صفحات مختارة

طرق القراءة المعاصرة: إدوارد سعيد ضد جاك دريدا

ابراهيم سعيد
لماذا ينتقد إدوارد سعيد جاك دريدا ولأي سبب تنشب هذه المواجهة وهذا الاختلاف في طريقة القراءة؟ جاك دريدا وهو صاحب نظرية التفكيك الشهيرة عالمياً، وهو الشهير في الأوساط الأكاديمية الأمريكية التي رفعته عالياً حتى اضطرت فرنسا بعد تهميشها لدريدا إلى إعادة قبوله وتعميده وتبنيه، وإدوارد سعيد المختلف عن دريدا بأنه صاحب الاستشراق الشهير والقارئ الناقد المعاصر المواكب للحظة العالم، من الضروري أن نتبين هذا الاختلاف بين الرجلين وكلاهما قارئ ويعمل على القراءة، لكنّ لكل منهما منهجاً مختلفاً في الجذر واللب والثمرة، كما يوضح لنا الاقتباس اللاحق. يقول إدوارد سعيد في كتابه ( الأنسنة والديمقراطية ترجمة فواز طرابلسي):
( إن تفادي هذه العملية – القراءة المقربة ـ في تحمل المسؤولية الرفاقية النهائية عما يقرأه المرء هو ما يفسر في اعتقادي القيود المعطلة الكامنة في منوعات القراءة التفكيكية على طريقة دريدا، وهي قراءات تنتهي مثلما بدأت في اللاقرار واللايقين).
ينتقد إدوارد في القراءة التفكيكية على طريقة دريدا انعدام النتائج حيث تنتهي القراءة في موضع اللاقرار واللايقين، متفادية تحمل المسؤولية النهائية عما يقرأه المرء، وفي نفس الوقت مبرزة القيود التي تعطلها وتكمن فيها، إن التفكيكية كمنهج في القراءة ينتج قراءة تحتاج نفسها إلى إعادة قراءة، إصبع إدوارد سعيد يشير إلى معضلة القيود والنتائج في ( منوعات) التفكيكية.
2.
مترجم كتاب جاك دريدا ( أحادية الآخر اللغوية) للعربية الدكتور عمر مهيبل، له رأي يمكن أن يكون أكثر إيضاحاً لفكرة إدوارد سعيد التي نتناولها هنا حيث يقول حول لغة دريدا أنها ( اللغة الباحثة عن انسجامها داخل غرائبية لفظية متعبة، مرهقة تكاد أن تجعل من الإنسان رمزاً ضمن قائمة مرموزاتها الكثيرة)، أما فعل كتابة تلك اللغة فـ ( الكتابة الغرائبية عند جاك دريدا التي لا هم لها سوى البحث في انسجامها الأفقي الشكلاني، وإن لجهة المضامين التأويلية والأنطولوجية الكامنة في أعماقها الراكدة)، كتابة همها هو الانسجام الأفقي الشكلاني، الخارج من المضامين التأويلية ولنلاحظ هنا الصفة التشخيصية ( الكامنة في أعماقها الراكدة) إنها نفس الأعماق الراكدة التي وصفها إدوارد سعيد بالقيود المعطلة، هكذا لأن جاك دريدا نفسه تائه، يكمل عمر مهيبل ( تاه دريدا في ز زواريبس المعنى والدلالة لأنهُ اعتقد، في لحظة ما، أنه يملك القدرة على إحداث معنى ودلالة من خارج المعنى الممكن بل من خارج اللغة). هذا هو رأي مترجم شجاع لهُ هدف معرفي أسمى من ترويج كتابٍ على حساب القارئ حتى لو لم يقرأه، وهو بالطبع لا يتطابق مع مترجمي دريدا الآخرين الذين لا تخلو مقدماتهم من محاولة خلق الإطار التنظيري لجاك دريدا وللتفكيكية وللاخـ (ت) ـلاف.
والمقدمة التي كتبها عمر مهيبل لأحادية الآخر اللغوية كافية في حد ذاتها للتعرف على هذا العمل المضني الذي يبذله القارئ الأول من أجل الإلمام بتلك التعريجات الملتفة والملتوية لأسلوب جاك دريدا، فعل قراءة الـ (قراءة) المنهك المتعب، يوضح عمر مهيبل رأيه في جاك دريدا مستعيناً بترجمته من قبل لكتاب جان غراندان الذي يذكر أن دريدا يعرف التفكيكية بأنها( أكثر من لغة) و( التفكيك لا شيء بما أنهُ يحيل إلى لا شيء، وكل شيء بما أنه يحيل إلى لا شيء)، ويرى غراندان أن ذلك كله ليس إلا استفزازاً لغوياً سعى دريدا من خلاله للتموقع داخل البنية الثقافية الفرنسية بالرغم من أنهُ كان يمارس فعل التفكير على تخومها.
لا يغفل مهيبل عن اتهام أكثر خطورة في قوله (تساؤل هام آخر وهو علاقة تفكيكية دريدا باليهودية، الأمر الذي كان قد أشار إليه كل من أمبرتو إيكو وعبد الوهاب المسيري).
لقد تبنت تفكيكية دريدا واختلافه فعلاً لم يكن إلا استفزازاً لغوياً على رأي غراندان، والتفكيكية حملت داخلها القيود المعطلة والمياه الراكدة، وفككت الوحدة حتى عجزت عن توحيد تفكيكها نفسه، والاخـ (ت) ـلاف كما ترجمه كاظم جهاد وقع في أحضان ما كان يحاول الاختلاف عليه، والتفكيكية التي اعتقدناها شيئاً ووقعنا في أحابيل إغوائها ردحا لم تكن شيئاً، التفكيك بتعريف دريدا أعلاه مجرد لا شيء يحاول أن يفسر شيئاً، فهل يكون ذلك عجباً في عالم يعتمد إعلامه الاستهلاكي على إثارة اللاشيء بوصفها قمة الإثارة!!.
3.
يعيدني نقد إدوارد لدريدا إلى النقد الشهير الذي كان فيلسوف العلم كارل بوبر قد وجهه للفيلسوف يورغن هابرماس حينما انتقد لغته المغلقة مطالباً إياه بلغة أكثر بساطة ووضوحاً، فكارل بوبر اليهودي البريطاني وإدوارد سعيد الفلسطيني الأمريكي يتفقان على لغة الكتابة التي يسميها سعيد بفعل المقاومة (ما هي اللغة التي يجب استخدامها في المقاومة؟ أما جوابي فهو ببساطة الدعوة إلى تفادي الرطانة القابلة لتنفير جمهور واسع مستطاع كسبه.)
على أن نقد إدوارد سعيد لدريدا لا يغفل عن استخراج فائدة من تلك الإثارة الدريدية: ( لا شك أن استخراج المراوحة والتردد من كل أنواع الكتابة مفيد إلى هذا القدر أو ذاك، مثلما هو مفيد أن نتبين مع فوكو أن المعرفة إنما تخدم السلطة في نهاية المطاف)، لكن ما هي نتائج ذلك على القراءة الفعلية الممارسة من قبل القراء، ماذا عن شعبية القراءة كفعل ونحن نرى ونسمع حالة إغلاق المكتبات وقلة القراء؟، يكمل إدوارد سعيد أن الطريقتين الفوكوية والدريدية في القراءة تؤجلان إعلانا هاماً لصالح القراءة: (على أن كل البديلين يؤجلان إلى أمدٍ طويل إعلان أن القراءة ربما تكون أساساً فعل تحرر وتنوير إنسانيين، ربما كان إعلاناً متواضعاً غير أنهُ يعزز معرفة المرء لأغراض غير الاختزال والعدمية والحياد المجدب).
القراءة فعل تحرر وتنوير إنسانيين، طريقة وطريق للوصول إلى الغاية المعرفية التنويرية والتحررية بالتالي، القراءة هي الحرز السري والذي يجب تفعيله للحفاظ على الحياة من جيوش السلطات التي تهاجم الفكر، محاولة حازمة ومصممة بأهدافها الحيوية على الحفاظ على حياة الجمال على الأرض.
4.
قراءة الواقع الفكري المعاصر وإعلان الحرب:
( إن ما يجري الآن في مجتمعنا زوينطبق معه على معظم العالمس هو هجوم على الفكر ذاته ناهيك عن الديمقراطية والبيئة والمساواة تشنهُ قوى العولمة والقيم النيوليبرالية والجشع الآقتصادي ز السوق الحرةس اللاإنسانية ناهيك عن الطمع الاستعماري. إن الفكر الأنسني يجب أن يقدم البدائل المسكوت عنها الآن أو المحجوزة في قنوات الاتصال التي تسيطر عليها شركات كبرى إعلامية.
تنهال علينا صور معلبة للعالم تغتصب الوعي وتكبح النقد الديمقراطي مما يوجب على المثقف الانسني تكريس نشاطه لتخريب وتفكيك عوامل الاستلاب حسب مِلز).
إعلان الحرب الذي يذيعه إدوارد سعيد كتابة يؤكد على أن العالم ممثلا ً في ( العولمة والقوى النيوليبرالية والسوق الجشع والأطماع الاستعمارية) كلها تقودُ جيوشها المالية والإعلامية المدججة بالأفكار البراقة الملمعة السهلة والسريعة وقاعدة (المصلحة) ضد الثقافة الأنسنية، عبر مهاجمة إنتاج وأفكار أفرادها المختلفين عن المجتمع النموذجي، لتحويل العالم إلى مجتمع الصفر المستقر بدلا من واقع الطبيعة التفاعلي؛ موجات سيول هادرة من برمجة العقول والأدمغة المنظمة تنصب على المتعلمين والجهلة لخلق حالة واحدة ووحيدة للحياة، المطلوب من الانسانية العيش كالأميبيا من أجل تضخم رأس المال الذي بدأ ينفجر بذاته ويختنق من فرط بدانته.
ثقافة إعلامية جديدة على صحون هي مغلفات جسدية جميلة لها حضور إعلامي في كل وأي لحظة عبر الإنترنت والتلفزيون والهاتف النقال فضلا عن الصحف والمجلات والكتب ذاتها لتعزف على ناي واحد ووحيد بنغمة واحدة (سي) في بروفات العرض العسكري العالمي، لتزيح أخبار العالم الحقيقية عن أذهان جمهورها العريض الواسع المتنامي باطراد مخيف.
( لا ريب أن الوهم التجريبي الذي هو معيار الإعلام المعاصر في العالم لم يكن مرة بالقوة التي هو عليها اليوم حيث تستدعي المواجهة المباشرة مع الواقع مقداراً من الصعوبة بل المجازفة وتستحق الثناء لهذا السبب بالذات)، ذلك الهجوم العالمي الكاسح بفكره الواحد يستدعي ردات فعل ثقافية فردية يمثلها الآن المثقف الانسني الذي يؤكد خروجه على النمط القهري العام، ويؤكد بقاءه وسط الحرب الفكرية التي تشن على حصون المعرفة التقليدية (الجامعات) ينادي من داخل وخارج الجامعات ضد حملة التنميط والقولبة الإعلامية السطحية للجماهير لفائدة رؤوس الأموال العابرة للفضاء، وهي نفسها الحملة التي تولد مجتمعات مرعوبة تنتظر إعلان الحرب عليها في أي لحظة، فتهرع إلى مواقعها التقليدية وحصونها الدينية القديمة، رافضة التجاور والتقدم منكفئة على نفسها وذاتها وكينونتها معتدةً بأوهام قديمة سرعان ما تهتز نماذجها وتقع في وحل الحيص بيص.
5.
الأنسنية عند إدوارد سعيد:
يطرحُ إدوارد سعيد في كتابهِ الانسنة والديمقراطيةس تقريباً للأنسنية يقول فيه ( الأنسنية هي إلى حد بعيد حركة مقاومة للأفكار المسبقة وهي تعارض كل أنواع الكليشيهات واللغات غير الفاكرة)، الأنسنية بهذه الصفة لغة فاكرة، تبني لغتها على فعل التفكير وليست مجرد كليشيه وشعار أو ماركة لعبارة مسجلة في منتج أيا ما كان ذلك المنتج، أي أن الأنسنية أداة لغوية تميز أضدادها وتقاوم تلك الأضداد بنوع من القراءة الناقدة (الفاكرة)، هذه اللغة تقوم بنقد السائد والسابق المرسل وتقاوم الاستلاب له، وهي تفعيل لدور النقد بوصفه فعل وعي واستيعاب وبناء مختلف. ويقتبس إدوارد من ليو سبيترز قوله: على القارئ الباحث الأنسني أن يعمل انطلاقاً من السطح نحو المركز الحياتي الجواني للعمل الفني؛ وهذا الاقتباس يبين دور هذا الأنسني الناقد والمؤلف الأدبي.
الأنسنية فعل مقاومة ونقد داخلي للمركز، نقد العمل الفني جوانياً، تنتج الأنسنية فكراً له سماتٌ واضحة ( إن الفكر الأنسني يجب أن يقدم البدائل المسكوت عنها الآن أو المحجوزة في قنوات الاتصال التي تسيطر عليها شركات كبرى إعلامية)، تقديم ما تسكت عنه قنوات الاتصال الشعبية والمنتشرة والتي تعمل موظفة لدى الشركات الكبرى لتبث رقاها على الفرد طول العمر، من المهد إلى اللحد؛ الأنسنية تسعى لطرح البديل المسكوت عنه في وسائل الإعلام تلك، وإظهار النسخة المخبأة من الفعل، لإنتاج أنسني يبنى أساساً على هذه الأنسنية بما هي بشرية وإنسانية، يقرأ الخطاب والأفكار السائدة التي تؤثر عليه وعلى عالمه.
6.
منزل الأنسنية
( المنزل المؤقت للمثقف هو حومة فن متطلب مقاوم غير مساوم لا يمكن للأسف أن ينسحب إليه المرء ويبحث فيه عن حلول. على أنه فقط في حقل النفي الهش ذاك يستطيع المرء حقاً أن يقبض على صعوبة ما لا يمكن اكتناهه، وأن يقدم من ثم على محاولة اكتناهه على الرغم من ذلك). إدوارد سعيد.
حين يعود إدوارد ليتحدث عن المثقف في منزله المؤقت يقوم بإثبات وتد المفارقة القائم في المنزل المثقف، وتد الإشكال بين ما لا يمكن اكتناهه وضرورة الإقدام على اكتناهه؛ هذا المنزل أيضاً هو منزل الفكر الأنسني، الأنسنية التي يستعير لها إدوارد سعيد عبارة بلاكيمور في موضع آخر عن الحداثة: تقنية شغب؛ ويعيد تعريف واجبها في واجب المفكر بها ( واجب المفكر الانسني في التنوع الداخلي والخارجي وعدم التموقع).
هنا تصير الأنسنية حومة الفن، وهي في ذاتها المنزل المؤقت بوتد مفارقته المستمر، من جديد يجد المثقف الأنسني نفسه في بقعةٍ مؤقتة يقاوم بفعل الكتابة والقراءة في خضم البحر الإعلامي الزاخر بالكميات الهائلة من المعلومات المنزوعة من سياقاتها، والمعفاة من قرابتها مع الواقع، ليقوم المثقف الأنسني بإعادة إدخالها في الواقع وربطها إلى أوتادها وإعادتها إلى منازلها المفهومة التي يقتضيها السياق الواقعي، لكن مع ثمن باهظ.
7.
ثمن الأنسنية
( علينا أن نمارس نمط تفكير متفارق paradoxal (حيث doxa تعني الأفكار السائدة
( وهو نمط لانطوائه على التشكيك في الحس السليم والمشاعر السامية في آنٍ معاً، يخاطر بأن يظهر في عيون الناس المستقيمين على جانبي المعادلة. إما أنهُ موقف يستلهم الرغبة في صدام البورجوازيين أو أنه موقف اللامبالاة المفرطة تجاه عذابات البشر الأكثر حرماناً في مجتمعنا.)
هذا هو الثمن الذي لا بد أن إدوارد سعيد دفعه لقاء مقاومته وعدم انجرافه، ولنلاحظ أنه ثمن مدفوع لطرفين مختلفين هما البورجوازية والطبقة المسحوقة (البشر المعذبين)، أي أنه ثمن مدفوع لطرفي النزاع الأساسي كليهما، على جانبي المعادلة الفاعلة، على الضفتين يبدو المثقف الأنسني ونمط تفكيره المفارق متهماً في ضفة البورجوازية بسخافة الهدف والتنطع، وفي ضفة الآلام باللامبالاة!، مفارقة مؤلمة إذ لا جماعة يلجأ إليها المثقف الأنسني تحميه من اتهامات الضفتين، بل يقف وحيداً وعارياً وبمنزل مؤقت.
لكن رغم ذلك الثمن المكلف والمدفوع طوعاً لأن الدافع الأساسي هو الوعي بما يمثله هذا الفعل في السيرورة العامة للعالم (النزعة الانسنية هي الوسيلة ولعلها الوعي الذي نتزود به لتوفير ذلك النوع من التحليل التناقضي أو الطباقي بين فضاء الكلمات وبين أصولها وأنماط انتشارها المختلفة في الحيز الفيزيائي والاجتماعي من النص إلى ميدان الاستحواذ والمقاومة إلى البث إلى التأويل والقراءة ومن الخاص إلى العام ومن الصمت إلى الشرح والتعبير. لنعود أدراجنا حيث نلقى صمتنا والغنائية).
الصمت والغنائية هما الترويح الذاتي والملجأ الشخصي والتسلية الأنسنية لهذا الوعي الشقي، وللمفارقة في المنزل المؤقت وفي الواجب المتحرك باستمرار والثمن الباهظ؛ يكتفي الباحث الأنسني بتلك الغنائية وذلك الصمت الذي هو المنزل المؤقت نفسه، صمت وغنائية هما المنزل الأنسني لكل تلك المكابدة، وفي الصمت والغنائية تعزية وأمل، مبنية على أن الفعل الانسني ليس سقوطاً ولا وهماً.

‘ إبراهيم سعيد
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى