طريق السياسة المسدود
برهان غليون
وصل النقاش الدائر حول الدولة منذ أكثر من ثلاثة عقود في العالم العربي إلى طريق مسدود، لسببين غموض مفهوم الدولة ذاته أو تشوشه، والمطابقة المتزايدة في ذهن الرأي العام، في السياق الاستعماري وما بعد الاستعماري لظهورها، بين الدولة والهوية الجمعية، الدينية أو الإتنية أو الثقافية.
هكذا، عندما يتحدث الاسلامي المعاصرعن دولة إسلامية فهو يقصد في الواقع ما تسميه الأدبيات الفقهية الكلاسيكة، الإمامة. وهي تعنى بشروط تنصيب قائد الجماعة المسلمة، صفاته وطريقة اختياره، وحقوقه على الرعية وحقوق الرعية عليه. وليس لهذه الدولة المجسدة لنظرية الإمامة، أو بلفظ آخر الخلافة، والتي تتعلق بسلطة الامر، أي بتعيين من يستحق احتكار القرار العمومي، أي علاقة في الواقع بالدولة المؤسسة التي يتحدث عنها الليبرالي أو المتأثر بالفكر الليبرالي في عصرنا، والتي تنبع فكرتها أساسا من معارضة احتكار القرار العمومي من قبل فرد مهما كان. فالفكر الليبرالي يرى غاية الدولة في حفظ الحريات الفردية، ويعتقد أن حفظ هذه الحريات لا يتحقق إلا بفصل السلطات، وأن هذا الفصل هو أساس قيام بنية مؤسسية ترفع الدولة عن أهواء الأشخاص الذين يتقلدون مناصب القرار والمسؤولية فيها، وتمكن الأفراد من المشاركة في القرارات العمومية والولاء لقانون الجماعة، وتزيد بالتالي من نجاعة السلطة العامة واستقرارها وديمومتها. فهي نظام لاتخاذ القرار العمومي يجمع بالضرورة بين سلطة مركزية منتخبة ومجتمع يخضع لها بمقدار ما يشرف عليها ويضبطها ويخضعها لقيمه ومعاييره وحاجاته. وهذا ما دفع إلى تسميتها في النظرية الحديثة بالدولة الأمة التي تستمد السلطة فيها سيادتها من الشعب ولا تستمر إلا بفضل الشرعية التي تؤمنها لها الانتخابات أو الاستشارات الدورية. وبمقدار ما تجسد الدولة هنا إرادة المجتمع، وتعبر عن خياراته الممثلة في الأغلبية، فهي تنظر إلى نفسها على أنها دولة المجتمع، والمسؤولة الأولى عن تنظيم شؤونه وضمان حقوقه، والتنسيق بين المصالح المتباينة فيه، وتحقيق غاياته لا غايات فئة أو طبقة أو نخبة خاصة منه، سواء أكانت نخبة دينية أو ارستقراطية أو قبلية أو حزبية.
ويختلف الأمر عن ذلك عند أصحاب النظرية الماركسية الكلاسيكية التي ترى في الدولة أداة منفصلة بالضرورة عن المجتمع وقائمة فوقه تكاد وظيفتها تقتصر على إعادة إنتاج السيطرة الطبقية، وبالتالي إخضاع الطبقات الدنيا للطبقة السائدة والمالكة. وهذا ما يجعل من الدولة في نظر هؤلاء التعبير عن الاستلاب السياسي الذي تعيشه المجتمعات ما قبل الشيوعية، الناجم هو نفسه عن الانقسام الطبقي الذي يمثل البنية الأساسية للمجتمعات حتى وقتنا الراهن. والسياسة ليست في هذا المنظور شيئا آخر سوى تحقيق الدولة لوظيفتها، أي إخضاع طبقة لطبقة أخرى وتعزيز سيطرتها عليها. وهو ما قاد إلى دولة الحزب الواحد وديكتاتورية البروليتاريا الشهيرة، التي قامت وترسخت، في البلدان التي انتصرت فيها هذه الفلسفة، بالرغم من تركيز الماركسيين على أن التحرر الانساني، الفردي والجماعي، مربوط بتلاشي الدولة أو انطفائها. وقد عبر ماركس عن ذلك بجملة مشهورة يقول فيها إن نهاية حقبة الانقسام الطبقي داخل المجتمعات سوف تشهد ولادة تنظيم اجتماعي تحل فيه إدارة الأشياء محل حكم الأشخاص. فالإدارة ترتبط بتنظيم شؤون المجتمعات المادية أما الحكومة فهي تعمل على إعادة إنتاج انقساماتهم الطبقية، أي سيطرة طبقة على طبقة أخرى، من خلال تنظيمات تتجاوز الأشياء وتدخل في شؤون الأفراد والأشخاص العيانيين.
وأكثر من ذلك، هناك اليوم من يعتقد أن وجود الدولة نفسه لم يعد ضروريا من أجل قيام مجتمعات إنسانية منظمة ومتسقة ومنتجة، ومن الممكن، بل والضروري، كما يرى ديفيد فريدمان، استبدالها بوكالات خاصة تقدم خدماتها “السياسية” للأفراد، تماما كما يحصل في الخدمات والمنتجات الأخرى التي يتعامل بها السوق. ولا يبتعد فكر فريدمان الفوضوي الجذور كثيرا في الواقع عما نادت به بعض أطروحات اليمين النيوليبرالي، التي سيطرت في العقود الماضية، قبل الازمة المالية الكبرى، والتي نزعت إلى تجريد الدولة من وظائفها الاجتماعية والاقتصادية والتربوية، وتعميم علاقات السوق على جميع أنواع الخدمات من قضاء وبريد وشرطة وأمن. وكان الانتربولوجي الفرنسي بيير كلاستر قد بين، في سياق آخر، أن الدولة ليست ضرورية لوجود السياسة، وأن غيابها، من حيث هي سلطة مركزية مهيمنة، وتراتب للسلطات، ومؤسسة متميزة ومنفصلة عن المجتمع، لا يفضي بالضرورة، كما بينت دراسته لمجتمع الاسكيمو، إلى غياب وظيفة التنظيم والتنسيق والتفاعل والتوحيد داخل المجتمع، ولا يترك هذا الأخير في فوضى عارمة.
ثم إن كثيرا من الدول التي نعرفها والتي ظهرت في الخمسين سنة الماضية أو أكثر، على أثر انحسار الموجة الاستعمارية، ليست جميعا دولا بمعنى واحد، حتى لو أنها استلهمت غالبا النظرية الليبرالية الشائعة. فالقليل منها من يقترب من النموذج النظري أو يسير في اتجاه تحقيق مشروع الدولة الحديثة. أما غالبيتها فليست في الواقع دول إلا بمعنى مجازي، أو شكلي. فهي إما ناقصة التكوين أو غير منجزة أو غير مستكملة لشروطها، وقسم كبير منها يسمى اليوم دولا مجهضة أو فاشلة.
لا يكفي الحديث إذن عن الدولة ولا الاعتداد بوجود سلطة مركزية موحدة وقاهرة. وإذا أردنا التقدم خطوة ولو صغيرة، على طريق حل أكبر قضية تقسم رأينا العام وتشتته اليوم، لا بد من تحديد طبيعة الدولة التي نتحدث عنها عندما نضع وجها لوجه ما نسميه أو يسميه بعضنا اليوم دولة إسلامية في مقابل دولة حديثة، أو دولة قومية أحادية الفكر والسلطة مقابل دولة ديمقراطية. وإذا كنا نقصد بالدولة مجرد وجود سلطة مركزية تنجح في إخضاع المجتمع لأمرها، بصرف النظر عن الوسائل المستخدمة، أي مهما كانت بدائية هذه الوسائل، وبصرف النظر عن رأي الأفراد وإرادتهم، فلن يكون هناك فرق بين الدولة السلطانية التي سيطرت على تاريخنا الماضي، وشكلت جزءا أساسيا من تراثنا السياسي بالفعل، وبين الدولة الحديثة الوطنية أو المواطنية. لكن في هذه الحالة سنظل ندور في حلقة مفرغة ولن نصل إلى أي نتيجة. والأمر يختلف عندما نعني بالدولة تلك المؤسسة الجامعة، التي أنتجت مفهوما جديدا للسياسة في العالم الحديث، وكانت إطارا لتكوين أمم هي اليوم في طليعة الشعوب الناجحة والمنتجة والمبدعة، أعني الدولة التي تقوم فيها السلطة على مشاركة جميع أعضاء الشعب، وتعمل لصالحهم، وتستمد شرعيتها من رضاهم وقبولهم وتأييدهم. وهو ما يستدعي وجود مجتمع سياسي مكون من مواطنين أحرار ومتساوين هم أدوات السياسة وغايتها. في هذه الحالة ينبغي أن نقبل أن دولة الحرية والاستقلال والتقدم والانتاج لا يمكن أن تقوم من دون أفراد أحرار، مستقلين في الرأي وفي السياسة، مكونين ومؤهلين للعمل والانتاج والابداع، أي من دون غرس قيم الحرية والسيادة والعمل والمسؤولية. مما يساوي في بلادنا ثورة ثقافية جديدة. وهذا ما نهرب منه غالبا، للأسف، من وراء شعارات دينية أو قومية أو ديمقراطية تكاد تكون ألفاظا فارغة.