حول غياب ثقافة المشاركة السياسية
د. رشيد الحاج صالح
لا شك أن غياب «ثقافة المشاركة السياسية» عن الحياة السياسية العربية، وتهميش فئات واسعة من المجتمع عن العمل السياسي العام، أمر لم يعد مقبولاً، ومشكلة لا يدرك الكثير منا تداعياتها ونتائجها الخطيرة، لدرجة أنهم أخذوا يتهمون المجتمع العربي بالتقاعس واللامبالاة والانشغال بأحواله الشخصية.
ولا نغالي إذا قلنا إن ذلك الغياب يكاد يكون المعضلة الأصعب، التي تحول دون قيام السياسة بدورها الحقيقي في بلداننا العربية. لدرجة أن الساحة العربية تتناهبها، إما الفئات المرتبطة بالسلطة السياسية، أو الفئات الممثلة للرموز التقليدية والزعامات الدينية والطائفية والعشائرية.
جدير بالذكر، أن غياب المشاركة السياسية عن الثقافة العربية المعاصرة، هو غياب طارئ، وليس قديما، لأن الذي يعود إلى أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، يجد بأنه كان لمؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية والبرلمانات الديمقراطية آنذاك، دور كبير في الحياة السياسية. فمشاركة الناس في الحياة السياسية، كانت مشاركة فاعلة، بحيث يعتقد كل شخص أنه معني بشكل كامل بمستقبل بلاده.
غير أن فترة العمل السياسي الحر لم تدم طويلاً، بسبب احتكار غالبية السلطات العربية الفتية للحياة السياسية، ومنعها للعمل السياسي المفتوح، وحصره في حدود الولاء لها.. الأمر الذي أدى إلى تسييس المؤسسات والأحزاب والمنظمات السياسية، وتحويلها إلى مؤسسات شبه رسمية أولاً، وإلى إفراغها من مضمونها الاجتماعي والسياسي ثانياً. وقد أدى هذا التسييس إلى عزوف فئات واسعة من المجتمع عن العمل السياسي، واكتفائها بمتابعة السياسة من خلال شاشات التلفاز.
إن احتكار غالبية السلطات العربية للعمل السياسي، أثر سلباً على الحراك السياسي المثمر والإيجابي، وأوقع المجتمع العربي في مشكلات سياسية، هو في غنى عنها. وهذه المشكلات هي:
أولاً – إن حرمان الناس، ولاسيما الشباب، من المشاركة السياسية الفاعلة، يعني ترك أولئك الشباب عرضة لتأثير الإسلام السياسي المتطرف المتنامي والقوى التقليدية في المجتمع. فالحرمان يؤدي إلى تنامي الشعور باليأس والإحباط، وإلى البحث عن حلول غيبية وعاطفية، تتناسب مع وعي الناس المحدود، المتكون في ظل مناخ سياسي مغلق.
ثانياً – تحوّلَ العمل السياسي إلى نوعين: علني وسري. العمل السياسي العلني ترعاه السلطات الرسمية، وتقدم له كل الدعم. أما هدفه الأساسي، فهو التسويق للسلطة، بحيث تصبح الأحزاب والمؤسسات السياسية مجرد ذراع تؤدلج به السلطة المجتمع، وتخضعه لأهدافها ومصالحها، لدرجة أن هذا العمل يكاد يتطابق مع السلطة.
أما العمل السري، فقد تنامى في ظل مناخ سياسي يعاني من اليأس والتهميش، بحيث بدأت بعض الفئات في البحث عن الخلاص، بالرغم مما في هذا العمل من مخاطرة، تعرضه للقمع والملاحقة من قبل السلطات. أما الفئات التي غامرت في تحدي السلطة السياسية فهي: أحزاب الإسلام السياسي، النزعات الطائفية والإقليمية والزعامات التقليدية. ولعل ما يجمع بين تلك القوى هو: الانغلاق المعاكس، التعصب، الماضوية، الدفاع عن كل ما هو تقليدي. غير أن بدايات القرن الحادي والعشرين سجلت قدراً من «التسامح المحدود» من قبل السلطات تجاه هذا العمل السرّي، وهو تسامح أُجبرت عليه السلطات بسبب تنامي القوى الدينية والطائفية والعشائرية على الساحة السياسية.
ثالثاً – أما أهم مشكلة أفرزها غياب ثقافة المشاركة السياسية، فهي تلاشي ثقافة المواطنة، وغياب التداول السلمي للسلطة. فالناس ليس مطلوبا منهم لا مشاركة ولا رأي، وإنما الطاعة والولاء، بحيث تحوّل المجتمع إلى مجرد رعايا، سواءً من وجهة نظر السلطة السياسية، أم من وجهة نظر القوى التقليدية والدينية والطائفية، لدرجة أن العمل السياسي في ظل هذا المناخ السياسي انتهى إلى نوع من البحث عن «الوجاهة» والتفاخر الاجتماعي.
وعلى ذلك فإن غياب ثقافة المشاركة السياسية، ناتج عن أسباب سياسية تتعلق باحتكار الأنظمة للعمل السياسي بغية التعبئة من جهة، والتهميش من جهة ثانية.. وأسباب اجتماعية تاريخية تتعلق بسيطرة الفئات الدينية والطائفية على الساحة السياسية غير العلنية.
ولذلك لابد من الوعي بهذا الوضع لكي نتمكن من تكوين قيم سياسية رافضة للخرافات التي تحاك حول «غياب ثقافة المشاركة السياسية» في المجتمع العربي المعاصر.
كاتب من سورية
أوان