الأحداث الطائفية المصرية والأزمة عميقة
عمّار ديّوب
28/01/2010
من السهولة بمكان التنديد بالأحداث الطائفية، والقول أنها صناعة غربيّة وإمبريالية، وهو ما يجري على ألسنة القوميين العرب، وكذلك من السهولة القول أن الأحداث الطائفية تتوالى بفعل النمو الكبير للإسلام ‘المجاهد والمقاوم’ ولاسيما حزب الله وحركة حماس، وبذات السياق، نستطيع القول أن هذه الحركات الأخيرة هي ما تُشجع على معاداة الغرب، وبذلك تتعمق الخلافات الطائفية القاتلة بين جنباتنا. والسؤال الضروري هنا: هل الأحداث الطائفية التي تتوالى فصولها من مصر إلى اليمن، هي بفعل مبارحة عدائنا للغرب، ولو لم نبارحه العداء، هل كنّا سنلج طريق بناء الأوطان، التعدد، التسامح، احترام الأقليات، الديمقراطية، العلمنة؟ هذا التفكير سائد في الصحف العربية، ولكنه يجانب الصواب، فالطائفية نزوع عربي وإسلامي وعالمي في هذا العصر، وهي مسألة شائكة في نشأتها، وأصبحت قضية تتطلب الكثير من التحليل، حيث أن مفردات الحداثة تتراجع حتى في الدول الغربية العريقة في علمانيتها وحداثتها، وهذا لا يقلل من صحة تأثير الطائفيات ‘المقاومة’ في إذكاء نار الطائفية وتقليص الجزر العلمانية في عالمنا العربي.
نعم، أزمتنا عميقة وهي تطال كل مستويات البنية الاجتماعية، والطائفية لدينا لها ألف جذر وألف رأس، وكلها ممارسات سياسية، تخفي برامج كلية للمجتمع، وأما ظاهرها فيعلن أن الدين هو الحل، وهي بذلك تستهدف تدمير الحداثة العربية، وأمّا عالمياً فالطائفية تحاصر العلمانية في العديد من الدول الأوروبية، وهو ما يشار إليه بالدور المتعاظم للفاتيكان وبوجود عشرات المنظمات الدينية العاملة في إطار الأمم المتحدة أو بشكل مستقل، وهي بذلك تحرث الأرض لتتحوّل لاحقاً إلى منظمات سياسية في المحصلة، مستهدفة تعميم الرؤية الدينية كرؤية مناهضة للحداثة بكل أشكالها وكرؤية وحيدة لحل المشكلات التي تواجه مجتمعاتنا.
الأحداث الطائفية في مصر، ما أن تنزوي حتى تعود من جديد، وقد حمّل رجال الدين المسيحي في أحداث نجع حمادي الحكومة المصرية المسؤولية المباشرة، وهذا الرأي سديد، ففي لحظة المأساة لا بد للحقيقة من الظهور. وبالتالي المسؤول الفعلي عن الأحداث الطائفية بالمعنى المباشر هو النظام المصري بسياساته الاجتماعية المحافظة وبسياساته الاقتصادية ‘المافياوية’ وباهتمامه الحثيث بالتمديد أو التوريث، وبإغفاله عن الإصلاحات السياسية، الأمر الذي يعزز تسييس الدين كمصدر لليقين ومصدر للخلاص من العالم الدنيوي- المحتكر من قبل النظام- الذي شاع فيه الحرمان والقتل الحروب.
إذن، مصر كما البلاد العربية، أمام امتحان عسير يتحدّد: إما بالاستمرار في تسييس الدين، وتعميق المشروع الديني كمشروع وحيد وكلي، وبالتالي استمرار الأحداث الطائفية بين فترة وأخرى، وإما البدء بمشروع الحداثة والشروع في بناء الدولة الحديثة، وتصفية المرتكزات الدينية ‘المقاومة منه أو غير المقاومة’، والتصدي بشجاعة لضرورات الحداثة العربية، والتي لا تختصر بالمستوى السياسي للدولة وتحويلها إلى نظام علماني ، بل تشمل كل مستويات المجتمع. والسؤال، ما هي الفئات الاجتماعية التي تحمل العلمانية؟ في أوروبا حملتها البرجوازية إبان صعودها، في العالم العربي من يحملها؟ هذه الفكرة بالتحديد، أي الافتراق بين مشروع الحداثة المحمول من قبل المثقفين والطبقات الاجتماعية هي المشكلة، وبالتالي التصدي للطائفية، يفترض التصدي لكل مشكلات المجتمع العربي، وغير ذلك من التفسير يصنف في خانة الايديولوجيا، وربما وبشكل ضعيف يعتبر تعدداً في وجهات النظر.
العقلية الدينية بالمعنى السياسي، لا شك أنها وليدة افتقادنا لمفاهيم الحداثة، ولكن لماذا لم نتخلص منها ونتبنى بالفعل مفاهيم الحداثة، لماذا حافظت على نفسها بهذه الشراسة والتجذر، وكان سهلاً على من فارقها في أزمنة سابقة العودة إليها؟ وهذا بالطبع لا يفسر بأن العداء للغرب هو ما يبذر في مجتمعاتنا العداء للأقليات في لبنان ومصر والعراق، فالعداء للأقليات هو جزء من معاداة تلك الطائفيات للمجتمع بكليته. أي أن النزعة التكفيرية، لا تميز بين هذا وذاك، وقد تنقل سريعاً سلاحها من الخارج إلى الداخل والعكس صحيح، وهي ما تنفك تؤهل الوعي لمعاركها الطائفية المتناقضة مع مفاهيم الحداثة. وقد يكون هناك تمازج معين بين الطائفية والطبقات السائدة، فالأخيرة تجد نفسها ضعيفة وغير قادرة للسير في مشروع الدولة الحديثة، وربما ليس لها مصلحة بها، فتتذرع بالدين وتلبس لبوسه، وتستجديه، وهو ما يتلقفه رجال الدين دون تفكير وتؤدة، فيكون إخفاق الأنظمة في مهمتها وتصاعد الطائفيات سبباً رئيسياً في أحداثٍ طائفية في كل مكان.
وقد يكون لتمأسس إسرائيل يهودياً ودعــــمها أوروبياً وأمريكياً سبباً ما في بروز الطائفية، وهذا ما لا يجـــــوز نسيانه، وهو ما عبرت عنه بإعجاب الحركات الدينية السياسية العربية بإسرائيل كمشروع صهيوني استنادا إلى الدين اليهودي، وبالتالي مشكلة الطائفية مشكلة عالمية وعربية في آن، ومنها عربياً، دون أدنى شك عداء المقاومة للغرب، ولكنها تتجاوز ذلك إلى أسباب متعددة، لنصل للقول كلنا في الشرق أصبحنا طائفيين ما لم نتبن قيم الحداثة.
‘ كاتب من سورية
القدس العربي