخ المعرفة، وحاملها ثقف وليس مثقفا، كما اعتدنا أن نسمّيه. بيد أن التدقيق في القاموس يوصلنا الى نتيجة معاكسة تماما. لأن كلمة ثقافة العربية، التي تجمع بين التهذيب المادي والروحي، تحتوي أيضا على ما هو مغاير لهذا المعنى، فكلمة “الثقاف” تعني المخاصمة والجِلاد. وهي بذلك تجمع بين الخير والشرّ، خلافا لما يريده فرويد.
ثقافة أم حضارة؟
يشكو سيغموند فرويد (1856 – 1939) في كتابه “حياتي والتحليل النفسي” (ص 78) من أنه أحد الذين يقرّون بصعوبة وضع تعريفات صارمة للمفاهيم المرتبطة ببعض العلوم، لأنها “ليست ممكنة في علوم الإنسان”؛ أما في العلوم الطبيعية، ومنها علم النفس، فإن مثل هذا الوضوح في المفاهيم الأساسية “زائد على المطلوب، بل مستحيل”. حتى مترجمو فرويد يؤكدون أن مصطلحَي “ثقافة” و”حضارة” الفرويديين يترجمان معا من أصل اصطلاحيّ واحد. لهذا يستخدم فرويد المصطلحين للغرض ذاته في أحوال كثيرة. وفي كتاب “مستقبل وهم” يعلن فرويد صراحة عدم رضاه عن التفريق بين مصطلح ثقافة وحضارة، بالقول: “وأنا أزدري اصلاً كل تفريق للحضارة عن “الثقافة”، ويضع له، أو لهما، هذا التعريف: “إن الثقافة الانسانية – واقصد بها كلّ ما أمكن الحياة البشرية ان ترتفع من طريقه فوق الشروط الحيوانية وان تتميز به عن حياة البهائم – تتبدى للملاحظ بوجهين إثنين كما هو معروف. فهي تضم من جهة أولى كل المعرفة وكل المقدرة اللتين اكتسبهما بنو الإنسان ليسيطروا على قوى الطبيعة ولينتزعوا منها الخيرات القمينة بتلبية الحاجات الانسانية، وتنطوي من الجهة الثانية على جميع الاستعدادات الضرورية لتنظيم علاقات البشر في ما بينهم، وفي وجه خاص لتوزيع الخيرات المتاحة. وليست وجهتا الحضارة هاتان بمستقلتين إحداهما عن الاخرى؛ في المقام الاول لأن علاقات البشر المتبادلة تتأثر عميق التأثر بمدى ما تتيحه الثروات الحاضرة من تلبية للغرائز؛ وفي المقام الثاني لأن الفرد بالذات يستطيع ان يدخل في علاقة ملكية مع فرد آخر، وذلك بمقدار ما يستخدم هذا الاخير قدرته على العمل أو يتخذ منه موضوعا جنسيا؛ وفي المقام الثالث لأن كل فرد بالقوة والفرض هو عدوّ للحضارة التي هي في الاساس لصالح البشرية قاطبة في وجه عام” (“مستقبل وهم”، ص 8 – 9 ).
في كتابه “قلق في الحضارة” (ص 41) يعيد فرويد تعريف الحضارة على هذا النحو: “ان مصطلح الحضارة يشير الى جملة الصنائع والتنظيمات التي يبعدنا تأسيسها من حالة أسلافنا البهيمية، والتي تفيد في غرضين: حماية الانسان من الطبيعة، وتنظيم علاقات البشر في ما بينهم”. وربما لا يخرج التعريفان السالفان عن الحدود المرسومة للثقافة ضمن طائفة التعريفات الشاملة. إن العناصر الأساسّة في هذا التعريف أربعة: الدوافع الداخلية للفرد، والأنا، السلطة العليا للفرد كمنتج للقيم المادية والروحية وكشريك في العلاقات بين الأفراد، والأفراد ككتلة اجتماعية تتبادل التأثير مع الفرد، والطبيعة التي يسعى الإنسان الى الانتفاع بها من أجل البقاء ومن أجل تحسين شروط هذا البقاء (السعادة). على الرغم من أن هذا التعريف يندرج في جوهره ضمن تعريفات الثقافة الشاملة، إلاّ أنه يتميز عن غيره ببعض الخصوصيات، أهمها: تركيزه على لحظتي البدء والختام في عمليتي التكوين الحضاري، وهما صراع الغرائز مع الأنا، ونتائج صراع الأنا مع الذات الاجتماعية العليا. فالإنسان يخلق الحضارة، لكنه في عين الوقت يملك ميلاً محسوساً الى مقاومة تطورها. وفي تقدير فرويد، تكون المرأة أكثر من الرجل ميلاً الى مقاومة التغيير الحضاري.
بيد أننا نستطيع أن نجد تمييزا طفيفا بين مصطلحَي “حضارة” و”ثقافة”، حينما يكرر فرويد استخدامهما في تحليلاته النظرية. ويبدو من مراقبة الاستخدام أن فرويد يعني بالحضارة مرحلة عليا من مراحل نموّ المجتمع أو الجنس البشري وتطوره. أما الثقافة فهي المنجز العقلي والمادي الإنساني الايجابي وما يرافقه من أشكال لتنظيم العلاقات الاجتماعية في مرحلة معينة من مراحل تطوّر الحضارة. بهذا تخرج الثقافة قليلا من حدود التعريفين الشائعين: التعريف الضيّق، الذي يحصر الثقافة في منجزات العلم والفن والأدب، أو في منجزات الفكر؛ والتعريف الشامل، الذي يدرج في الثقافة مجمل النشاط المادي والروحي، من دون أن يضع شروطا نوعية تميّز إيجابية أو سلبية هذا النشاط، الذي يشترطه فرويد في الثقافة.
يقول فرويد في كتاب “أفكار لأزمنة الحرب والموت”: “إن الميول العدوانية ميول غريزية مستقلة فطرية في الإنسان، وإنها أمنع المعوقات التي تقف في وجه الثقافة. وكنت قد أفصحت من قبل عن اقتناعي بأن الثقافة مرحلة من مراحل تطوّر الحضارة، وما زلت مقتنعا بما قلت، وقد اضيف عليه أن الثقافة قد ثبت أنها تعمل في خدمة غرائز الحياة (الإيروس) التي تربط الأفراد بعضهم بالبعض وتصنع منهم الأسر ثم القبائل فالأجناس والأمم وتوحد بينهم في وحدة كبرى هي الإنسانية” (ص 81).
للتغلب على هذا اللبس في المصطلحات، لا بدّ من المرور على مؤلفات فرويد، وتصنيفها بحثيّا، في ضوء موضوعاتها. يستطيع المرء تقسيم هذه المؤلفات ثلاثة أصناف رئيسة: الأوّل يختص بدراسة الأسس النظرية والتطبيقية لمنهج التحليل النفسي، والثاني يدرس تطبيقات نظرية التحليل النفسي على الأدب والفن والدين والأساطير، والثالث يختصّ بالتصوّرات النظرية العامة، الاجتماعية والفلسفية، استنادا الى منهجه النفسي. يشتمل الجانب الأخير على دراسات تتناول موضوعات محدّدة كالحرب والحضارة والتطور البشري، جاء بعضها في صيغة رسائل وحوارات شخصية حول موضوعات إنسانية كبيرة الأهمية. والجزء التنظيري الاجتماعي من مؤلفات فرويد – موضع اهتمامنا الآن- أنجزه في الأغلب في سنوات حياته الأخيرة. لهذا الأمر مغزيان، أولهما أنه أتمّ هذه المؤلفات في الفترة التي استكمل تطبيق أفكاره الأساسية بشكل خاص، ومناقشتها، وبدأ يتابع أفكار تلامذته والمنشقين عليه؛ والمزيّة الكبرى لهذه الأفكار أنها جاءت في فترة النضج العمريّ لفرويد كإنسان وعالم. أما المغزى الثاني فهو ارتباط هذه الأفكار بالحياة وبالأحداث التاريخية المعاصرة. فقد كُتبت في فترة خطيرة من تاريخ البشرية، في أواسط العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين، والتي تعني أن حربا عالمية طاحنة قد انتهت توّاً، لكنّ البشرية لم تستخلص عظة محسوسة من نتائجها الوحشية، فراحت تستعد مجددا لجولة جديدة من الحرب، كان الجميع يشمّ رائحة دخانها الأسود. وربّما ازدادت قيمة هذه الأفكار في عين القارئ لأن صاحبها كان نمسويا، متأثرا، لغة وثقافة وسياسة، تأثرا مباشرا بالشعب الذي قاد الحرب العالمية الأولى، وكان آنذاك يستعد لشن حربه العالمية المدمّرة الثانية، وأعني به الشعب الألماني. كان قلق فرويد، وقلق مفكرين مرموقين آخرين، في موضعه الصحيح، الذي ترك بصمته العميقة على أفكارهم. لكنّ فرويد لم يشكّ لحظة واحدة في مقدرة المجتمع الألماني على الخروج من شراك نوازع العنف، مجسّدةً في الحرب؛ فكان يرى أن الشعب الألماني قدّم مساهمات عظيمة للحضارة البشريّة فكراً وتشريعاً وعلماً. فهو شعب حيّ وقادر على كبح الغرائز العدوانية، استنادا الى قدراته تلك. ولكنّ تلك الأمنية لم تتحقق. لهذا السبب يتعاظم قلقنا، نحن العرب، كثيرا، حينما ننظر الى دوامة الحروب والعنف التي لا تنقطع، أو التي لا يُراد لها أن تنقطع، فنمضي من انكسار الى انكسار، ومن خيبة الى خيبة، تفصل بيننا وبين أزماننا الذهبية مئات السنين من القهر والتخلف، على عكس المثقف الألماني، الذي يسند ظهره، بثقة تامة، الى كوكبة لامعة من المفكرين العظام، الذين لم يزل فكرهم حيّا، يلهم البشرية في كلّ مكان.
الثنائية الثقافية
عولجت بعض الإشكالات النظرية والبحثية المتعلّقة بوظيفة علم النفس، على نحو ملطّف، في كتاب أستاذ علم الاجتماع في جامعة بغداد، علي الوردي (دراسات في طبيعة المجتمع العراقي). ولم يكن خلاف الوردي مع علم النفس يتعلق بالمصطلحات، وإنّما بموضوع ازدواج المشاعر، أو ازدواج الشخصية، وهو جزء حيوي في نظرية التحليل النفسي. وقد رأى الوردي، الذي كثيرا ما اصطدم بالممارسين النفسيين الضيّقي الأفق، أن التمييز بين البحث النفسي والبحث الاجتماعي ضروريّ للفصل بين الطرفين، في ما يتعلق بمشكلة الازدواج: “الواقع أن هناك فرقا كبيرا بين ما يقصده علماء النفس من ازدواج الشخصية، وما يقصده عالم الاجتماع. فالازدواج يعتبر من الناحية النفسية مرضا نادرا يعتري بعض الأفراد من جراء عوامل وظروف خاصة بهم… أما ازدواج الشخصية بالمعنى الاجتماعي فهو أمر آخر. فهو ليس مرضا نفسيا، إنما هو ظاهرة اجتماعية. وهو يحدث في كثير من الناس حينما يظهر لديهم صراع ثقافي، كما قال الباحثان بيغ ومكايفر. وقد أطلق هذان الباحثان على ظاهرة ازدواج الشخصية اسم “الثنائية الثقافية”، وهما يقولان في هذا الصدد: “عندما يتعرض الفرد لمطاليب ثقافات اجتماعية متناقضة، لا سيما في مراحل نموه الأولى، قد لا يتمكن من تكوين شخصية متكاملة في نفسه. فهو يحاول أن يوفق بين تلك المطاليب المتناقضة من دون جدوى، لهذا فهو قد يصبح ذا شخصية مزدوجة، قليلا أو كثيرا” (ص 287).
إذا أخذنا شيئا من فرويد وشيئا من الوردي، أي شيئا من علم الاجتماع وشيئا من علم النفس، فربّما نصل الى نتائج أقلّ اضطرابا، مما نراه لدى الطرفين. ولكن، لا بدّ من إجراء تعديل طفيف على بعض ملاحظات الوردي عن علم النفس وصلتها بالازدواج.
يقول فرويد في كتابه “أفكار لأزمنة الحرب” إن الازدواج نفسيا لن يغدو مرضا إلا بعد أن تحدث اختلالات عضوية في الوظائف الجسمانية، أو في عملية تنظيم الدوافع، التي تنشأ عن مؤثرات خارجية، كالحروب والصدمات.
إن وجهة نظر نظرية التحليل النفسي عن ازدواج الشعور، لم تدرس بدقة تامة ضمن سياقها المنهجي من بعض علماء الاجتماع، لذلك بدت للوردي متناقضة مع مفاهيم علم الاجتماع حول الازدواج. فنشأ ازدواج اجتماعي وازدواج نفسي. وإذا دققنا جيدا في مفهوم فرويد عن الازدواج، نجد أنه يتحدث عن ميول فطرية، لكنها تعمل باتحاد واتصال مع الأنا، أي الضمير، ومع العالم الخارجي، حينما تتحول موضوعات. وتظلّ هذه الميول تحمل طبيعة الازدواج، من دون أن تكون صفة مرضية. ومثل هذا الأمر ينطبق على الظواهر الاجتماعيّة والمجتمعات أيضا، كما يرى فرويد. ولكن، حينما تتجاوز هذه الازدواجية حدودها، كميل فطري غريزي، في مرحلة متقدمة من مراحل التجربة (تطور نموّ الشخصيّة) فقد تغدو ميلا مرضيا. أي أن ميول الكراهية والحب موجودة فينا، استنادا الى وجود غرائز الحياة (الحبّ) وغرائز الموت (التدمير). ولكنّ هذا لا يعني أنّ البشر يولدون أشرارا أو أخيارا. إن الغريزة بالمفهوم الفرويدي محايدة، وإننا نحن الذين نكسبها محتواها الشرير أو الخيّر بالاستعمال والتوظيف في مرحلة متقدمة من مراحل النموّ. ولو عدنا الى مثال الوردي نفسه لوجدنا أنه يحمل التأكيد ذاته، الذي أراده فرويد: “عندما يتعرض الفرد لمطاليب ثقافات اجتماعية متناقضة، لا سيما في مراحل نموه الأولى، فقد لا يتمكن من تكوين شخصية متكاملة في نفسه”. إن تأثيرات مراحل النمو الأولى قد تترك آثارها العميقة، ولكن لاحقا؛ وقد تغير الدوافع اتجاهها، كأن يتحوّل معذّبو الحيوانات من الأطفال عاطفيين ومناصرين للبيئة في الكبر. ولا تتبلور شخصية الفرد بالدرجة التي يمكن أن نصفها فيها بالخير أو بالشرّ، إلا بعد أن تكون هذه التقلّبات التي تتعرض لها الغرائز قد تمّت. “مع هذا يندر أن يكون الإنسان خيّراً تماماً أو شرّيراً على وجه الإطلاق، ولكنّه يكون عادة خيّراً في ناحية وشرّيراً في أخرى، أو خيّراً في مواقف وشرّيراً في مواقف أخرى” (“الحب والحرب والحضارة والموت”، ص17).
أمّا الإشكال الأعمق الذي يفرّق بين استخدامات علم النفس وعلم الاجتماع فيظهر بقوّة في قلق فكرة فرويد المتعلقة بالثقافة وعلاقتها بغرائز العنف والعدوانيّة، التي يخرجها فرويد من حدود الثقافة. وهذه الإشكالية بحثية خالصة، مردّها يعود الى وجود هنات في فكر فرويد الاجتماعي والفلسفي. فبقدر ما كانت نظريته النفسية محكمة في تمركزها حول فكرة اللبيدو وعقدة أوديب نفسيا وسريريا، نراها تضعف، وقد تضطرب، عندما يجري تعميمها اجتماعيا، وتشحب حينما تدخل حيز التعميم الفلسفي. من دون شك، إن لضعف خبرات فرويد في البحث الفلسفي والاجتماعي أثراً في ذلك. لذلك نراه يتقلب تقلباً واضحاً عند معالجة علاقة الثقافة بالحضارة وعلاقة الثقافة بالعنف والغرائز العدوانية. ففي كتابه “مستقبل وهم” يؤكد “ازدراءه أصلا” لفكرة التفريق بين مصطلحَي ثقافة وحضارة، ويؤكد ذلك حتّى مترجموه، الذين يشيرون الى وحدة المصطلحين واختلاطهما، كما أوضح جورج طرابيشي في كتاب “قلق في الحضارة”. بيد أن فرويد يتراجع عن هذا التوحيد، ويشرع بخلق نوع من التمايز بين المصطلحين، جاعلا من الثقافة درجة من درجات نموّ الحضارة، لكي يخرج نفسه من ورطة تطبيق ثنائية علم النفس على البحوث الاجتماعية: الحياة والموت، وغرائز التدمير والغرائز الإيروسية، التي هي عصب نظرية التحليل النفسي. لكن البحث الفرويدي يزداد اهتزازا بهذا الحلّ المفاجئ، الذي يجعل الثقافة مرحلة من مراحل نموّ الحضارة. فقد اصطدم هذا التقسيم بفكرة فرويد القاضية بكون الثقافة عنصرا مناقضا للعدوانية ومخالفا لعناصر التدمير الغريزية وتعبيراتها السلوكية والنفسية، كالشرّ والكره والحقد وغيرها، وحصرها في عناصر البناء والحياة. فإذا كانت الثقافة مرحلة في نموّ الحضارة، فأين نضع الغرائز اللاحضارية واللاثقافية؟ وما المرحلة التي تحتلّها الثقافة في أطوار نموّ الحضارة؟ وكيف نفسّر اختلاط الحضارة بعناصر التدمير والحياة اختلاطا عضويا؟ وكيف نحلّ ثنائية علم الاجتماع “الثنائية الثقافية”، التي تشير الى إمكان وجود عناصر متناقضة في بنية الفرد الثقافية، مثل ازدواج الخير والشرّ، الحبّ والكراهيّة، هذه الثنائية التي أكد علم النفس التحليلي دوافعها الغريزية وأصرّ على وجودها، لكنه أنكر إدراج بعضها، العدواني منها، في حقل الثقافة؟
يزداد البحث صعوبة حينما يتمّ إدراج الايديولوجيا ضمن مفهوم الثقافة الواسع ذي الآفاق الشاملة. فالايديولوجيا بطبيعتها كمنظومة شمولية للوعي، وحدودها التخصصية كمجال ووظيفة، تشي بشيء من الاعتراف بأن المفاهيم العدوانية التدميرية تدخل أيضا ضمن مصطلح ثقافة، ولكن بقدر معلوم من التسامح النظري.
الإنسان والشرّ
منذ القدم وقف الإنسان حائرا أمام أسرار التناقضات التي تضرب النفس والمجتمع والطبيعة، وراح يتساءل عنها، ثمّ يصوغ أجوبته في هيئة أفكار وقصص وأساطير، أو في هيئة أشباح وأرواح وجنّ، أو في صورة كوابيس وأحلام وهذيانات فردية وجماعية، ولم يزل يفعل هذا.
هل اكتشاف المقصلة حضارة أم بربرية؟ ثقافة أم عدوانية لا ثقافية؟ شرّ أم خير؟ هل اكتشاف المدافع شرّ أم خير؟ متى يكون الديناميت شرّاً ومتى يكون خيراً؟ ومن يحكم على هذين الشرّ والخير؟ هل انشطار الذرّة خير أم شرّ؟ هل إبادة سكان المستعمرات، واسترقاق العبيد، شرّ أم خير؟ وحينما تتجاوز الأسئلة مملكة النفس الى ممالك الوجود الطبيعية والاجتماعية، لا تغدو أكثر يسرا، كما يتوهم المرء، بل تزداد غموضا وتعقيدا. هل استئصال سرطان الثدي شرّ أم خير؟ وهل السرطان ذاته، بصرف النظر عن أشكال التعامل معه، شرّ أم خير؟ كيف نقيس ذلك في الطبيعة وفي العلاقات الاجتماعية وفي مشاعر الفرد؟ هل عدم التزام قوانين الصيد في أعالي البحار شرّ أم خير؟ هل تجاهل تغييرات البيئة على كوكبنا شرّ أم خير؟ وهل يجوز للذات العليا الخيّرة أن تخلق الشرّ؟
ربط أبرز ممثلي الفكر الفلسفيّ اليوناني، سقراط وإفلاطون وأرسطو، بين الخير والحرية. فقد اعتبر سقراط الحرية “فعل الأفضل”، واعتبرها أفلاطون “وجود الخير”، وأضاف اليها أرسطو عنصر الإرادة. وقد ظهر هذا الربط في التفكير الكنسيّ اللاحق، في صورة موحدة تجمع بين الأجزاء الثلاثة: الخير والحريّة والإرادة، على قاعدة عامة مفادها أن الإرادة تميل نحو الخير، في طبيعتها.
حاولت الفلسفة الإسلامية إيجاد حلول لموضوع الشرّ، فلسفيا وأخلاقيا. ومن المدهش أن نجد أفكار فرويد تطابق الى حد كبير جزءا كبيرا من وجهات نظر أبرز ممثلي الفلسفة الإسلامية: ابن سينا والفارابي. فقد رأى ابن سينا أن الشرّ هو العدم، وهو ما يعوق تحقيق الكمال. هذا الأمر يشبه الى حدّ كبير تفسير فرويد الذي يجعل الغرائز العدوانية (غرائز الموت) كابحا يعوق تحقيق الثقافة والحضارة. أمّا الفارابي، فوسع مفهوم الشرّ بإضفاء الطابع الإجتماعي عليه، جاعلا منه كلّ ما يعوق بلوغ السعادة. هنا نجد تطابقا آخر مع فكرة فرويد عن صراع غرائز الإيروسية (الحياة، الحب، اللذة) مع غرائز الموت. وعلى الرغم من أن الفارابي يختلف مع فرويد في الدوافع، وفي إمكان زوال (استئصال) الشرّ بوجهيه الطبيعي والاجتماعي عند بلوغ المدينة الفاضلة، إلا أنه يتفق مع فرويد اتفاقا مثيرا للدهشة في موضوع معالجة الشرّ، بطرق تشبه الى حد كبيبر فكرة تصعيد الدافع الفرويدية، من طريق تصييره نافعا أو تقليله أو إبطاله.
أما المعضلة العقلية الكبرى التي واجهها الفلاسفة المسلمون فتكمن في مسألة صدور الشرّ من خير مطلق. للإجابة عن هذا السؤال قام الفلاسفة بخلق ثنائية ما ورائية، تشبه ازدواج الشخصية أو الازدواج الثقافي، قوامها أن الشر موجود عرضيّ، يؤدّي وظيفة ما في خدمة الخير. أي إرجاع شرّ الشرّ الظاهر الى خيره المستبطن. بيد أن هذا التبرير الحاذق لا يجيب إجابة شافية عن السؤال المتعلق بمصدر وجود الشر، الذي نُسب الى الجزء المادي من الوجود، حينما يظهر كنوع من الفساد في المادة أو في عدم مقدرتها على التلاؤم مع عالم الصور والروح بشكل مقبول. أما عالم الروحانيات فمنزّه من الشرّ. ولم تبتعد المخيلة الدينية كثيرا عن تلك الصورة الفلسفية؛ فإبليس رمز الشرّ، لم يُخلق شرّيرا. على العكس، كان ملاكا صالحا، لكنّه تحوّل الى الشرّ لفساد فيه وفشله في التطابق مع إرادة وكمال الخالق. لذلك تربط الفلسفة المسيحية أيضا بين ظهور الشرّ والخطيئة. فقبل وقوع الخطيئة كان الإنسان حرّا. وفي الفلسفة الحديثة رأى الفيلسوف الألماني كريستيان فون لفولف أن الخير هو “كلّ ما هو لازم لإيصال العالم الى كماله”، وهذه فكرة تشبه الى حد كبيرة فكرة ابن سينا. كما أن فكرة وجود الشرّ في قلب الخير، لا تبتعد كثيرا عن فكرتي الفارابي وابن سينا أيضا: “كلّ الغايات في نفسها صالحة وخيرة”. وإذا كان الشرّ الناشئ بسبب أخطاء الطبيعة شرّا غير مقصود، لأنّه لا يعقل ذاته، فإن الشرّ الإرادي عند الفارابي يتحقق حينما يحيد الإنسان عن درب السعادة الحقيقية، الذي سمّاه آخر الفلاسفة الموسوعيين ليبنتز بالإثم، مضيفا اليه نوعي الشرّ، اللذين قال بهما ابن سينا: النقص، والألم الذي ينتج جراء إدراك النقص.
إن فجر التنوير البشري، الذي بدأ باكتشاف العالم الجديد، هو فجر انطلاقة التمدّد الاستعماري (الحضاري) المشين؛ وفجر ولادة مستوطنات البيض في الغرب الأميركي هو لحظة غروب شمس سكان أميركا الأصليين. في الحضارة تزدوج عناصر الهدم والولادة، في صورة أقرب الى ما يحدث في الخليّة البشرية، منها الى ما يحدث في الغرائز البشرية.
من الشرّ الخيّر الى الخير الشرّير
لذلك، لا بدّ من التزام الحذر عند تطبيق مبادئ علم النفس إجتماعيا؛ وفي الجانب المقابل، لا بدّ من التزام أعلى درجات المعيارية حينما يتمّ تفسير الظواهر الاجتماعية نفسيا. إن الإزدواج، سواء في هيئة ثنائية ثقافية أو ثنائية نفسية، مظهر طبيعيّ من مظاهر وجود الظواهر. لأن هذا الازدواج، في تأويله الفلسفي الشامل، هو الدافع والمحرّك الأساسي للتاريخ، الفردي والاجتماعي، المادي والروحي. إنه قانون الحياة.
من هنا نرى أن فرويد، الذي مال الى التنظير والتعميم الفلسفي الاجتماعي في سنواته الأخيرة، مستفيدا من خبراته النظرية والعملية في مجال علم النفس ومن تطبيقاتها على الفن والأدب والأساطير والأحلام، كوّن ثروة معرفية عظيمة، جعلته قادرا على توظيف معارفه وخبراته في ما هو أبعد من مجال علم النفس. بيد أن هذا التوسع الخلاّق شابته بعض العيوب، ولم يخصع للمناقشة العميقة، لأسباب عديدة، منها: أولا، لأنّ الاهتمام الرئيس بالفرويديّة انحصر غالبا في مفاهيم علم النفس، وقد حدث هذا بشكل مقصود وعفوي. فبعض الايديولوجيات، الماركسية والدينية والنازية، كانت ترغب في أن يحصر فرويد نشاطه في هذا الجانب، لكي لا تمتدّ نظريته الى ما يصطدم بمفاهيمها (خصوصياتها المميزة) عند التطبيق والتعميم، كموضوعَي العوامل الاقتصادية والملكية عند الماركسيين، والطقوس الدينية وأصل الأديان لدى الفكر الديني، وربط أفكار التفوّق العرقي بالعدوانية لدى العرقيين، وحتى النظريات الليبيرالية كانت لا تخفي خشيتها من هذه التعميمات، وعلى وجه التحديد نقد بعض أوجه النشاط “الحضاري”، كالتوسع، والشره الاقتصادي، والحرب، والتجارب العنفية الوحشية للدول الاستعمارية وغير ذلك من الشرور؛ ثانيا: لم تناقَش وجهات نظر فرويد الإجتماعية جيّدا، لأنها لم تدخل في باب علم الاجتماع أو الفلسفة، وظل الدارسون ينظرون اليها على أنها هامش نظري، تعريفي، ملحق بنظرية التحليل النفسي. وثالثا: لأن معالجة المشكلات فلسفيا وإجتماعيا تضفي مزيدا من التعقيد على الأسئلة البحثية. إن مناقشة أفكار فرويد الاجتماعية ستغدو خطوة علمية مثمرة، لو قدّر لها توليد أفكار جديدة، صائبة، أكثر عمقا. من هذه الأفكار فكرة حصر الثقافة بالمنتوج المادي والروحي الايجابي، وطرد العنصر العدواني وعناصر التدمير من مفهوم “الثقافة”. لهذا الطرد أو الإقصاء جانبان: إيجابي وسلبي. فالتناقض بين الثقافة والغرائز التدميرية أمر واقعي، لو نُظِر اليه كصراع بين غرائز، أي تصادم غرائز الحياة والحب مع غرائز الموت والتدمير. واستنادا الى هذا يمكن طرد غرائز التدمير من مملكة الثقافة بيسر تام، لأن مملكة الثقافة درجة من درجات نموّ الحضارة. هنا يربط فرويد تفسيره بنقطتين محددتين: البداية والنهاية. البداية هي وجود الدوافع الغريزية ونشاطها، أمّا النهاية فهي سبل الانتصار على نتائج نشاطات هذه الغرائز السلبية. فالغرائز لا تقبل الالغاء والمحو، أي لا يمكن إزالتها، أو كما يقال إجتثاثها. لكنها قابلة للتهذيب. تهذيب الدوافع لا يعني تغيير عناصر وجودها، أو تغيير مكوّناتها، وإنما يعني تهذيب مساراتها وسبل ظهورها وأشكال اتحادها بغرائز أخريات، لغرض تكوين علاقة ناجحة بالموضوع. أي تعديل اتجاهها من طريق التصعيد، الإيجابي. حتّى من يختلفون مع فرويد في قضية الغرائز، نرى أنهم قد لا يعارضون فكرته المتعلقة بسبل التغلب على الغرائز العدوانية. في هذه الدرجة من درجات المعالجة الاجتماعية تكون الثقافة عنصرا أساسيا في عملية تهذيب الغرائز العدوانيّة وتعديلها وتوظيف طاقات الإنسان حضاريا.
يقول فرويد: “من بين الخصائص السيكولوجية للثقافة تبدو اثنتان أكثر اهمية: تقوية العقل، الذي يبدا بالتحكم بالحياة الغريزية؛ وانعطاف داخلي للدوافع العدوانية. إن كل ما يدعم نمو الثقافة يفعل في الوقت نفسه ضد الحرب” (“أفكار لأزمنة الحرب والموت”، ص 58).
فالثقافة إذاً على خلاف تام مع الغرائز العدوانية التدميرية، وهذا أمر لا خلاف عليه. لكن علم الاجتماع لا ينظر الى ولادة الدوافع والى نتائج كفّ الدوافع فحسب. إن بحوث علم الاجتماع تسري على حقبة الممارسة كلّها، باعتبارها المرحلة الحيوية لتطبيق فاعلية الدوافع ونشاطها واقعيا. وهي الفترة الممتدة بين تحفيز نشاط الغرائز وسبل التفكير في كبحها ثقافيا. ماذا نسمّي المنتوج المادي والفكري السلبي، الذي يقوم المجتمع بإنتاجه في هذه الفترة؟ لو قدِّر لنا أن نسمّي المنتوج المادي والروحي البنّاء أو الإيجابي ثقافة أو حضارة، فماذا نسمّي المنتوج ذا الدوافع غير الخيّرة أو الشرّيرة، والمنتوج الذي يلبّي رغبة الدوافع العدوانية والتدميرية؟ إن السكين، كأداة للقطع، يمكنه أن يستخدم لتقشير رؤوس البصل، ولقطع رؤوس البشر في الوقت نفسه. فهل هذه الأداة، الصامتة، الجامدة، منتوج ثقافي أو لا ثقافي؟ إن الجواب هنا واضح: إن الأدوات ذوات صفات محايدة. وهذا صحيح تماما. ولكن هل المقصلة أداة محايدة؟ الجواب، كلا، لكنّ استخدامها يرتبط بمفهوم العدالة. أي أن غاياتها حضارية (كالاستعمار والحرب والغزو!)، لأنها وسيلة تنفيذ القانون وتطبيق مبادئ العدالة؟ وإذا استخدمها الطاغية؟ لا جواب هنا، لأننا سنعود ندور على أنفسنا ولا نصل الى نهاية. إن المقصلة، مهما تكن غاياتها، طبقا للمفهوم الفرويدي نفسه، الذي أضعفه فرويد عند المناقشة الاجتماعية، ليست سوى وسيلة من وسائل التدمير، سواء قطعنا بها رأس ظالم أم مظلوم، سواء جعلناها وسيلة للعقاب، أم احتفظنا بها في متحف للذكرى، أم قمنا بتلوينها وتزيينها وجعلناها أرجوحة للأطفال. ستظل المقصلة- كمنتوج أوّل- مخصصة لإرادة التدمير، أمّا تحسين صورتها، فلا يعدو أن يكون محاولة لتهذيب مسار الدوافع اللاحقة وتعديله، والذي لا يلغي أسباب صناعتها كأداة للاستعمال. من هنا نرى أن بعض الإنتاج المادي والروحي، الذي تقوم به البشرية من أجل الاستحواذ على الطبيعة وتسخيرها لخدمة الإنسان أو من أجل حقّ البقاء (الحياة)، قد يضطرها الى استخدام الدوافع العدوانية كوسيلة مساعدة للوصول الى هدف نبيل. وهذا طبيعي وسليم في نشاط الغرائز، أي في الفاعلية النفسية، لكنه قد ينقلب نقمة عند تحويله نشاطاً اجتماعياً. لهذا السبب حاول فرويد أن يجد تبريرا لبعض الحروب، التي رأى فيها نفعا حضاريا ما، لكنه رفض أخرى: حروب التتر والمغول، ذات الطابع التدميري الخالص، وهي المعضلة ذاتها التي اصطدمت بها الفلسفة في عصورها كافة. ففي أحوال كثيرة يخرج الدافع المساعد عن مساره ويتحول مساراً مستقلاً، يبتلع الدافع الأوّل ويحلّ محلّه، ويظل في الظاهر يحمل خطاب الأوّل الخيّر والطيّب، ولكن لإغراض عدوانية شرّيرة. هنا نجد أن كثيرا من النظريات الثورية، الإنسانية الخطاب، التي استخدمت العنف كوسيلة لتحقيق مفاهيم الخير والعدالة، أي التي استخدمت الدافع العدواني لصالح دافع الحياة، أضطرّت، جرّاء مزاولة العنف وإدمانه، الى تحويل العنف ممارسةً مستقلة، ونهجاً سلوكياً ثابتاً، يسري على مناحي الحياة كلها، بما فيها المشاعر والعواطف والأخيلة ونظم التربية والآداب والفنون. إن مجمل القيم الروحية والمادية المستخدمة في الحرب، بما فيها الأشعار والقصائد الحربية والتماثيل واللوحات والرقصات، نسيج فكري ومادي متكامل، جوهره العنف والتدمير، لا يمكن في أي حال أن نسمّيه لا شيء، أو أن لا نسمّيه على الإطلاق. حتى لو قدّر لنا أن نستبعده من مفهوم الثقافة، فسيظل هذا الإنتاج، وإعادة الإنتاج المرتبطة به (تمويه هوية المنتوج في مرحلة لاحقة من الاستخدام، كتحويل المقصلة وحبل المشنقة أرجوحة)، يشكل موضوعا تبادليا بين البشر، ويشكل منظومة محكمة من العلاقات والأفعال وردود الأفعال، لا بدّ لها أن تُحصَر في مصطلح، يحدد وظيفتها ومحتواها. وإذا كانت الثقافة محصورة في الجانب الايجابي، في الحياة، في الخير، فإن الشرّ نسيج ثقافي سلبي عظيم الحيلة والمهارة والمقدرة على التكييف والابتكار والتجدد؛ أمّا ارتباطه بالنوازع التدميرية والعدوانية، فلا يلغي منه مقدرته الإبداعية العالية في صناعة ذاته وإنتاجها وترقية فاعليتها على نحو يجعل الخير عاجزا، مرتجفا، مثل طفل خائف. إن الشرّ أكثر فطنة ودربة وإبداعا من الخير، في أحوال كثيرة، على الرغم من أن الخير أمل ضروري، يدركه البشر كلّهم، أشرارهم وأخيارهم.
الشرّ أنثى أم ذكر؟
من الحقائق التي يجهلها الإنسان، أو التي يجيد تجهيل نفسه بها، أن الشرّ بطبيعته أكثر إغراء وفتنة وجاذبية من الخير. لأن الخير طيب، مسالم، مستضعف، شحيح، منفّر، مكلف، وفي أحوال كثيرة قاس وصادم في صدقه، بينما يكون الشرّ ماكرا، جريئا، سخيّا، حشريّا، وقحا، عديم الحياء، قويّا في نظر الفرد، أو في نظر عامّة الناس، الذين هم في الأعمّ بين بين. لذلك اعتدنا أن نجعل المرأة الجميلة اللعوب أو الحيّة رمزا للشرّ. أما الصورة البشعة التي نرسمها له، فتعبر عن نتيجة الفعل، لا عن خصائص الفعل السلوكية وملامحه الحياتية اليومية. وهي صورة بشعة حقا، لكننا درّبنا أنفسنا جيدا على نسيانها حينما نجد أنفسنا بصحبته. فهو هنا مثل الموت، نعرفه جيدا ولا نرغب في تذكره، إلا حينما نقع فريسة له. المفارقة التاريخية هنا تكمن في أننا نؤنّث الشرّ الخفيّ، المصانع، المجهول الدوافع، لكننا نذكّر صورته السافرة، الهجومية! سبب ذلك يعود الى أن الفرد ينظر الى تطميناته الحياتية الراهنة، وليس الى ما سيأتي به الغيب، ينظر الى يومه وحاضره، وربما الى ساعته. وهذا ما يقدّمه الشرّ بكفاءة، يعجز عنها الخير، الذي يرتبط، جوهريا، بمستقبل الإنسان، بغاياته البعيدة، التي اعتدنا أن نسمّيها مثالية. فالشرّ أقرب الى النفس من الخير عند الممارسة، لأنه أقرب الى معادلات الحياة اليومية. لكن الخير أقرب الى النفس والعقل عند التفكير والتأمل وتذكّر العواقب. لهذا السبب نرى أن بعض خطواتنا (المتحضرة)، ممهورة بخاتم الشرّ، من حيث لا ندري.
إن العقل البشري على درجة عالية من التعقيد، وإن الغرائز البشرية، العدوانية والبناءة على حد سواء، أقل ميلا الى التوازن والانسجام الفطري والتلقائية قياسا بغرائز الحيوانات، التي يتمّ تنظيمها طبيعيا لغاية واحدة هي حفظ النوع والبقاء. إن غرائز البشر ترتبط عند الاستخدام بأشكال الملكية وبميول التسلّط والتنافس، وتفاوت المهارات والقدرات، وبالكراهية واللؤم والحسد والاستئثار، وترتبط بالمنتوج غير الحيواني، الفريد، والمتناقض، الذي اسمه الوعي. لذلك نرى سلوك الإنسان أكثر ميلا، أو جنوحا نحو الغائية الصناعية، والتجريبية والقصدية. إن السجون وسيلة عقابية شائعة ومعروفة. وهي منتوج حضاري حينما ننظر اليها على أنها طريقة تربوية لتنفيذ قوانين العدالة وتدريب المخطئين على سلوك السبيل الثقافي الأفضل اجتماعيا. ولكن كيف نفسر وجود معتقل جماعي على أرض تحتلها دولة أجنبية؟ التفسير هنا، هو أن القوانين الحضارية لهذا المجتمع لا تسمح بمثل هذه الاعتقالات، لذلك يُمنح القانون المحلي (الثقافة) إجازة (حضارية) إجبارية، حينما يتمّ تنفيذه على أرض أجنبية. بقدر ما ينطوي مثل هذا التبرير على احتيال واستهانة بإنسانية البشر، وبجوهر مفهوم العدالة، ينطوي أيضا على عناصر عديدة عدوانية المنشأ، معادية للطبيعة الإنسانية، أهمها جواز استخدام ما لا يجوز محليا، ولكن في أرض أجنبية. أي جواز وجود طبقتين حضاريتين، دنيا وعليا أولا؛ وثانيا: جواز استخدام الشرّ في الطبقات الدنيا، لأنها شريرة في جوهرها، أو أنها جزء من الشرّ في نظرنا. إن مثل هذه الأفكار شرّ خالص، لا يقبل التأويل. كيف نفسّر وجود سجون سريّة في بعض دول أوروبا الشرقية، التي كسرت توا من أصفاد الأنظمة المتهمة بخرق حقوق الإنسان؟ كيف فتحت أعرق دول أوروبا الغربية مطاراتها ومواقع احتجاز الرهائن فيها لتنفيد أعمال تتعارض مع قوانين تلك البلدان ودساتيرها؟ ولماذا تملك دولة ما سلاحا نوويا ولا تملكه أخرى؟ وإذا كان حقّ امتلاك سلاح نووي مشروع للدفاع عن النفس، فلماذا يحصر هذا الدفاع بشعوب ودول معينة؟ وإذا بررنا لهذه الشعوب هذا الحقّ لأسباب خاصة، فماذا تفعل دولة ما بترسانة رؤوسها النووية، التي تكفي لا لردع كلّ الأعداء المحتملين فحسب، بل لتدمير الأرض عشرات المرات!
إن الخير والشرّ، مفهومان فلسفيان وأخلاقيان، لكنهما منهجان للتفكير والتربية والسلوك أيضا. هما طريقان متعارضان يقتضيان من الوعي البشري الدفاع عنهما، كموضوع، أي كغاية بذاتها. وهذه الحاجة، النابعة من واقعية وجود المنهجين في الحياة، تعطي كلا الطرفين إمكان بناء منظومته الفكرية والروحية والمادية المكوّنة له. فإذا كان للخير والحب والسلام منظور ثقافي، فإن الشرّ والعنف والكراهية والعدوانية تملك نسيجها الثقافي أيضا. وهي بنية ثقافية قائمة طالما أنها تقيم صلات متبادلة مع الموضوع. وإذا كنا لا نستطيع فصل استخدام السكين الشرير عن الخيّر، لأنه أداة محايدة، تستخدم للغرضين، فهل يمكننا أن نحيّد مقالة أو قصيدة أو قصة أو لوحة تمجد الحرب والعنف والكراهية وتدعو الى إفناء البشر؟
هل يعتبر تعذيب الحيوانات لغرض تحقيق المتعة ثقافة أم لا ثقافة؟ وهل تعتبر احتفالات مصارعة العبيد والحيوانات المفترسة في التقاليد الرومانية جزءا من الثقافة الشعبية، أم من اللاثقافة؟ أيّهم يدخل في حقل إنتاج الشرّ: صانع السلاح وبائعه أم مشتريه ومستخدمه؟ أيّهم العارض وأيّهم الضروري؟ أيّهم المتحضر وأيّهم البربري؟ إنّ أسئلة علم النفس قد لا تجيب دائما عن السؤال الاجتماعي، إذا لم يتمّ ربطه ربطا مطاوعا، ومتناسقا، بمشكلات علم الاجتماع والأسئلة الوجودية الكبرى.
هل تنتسب هذه المشاعر المزدوجة الى الثقافة؟ وإذا كانت جزءا من الثقافة، فالى أيّ جزء منها تعود؟ أإلى الشرّ أم الى الخير، أم الى الخير والشرّ معا؟ هذه أسئلة لم تتمكن الفرويدية من حلّها، لسبب بسيط، لأنها ربطت مفهوم الثقافة قسرا بمفهوم الدوافع الغريزية، وأرادت أن تصنع ثنائية اجتماعية مماثلة، لكي تكون قوانينها النظرية شاملة – عقدة الايديولوجيات كلها – تسري عليها ثنائية التحليل النفسي: موت وحياة، تدمير وبناء، عدوانية ولذة، ألم وسعادة، وفي الأخير ثقافة ولا ثقافة. إن اللاثقافة، أي نفي العنصر الثقافي (فعل الحياة الإيجابي)، سواء أكان ممارسة فكرية أم مادية، يعني هنا إكساب “الموضوع” هوية سلوكية وانفعالية، فارغة، وخالية من المعنى. وهذا يخالف قواعد المنطق، ويصطدم شئنا أم أبينا بثنائية فرويد وبمنهجه أيضا، وقد يدفع به الى ما هو أبعد من هذا، الى ثنائية: بربرية ومدنيّة، كقطبين مركزيين في الصراع من أجل الاستحواذ على حرية الآخر، الأضعف، ومصيره. أي إعادة البشرية الى نقطة الصفر: تغليب مبدأ القوّة، البربري الغريزي النموذجي، ولكن باسم الحضارة هذه المرّة. إن تقسيم فرويد هذا، على الرغم من نبله، قد يلتقي هنا، في هذا الجانب الضيّق، مع المفهوم العنصري الاستعماري القاضي بضرورة إبادة البرابرة على يد رسل الحضارة المتمدنين، وهو سلوك مورس ضد اليهود في أوروبا، ومارسه المتطرفون الصهاينة أنفسهم ضد العرب في فلسطين ¶
ملحق النهار الثقافي