أقلوية الأغلبية!
ميشيل كيلو
بمناسبة أحداث نجع حمادي
لا تتصرف الأغلبية دائــما كما يلـيق بأغلبية أن تتصرف. ولا تفكر الأغلبيــة دوما كما يجب على أغلــبية أن تــفكر. ولا تتســامح الأغلبية في حالات كثيرة كما يحــسن بها أن تتسامح. هناك حالات تكون الأغلبية فيها أقلية في تصرفاتها وتفكيرها ومواقفها، وهنا الطامة الكبرى.
في المجتمعات التي تتسم بتـنوع إتني ومذهبي، وتتكــون من أغلــبية ذات طابع أو لون واحد، من المفهوم، وإن كان من غير المبرر غالبا، أن تنغلق الأقليات على ذاتها وتتصرف تصرف من يشعر بالخطر، وأن تبالغ في حذرها من الراهن والمقبل، ويتسم سلوكها بالخوف والتردد، وتكون آراؤها متناقضة ومتضاربة، وتتصف إسهاماتها في الحياة العامة بجانبين متعارضين، فهي راضخة/ خائفة من جهة، ومتذمرة/ رافضة من جهة أخرى، بينما تكون حساباتها وهمية غالب الأحيان، تجعل من السهل التلاعب فيها وإقناعها بوجود خطر داهم عليها، وأنها لولا حماتها من أهل النظام، لكانت في فم الضبع، كما يقال.
من المفهوم، ومن غير المقــبول أن تفكر الأقلية على هذا النحو. لكنه من غير المفــهوم وغير المقبول أن تكون هذه هي طريقة الأغلبية في التفكير، ذلك أن الأغلبية التي تفكر وتتصرف كأقلية تحكم على نفسها بالموت كأغلبية، وعلى مجتمعها بالتمزق والضعف والعــبودية. إنها تنغلق عندئذ على ذاتها، وتتــخذ موقفا عدائيا من بيئتها الوطنية والاجتــماعية، وتضــع نفسها في مواجهات لا لزوم ولا مسوغ لها مع الأقليات، التي تجد في سلوكها ما يعزز مخاوفها ويقوي شكوكها، فتزداد انغلاقا على ذاتها ورفضا للحوار وللتواصل المجتمعي والمدني مع غيرها، فتصير الأغلبية جزيرة كبيرة محاطة بجزر صغيرة معادية هي الأقليات، تدفع خلافاتها وصراعاتها مع الأقليات، المجتمع إلى طور تفكك عنيف لا ينفع معه حوار أو تعايش، لأن اللغة تكون قد فقدت فاعليتها خلال الانقسام، المتعمق بلا انقطاع.
بهذا المستوى من تدهور علاقات التكوينات المنضوية في المجتمع، تتحول السلطة إما إلى أداة لإدارة صراعاتها، فتقصر عملها على متابعة تناقضاتها وتأجيجها وحقنها بأشكال جديدة من التمزق والعداء، أو تتدخل دون فاعلية لوقف ما يتفاعل في المجتمع عموما من عداء وتناحر وإقصاء، يبطل وجوده الفعلي كمجتمع منسجم متحد، وإن أبقى على وحدته الشكلية/ البرانية. لا يترك تفاقم الصراع وعجز السلطة عن وقفه أي بديل غير تنافس قوى مجتمعية وسلطوية على استغلاله وشحنه بالمقومات الضرورية لاستمراره. عندئذ، يبلغ وضع الدولة درجة من التدهور لا تسمح بوقوف أي طرف جانبا، ويصل المجتمع إلى طريق مسدود، ينفتح على احتمال واحد هو حال الانهيار العام، الذي يتفاعل ويتعمق، وإن بقي كل شيء سويا في المظاهر والأشكال.
ليس انغلاق الأقلــيات على ذاتها بالأمر الممكن أو الخطير، إذا كانت الأغلبية منــفتحة ومتسامحة ومحاورة. ولا تكون الأقــليات قادرة على التقوقع على الذات، إن هي وجدت أرضية تفهم وتفاهم وحوار ومصالح مشتــركة تقف عليها مع الأغلبية، تضمن لها حداً مقبولاً من الاحترام والمساواة، وتجعل آراءها مسموعة ومصالحها مقبولة، بما هي جزء من مصالح المجتمع العامة. بالمقابل، تقع الكارثة عندما تتقوقع الأغلبية على ذاتها، وترى في الأقليات خطرا داخليا أو اختراقا خارجيا، فتعمل على إقصائها أو قهرها أو الانتــقاص من مكانتها ودورها أو إنكار شرعية مطالبــها ومــصالحها. في هذه الحــالة، لا يعود ينفــع دواء لداء الأغلبية العضال، التي تتصرف وتفكر كما تتصرف وتفكر أقلية في نزاع مع أقليات أخرى، معادية لها، وتتقــوقع على ذاتها، وتنشب مخالبها في غيرها، في الأقليات، التي لا تستطيع العيش بأمان دون تفهمــها وتسامحها وتعاطفها، فينقلب المجــتمع إلى أقليات متنازعة، تنتصر في الصراع الذي يعيــشه مرغما الأقلية ذات الأغلــبية العددية، وتتفوق على الأقليات القليلة العــدد في القدرة على الإيذاء والبطش والفتك والقتل، فإن كانت هذه الأقلية/ الأغلبية حاكمة، مثلت خطرا حقيقيا على وجود المجتمع والدولة وليس فقط على وجود الأقليات. أما إذا كانت معارضة، فإنها تعمل بمبدأ «علي وعلى أعدائي»، جاعلة من انهيار الهيئة المجتمعية العامة والدولة أحد أهدافها المباشرة.
لا يمكن أن يوجد ويدوم مجتمع، إن رفضت أغلبيته التســامح كطريقة تعايش بين مكوناته. ولا يمكن أن يوجد مجتمع تتحول أغلبيته إلى أقلية، أو تشــعر أنها أقلية، وأن عليها استعادة مكانتها كأغلبية عبر نفي الأقليات الحقيقية، التي غالبا ما تكون أضعف منها بكثير، وتتعــرض لمزيد من الضعف، إن قررت الأغلبية تحجــيمها وتفتيتــها. إن التحول، الذي يجعل من الأغلبية أقلية، هو أحد أهم الأخطار التي تواجه أمتــنا الــيوم، ليس فقط لأنه يبطل التــعايش في المجــتمع ويقيد دور الدولة، بل كذلك ـ وهذا هو الأخطر ـ لأنه يجعل المجتمع العربي ساحة تمزق وصراع واقتتال لا نهاية له، مشـحونة بنزاعات من طبيعة مذهبية أو إتنية يستحيل أكثر فأكثر إدارتها أو الحد منها بالحوار والتــواصل السلمي. ولعله من الملاحظ أن توجــه الأغلبية إلى التصرف والتفكير والعمل كأقلـية قد غدا سمة بارزة من ســمات حياتنا الــحديثة، مع أنها (الأغلبية) منــاط الأمل في حــمل راية الحرية الفردية والشخــصية والمساواة القــانونية والفعــلية بين المواطــنين، فهي ليست أخوية مغلقة، بل الضامن الحقيقي لحـريات ووجــود الأفراد والتــكوينات المجتمعية المختلفة، التي لا تستطيع الاســتمرار والتقدم دون تسامحها ورغبتها في التعايش والمساواة.
تجنح أغلبيات الوطن العربي أكثر فأكثر إلى التصرف والتــفكير وكأنها أقليات، ويتعاظم ميلها هذا بسرعة تحمل في طياتها أخطارا تهدد وجود كل بلد وحياة كل مــواطن عربي، بما في ذلك من ينتمي إليها. هذا المرض القاتل، الذي تتعدى مفاعيله الأغلبية، يحول المجتمعات العربية إلى حواضن أقليات سياسية وإتنية ومذهبية وجهوية متنازعة متصارعة، بينما الأصل أن تــكون الأغلــبية ضــامن غيرها وكافل وحدة مجتمعها، وأن تزيل شــعور الأقلية بالغبن أو بالإقصاء والاستبعــاد، عبر تبني مواقف تحترم سيادة القــانون والمســاواة الفعلية بين مواطنين ينضوون على المستوى الشخصي في تكوينات مجتمعية جزئية، متفاوتة الحجم، لكنهم يبقون مواطنين ينتمون سياسيا وقانونــيا إلى دولــة ترى فيهم مواطنين أحرارا، ليسوا مجرد أفراد في أقلية أو أغلبية.
لا يحق للأغلبية الشعــور بالدونــية، أو اكتساب وعي أقلوي، أو الخوف من الحرية، وخاصة منها حرية الأقلية، أو التصرف كأقلية بين أقليات، تنافس غيرها أو تزاحمه على شأن عام يلغي موقفها الأقلوي مشتركاته الجامعة. إذا حدث هذا، وهو يحدث بطريقة متزايدة في بلداننا، كانت الطامة الكبرى، ووقع ما لا يمكن إصلاحه سلميا أو حواريا. نحن بحاجة إلى أمرين:
ـ شعور الأغلبية بأنها ليست مهددة من أية أقلية، وإدراكها أن الأقليات الممسكة بالسلطة، سياسية كانت أم غير سياسية، تراهن على دفعها إلى التفكير والتصرف كأقلية، وأن الوطنية تفرض عليها تحصين نفسها ضد هذا الشعور، المنافي والنافي لطبيعتها.
ـ ضمان الأغلبية حقوق الأقلية عبر ممارسات تتسم بالتسامح وتعزيز المساواة، في الواقع وأمام القانون، تعتبر الفرد، إلى أية جهة أو أي تكوين جزئي انتمى، مواطنا يتساوى في حريته مع غيره من المواطنين، وليس فردا ينتسب إلى هذا التكوين الجزئي أو ذاك.
إذا كانت الأقلــية خــوافة، في المجتمعات القــليلة الاندماج، فإن الأغلــبية يــجب أن تكون شجاعة، مطمئنة، وواثقة من نفسها. والويل كل الويل للمجتـمعات التي فقدت أغلبيتها هذه الصفات، وصارت أقلية فقدت رشدها!
السفير