إساءة فهم تركيا العدالة والتنمية
د. بشير موسى نافع
في 11 كانون ثاني/يناير الحالي، استدعى نائب وزير الخارجية الإسرائيلي، داني يعلون، السفير التركي في الدولة العبرية، أحمد أوغوز جيليكو، للقائه في مكتب الأول بالكنيست الإسرائيلي. ذهب السفير التركي المخضرم إلى موعد اللقاء بدون أن تكون لديه أدنى فكرة عن الموضوع الذي يرغب نائب الوزير الإسرائيلي في مناقشته. العلاقات بين البلدين ليست على مايرام، على الأقل منذ مغادرة رئيس الوزراء التركي، الطيب رجب إردوغان، ندوة في دافوس قبل أكثر من عام، احتجاجاً على حديث للرئيس الإسرائيلي شمعون بيريس.
ويبدو أن حلقة لمسلسل تلفزيوني تركي شهير، تبثه محطة مستقلة، تناولت بشاعة السلوك الإسرائيلي ضد المدنيين الفلسطينيين، قد أثارت أوساط الحكم الإسرائيلي ودفعت يعلون إلى استدعاء السفير التركي وتوجيه الاحتجاج على العمل الدرامي. ولكن يعلون كان يخطط لما هو أكثر من الاحتجاج؛ كان يخطط في الحقيقة لتوجيه إهانة صريحة للسفير التركي ودولته. عمل يعلون على أن تعقد الجلسة في مكتب رتبت مقاعده بحيث يجلس السفير التركي على مقعد أقل ارتفاعاً من مقعد المسؤول الإسرائيلي ومساعده، وعلى أن يبرز العلم الإسرائيلي في المشهد، بدون أن يكون هناك علم تركي؛ كما حرص على أن تبلغ طواقم الإعلام بأن تظهر صور اللقاء الترتيبات المهينة للسفير.
مثل هذا التصرف الذي قام به نائب الوزير الإسرائيلي ينم عن سلوك عصابات وليس عن سلوك دول، ولا حتى في حالة التعبير عن الاحتجاج الدبلوماسي الشديد. هذا، فوق أن الدولة التركية ليست مسؤولة، بأي حال من الإحوال، عن محطة تلفازية مستقلة، ولا عن عمل درامي، أعده ونفذه كتاب وفنانون أتراك مستقلون. والأهم، أن البرنامج التركي يعكس بالتأكيد جانباً من السلوك الإسرائيلي المعروف على نطاق واسع ضد المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين (بل وكل الشعوب التي خاضت دولها حرباً ما ضد الدولة العبرية). أثار تصرف نائب الوزير الإسرائيلي ردود فعل واسعة النطاق في تركيا، وداخل كل الأوساط السياسية، إضافة إلى استهجان واستغراب عالميين. وسرعان ما وجه الرئيس التركي إنذاراً للحكومة الإسرائيلية بالاعتذار الرسمي خلال فترة محددة، أو أن يسحب السفير التركي. للحظة، بدا أن حكومة نتنياهو عاجزة عن فهم ما يحدث، ولكنها في النهاية تقدمت إلى أنقره بالاعتذار. خلال أيام، كان وزير الدفاع الإسرائيلي، أيهود باراك، يصل العاصمة التركية في زيارة خطط لها مسبقاً، واستهدفت أصلاً محاولة تنقية العلاقات المتوترة بين الدولتين. كان باراك يدرك أن مهمته ازدادت تعقيداً بفعل المقابلة المهينة للسفير التركي؛ وقد سعى إلى أن تشمل زيارته لقاء برئيس الوزراء أو رئيس الجمهورية التركيين. ولكن كلاهما اعتذر عن اللقاء، واقتصرت الزيارة بالتالي على اجتماع بين باراك ووزير الخارجية أحمد داوود أوغلو.
في 22 كانون ثاني/يناير، أصدرت المحكمة الدستورية التركية قرارها في قضية شغلت الرأي العام التركي منذ شهور. ففي حزيران/يونيو الماضي أقر البرلمان التركي مشروع قانون تقدمت به حكومة إردوغان، يتضمن محاكمة العسكريين أمام محاكم مدنية في القضايا التي تتعلق بالأمن القومي وانتهاك الدستور، ويمنع محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية إلا في حالتي إعلان الأحكام العرفية أو الحرب. جاء القانون بعد أن تسارعت عجلة التحقيقات فيما يعرف في تركيا بملف ‘إرغنكون’، التنظيم السري المفترض، الذي اكتشف اختراقه للدوائر العسكرية والمدنية، وارتكاب أعضائه جرائم قتل واغتيال، والتخطيط لانقلابات ضد الحكومة المنتخبة. كان القانون نقلة كبيرة ونوعية في تاريخ التطور الديمقراطي في تركيا، واعتبر مؤشراً حاسماً على بداية النهاية لنفوذ الجيش في الحياة السياسية. خلال الشهور القليلة الماضية، لم يقدم ضباط سابقون وعاملون لمحاكم مدنية وحسب، بل ودخل المحققون المدنيون ما يعرف بغرفة ‘قدس الأقداس’ في مقر قيادة الاركان، حيث يحتفظ الجيش بأكثر الوثائق والخطط سرية وحساسية. ولكن القانون وجد معارضة منذ لحظة صدوره، سواء في أوساط الجيش أو أوساط الأحزاب السياسية المعارضة لحكومة العدالة والتنمية؛ وقدم بالفعل طلب للمحكمة الدستورية العليا بالنظر في دستورية القانون. وقد جاء قرار المحكمة ليؤكد عدم دستورية القانون؛ وهو قرار سيضع حداً لمحاكمة العسكريين أمام المحاكم المدنية، ويلقي بالعثرات في طريق تطور التحقيقات الخاصة بقضية تنظيم ‘إرغنكون’.
لا يجب التقليل من أهمية قرار المحكمة الدستورية العليا، من جهة ما يمثله من انتكاسة لمسيرة الديمقراطية التركية ورسم حدود فاصلة بين المؤسسة العسكرية والحياة السياسية. ولكن من الضروري أيضاً ملاحظة أن قرار المحكمة الدستورية العليا ليس مؤامرة ضد حكومة إردوغان، أو أية جهة أخرى. قضاة المحكمة الذين أصدروا القرار هم أنفسهم من رفض الدعوى بحل حزب العدالة والتنمية الحاكم قبل عامين. ليس ثمة شك في أن أغلب قضاة المحكمة الدستورية العليا جاء من خلفيات جمهورية تقليدية ومن ثقافة أتاتوركية؛ ولكن الدافع الرئيسي خلف قرارهم الإجماعي هو طبيعة الدستور التركي الحالي وليس الانحياز الأعمى للمؤسسة العسكرية. نظر القضاة إلى قانون حزيران/يونيو من وجهة نظر دستورية بحتة؛ والدستور الحالي وضعه النظام العسكري، نظام ما بعد انقلاب 1980. وما لم يتم تعديل الدستور في شكل جوهري، أو وضع دستور مدني جديد، المهمة التي يبدو أن حكومة إردوغان تجد صعوبة وعقبات في طريق إنجازها، فستظل المسيرة الديمقراطية تراوح بين تقدم وتعثر. ولكن معظم ردود الفعل والتعليقات التي تناولت قرار المحكمة الدستورية لم تنظر إلى المسألة من هذه الزاوية؛ ما رأته كان ما عكسه القرار من هزيمة لجهود حكومة العدالة والتنمية لدمقرطة البلاد، والتهديد الذي يحمله القرار لمستقبل الحكومة واستقرار الحياة السياسية التركية؛ بل أن البعض تصور أن القرار ليس أقل من مقدمة لانقلاب عسكري جديد.
ما الذي يجمع إذن بين هاتين القضيتين: الدبلوماسية الفجة للدولة العبرية، وما انتهى إليه رد الفعل التركي الغاضب من انحناءة إسرائيلية، وقرار المحكمة الدستورية العليا بإلغاء قانون محاكمة العسكريين أمام المحاكم المدنية وأصداء القرار في الجوار التركي الإقليمي؟ الذي يجمع بين القضيتين هو سوء فهم وتقدير تركيا الجديدة، تركيا حكومة العدالة والتنمية.
طوال عقود اعتاد القادة الإسرائيليون أن تكون علاقاتهم بالدولة المسلمة الكبرى في المشرق مسألة لا تخرج عن العلاقة مع نخبة تركية صغيرة. طالما كان أركان هذه النخبة، المدنية والعسكرية، راضين عن طبيعة العلاقة مع الدولة العبرية، فالأمور بين تل أبيب وأنقرة بخير، ولا تدعو إلى القلق. لم يكن للشعب التركي، الذي تربطه بفلسطين والقدس روابط الدين والتاريخ والثقافة، من دور يذكر في مجريات هذه العلاقة. قادت النخبة المدنية تركيا نحو الغرب، سياسة وثقافة واقتصاداً وتحالفاً؛ وما أن أصبحت تركياً عضواً في حلف الأطلسي، حتى أصبحت النخبة العسكرية شريكاً عضوياً في هذه العلاقة. ومنذ انقلاب 1960، اهتزت العلاقة بين جناح النخبة المدني وجناحها العسكري لصالح الأخير، ولم يعد بإمكان سياسي تركي مهما بلغ من قوة أن يتحدى إرادة العسكر. والحقيقة أن أحداً ما كان له حتى أن يفكر في خوض التحدي، فقد حكمت البلاد في أغلب الأوقات من حكومات تآلف حزبي ضعيفة، ومن سياسيين شابت سمعة الكثير منهم شبهات الفساد المالي والإداري. السياسي الوحيد الذي سيشذ عن القاعدة، تورغوت أوزال، لم يعمر طويلاً. وبينما رأى سياسيون أتراك العلاقة مع الدولة العبرية جزءاً لا يتجزأ من مركب العلاقة مع المعسكر الغربي، ورآها آخرون من زاوية المصالح التجارية والمالية الشخصية، كان جنرالات القمة العسكرية يجدون في العلاقة أمراً طبيعياً، ينضوي في شبكة الارتباط الوثيق والمكرس بحلف الناتو وقواه الرئيسية. ولا يخفى أن العلاقات مع الدولة العبرية استبطنت توكيداً لوجهة تركيا الجمهورية، تركيا المنشقة عن ميراثها التاريخي وعن جوارها العربي الإسلامي، الذي يذكر، على نحو ما، بهذا الميراث.
وهنا، بالتأكيد، يقع سوء الفهم. لا قادة الدولة العبرية، ولا من يبشر بانقلاب عسكري وشيك في أنقرة، يدركون حجم التغيير الذي شهدته تركيا في السنوات الثماني الماضية، ولا حجم المسافة التي قطعتها على طريق التغيير. ما جاءت به حكومة العدالة والتنمية ليس توكيد المسار الديمقراطي وحسب، بل والتأسيس لصلة وثيقة بين سياسات الحكم وإرادة الشعب التركي. لم تعد الحكومة التركية منتدى لنخبة صغيرة، تسير الامور بطريقة أبوية، نيابة عن شعب قاصر، لا يعرف مصلحته على وجه اليقين؛ ولا هي أسيرة تليفونات آخر الليل من كولونيلات الجيش الذين أعطوا أنفسهم حقاً مقدساً في حراسة الجمهورية من غفلة الشعب. هذه الحكومة هي أداة أصوات الناخبين الذين أوصلوها إلى سدة الحكم، وتجل لرغباتهم وقناعاتهم. منذ بداية التحول التركي نحو النظام التعددي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لم تعرف تركيا حكومة أمينة على أصوات الشعب مثل هذه الحكومة، ولا عرفت رئيس حكومة شجاعا في حفاظه على الأمانة التي أوكلتها له الإرادة الشعبية مثل رئيس الحكومة الحالي.
إن كان للإسرائيليين أن يحافظوا على ما تبقى من علاقاتهم مع تركيا فعليهم أن يدركوا حجم المتغيرات التي مرت بها خلال العقد الماضي، وأن يعتادوا التعامل مع مواقف أنقرة من زاوية تعبيرها عن رؤية الشعب التركي للدولة العبرية وسياساتها. وهو تغيير قد يتعثر هنا أو هناك، بقرار قضائي أو آخر، ولكن تركيا لا تبدو في وارد العودة إلى عهد الانقلابات أو التحكمات الخفية بالحكومات المنتخبة.
‘ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
القدس العربي