المسألة الكردية مرة أخرى- تساؤلات.
غسان المفلح
كنت في المقالة الأولى” المسألة الكردية في سورية- تساؤلات” *قد طرحت مجموعة من التساؤلات، والتي ليست بريئة بالتأكيد، فهي تحمل في طياتها، فضاءات موقف أيديولوجي وحقوقي من المسألة الكردية في سورية، ولكنها فضاءات ليست نهائية، وجاءتني ردود، عبر الإيميل، وقرات مقالة واحدة ردا على هذه التساؤلات للكاتب السيد وليد حاج عبد القادر.
عندما قلت أن سورية دولة- أمة وليست دولة طوائف وقوميات وأديان، هل يعني هذا لأنني عربي؟! ام لأنني أؤمن بدولة ليبرالية معاصرة، وفق ما أنتجتها التجربة المعاصرة في بناء الدول والمجتمعات الديمقراطية؟
أجمعت الردود التي جاءتني أن المسألة الكردية في سورية، هي” قضية شعب يقيم على أرضه التاريخية” وهذا ما يأخذ علي وعلى المعارضة السورية عموما أنها لا تتبنى هذه المقولة، ولهذا هي شوفينية.
أردت في هذه المقالة أن أدفع الحوار خطوة للإمام، بناء عليه”
– حقوق المواطنة أمر أعتقد أن النقاش منته حوله، ولا داعي للتذكير فيه مطلقا، إلا من زاوية أن أبناء سورية جميعا في ظل الدولة السلطانية لا ينعمون بهذه الحقوق ولا يعرفونها حتى. لهذا لوكنت أطرح رأيي بناء عليها لما طرحته لأنه أمر بديهي تماما، ولا يحتاج على نقاش. – لم يتطرق أحد من النقاد لما أنتجته التجربة العراقية، والذي تعرضت له في مقالتي السابقة.
– لم يتطرق أحد لموضوعة أن الحقوق ليست مفصولة ومعزولة عن موازين القوى السياسية، في كل لحظة تاريخية.
– لم يتطرق أحد لمفهوم السيادة لدى الدولة- الأمة، الذي سببا خرابا شاملا في العراق، نتيجة لتفتت سيادة الدولة المركزية، ولم أقل السلطة الحاكمة، لأنها جزء من تبعثر هذه السيادة، ونتاجها، أقصد حكومة العراق.
– الابتعاد عن اللغة الشعاراتية وحده يدفع النقاش قدما إلى الأمام، قضية شعب وأرض، وماذا بعد سياسيا وقانونيا، لهذا جاءني ردا غير مباشر من الصديق جان كورد، واضعا دستورا لحكم ذاتي لكوردستان سورية، لا علاقة له بالدولة ذات السيادة الواحدة، ولا علاقة له بموافقة السكان غير الكورد المقيمين كشعب على أرضهم التاريخية، سواء كانوا عربا أم آشوريين؟ هكذا نحن نريد وهذا مشروعنا، إما أن توافقوا عليه، أو أنتم شوفينيون! ووجهة نظر جان كورد، تمثل برأيي غالبية الحقل النشاطي الكوردي من سياسيين وحقوقيين.
– التجربة السويسرية التي يستند عليها كثيرا مع التجربة البلجيكة، ليريني أحد، أن لكانتون جنيف، أو لكانتون بروكسل، جيش خاص، وشكل من أشكال السفارات مع العالم غير السفارة السويسرية، والسفارة البلجيكية، وغير الجيش السويسري، في العالم كله لايوجد دولة فيها جيوش، متعددة الرؤوس والقيادة، إلا في لبنان حزب الله، والصومال حرب أهلية طاحنة، والعراق، تفتت سيادة الدولة المركزية. مم جلال الرئيس العراقي، يتقاتل في كوردستان العراق جيشه الحزبي والبشمركة الخاصة في حزبه الاتحاد الوطني الكوردستاني، مع أعضاء في كتلة أنوشيروان المنشقة، وهو رئيس للدولة المركزية، في أية دولة تحدث هذه؟ هل رأيتم في دولة من الدول” رئيسها يتبعه جيشان واحد ملكية خاصة والآخر ملكية عامة؟
– كاك مسعود، ليس له أية صفة مركزية في الدولة العراقية، ولا صفة مركزية في الحكومة العراقية العتيدة، ومع ذلك يتحكم بجزء أساسي من القرار السيادي للدولة العراقية؟
– ألا تشكل الأمة- الدولة الأمريكية نموذجا، أم أننا نريد اختراع نماذج مفخخة ومفخخة- بكسر الخاء- لدولة جديدة؟ حتى الأمة السويسرية بلغاتها الأربع تشكل نموذجا، ولكن زحزحته عراقيا، هذا تفخيخ ولغم دائم يؤدي لعودة الحروب الأهلية.
هل ما يجري من سيلان للدم العراقي، سببه فقط الإرهاب أو ما يسمى بالمقاومة العراقية، وتدخل الدول المجاورة، أم أن هنالك سبب آخر، وهو تفتت السيادة المركزية للدولة العراقية، حيث غالبية الكتل السياسية العراقية تملك سلاحا ومجالا لاستخدامه؟
– نحن مختلفون..على سؤال: لمن هي أرض الجزيرة السورية؟ هل هي للكورد أم للعرب أم للآشوريين أم لغيرهم؟ أم هي لدولة سورية- كأمة، هل هذا هو الخلاف؟
إذا كان هذا هو الخلاف، أين تقع سورية كدولة- أمة سورية ذات سيادة واحدة، من خلافنا هذا؟
هل نريد أن نقر بتمثيل سياسي كوردي قومي…هو يحدد شكل سورية، ويحدد خارطتها؟..لماذا إذن تهاجمون البعث كتنظيم قومي عربي، مع أنه يدعي بأنه يمثل الغالبية العربية؟ ولماذا تهاجمون من يريد سورية دولة عربية؟
– أنا كما قلت في المقدمة أن حقوق المواطنة أمر بديهي ولا نقاش حوله، ثقافة ولغة كوردية وتعبيرات حزبية..الخ نوطة حقوق المواطنة…ولكن ليس لدي أي تصور عملي، عما يمكن أن تتوضع عليه الأمور في سورية الديمقراطية، لعدة أسباب، أهمها، أنني لا أملك الحق في الحديث عن تصور ما لقضية ذات حساسية وتخص الأمة السورية التي لم تتكون بعد..هل أستطيع أن أوافق على شكل فيه دولتين صغيرتين كما هو الحال في كوردستان العراق، لكل حزب دويلة، فيصبح لدي في سورية عشرين دويلة كتلك!!؟
– بقي نقطة تثار عن حزب العمل الشيوعي في سورية، أنه تراجع عما كان يطرحه بخصوص حق تقرير الممصير لكل شعوب المنطقة، هذا أمر يتعلق في سياق فكري وأيديولوجي يريد هذا الحق في سياق تحول أممي..وبالتالي هو لم يتراجع، ولكن المطروح الآن في الواقع غير هذا السياق تماما، ولا يجب مناقشته في سياق مختلف عن سياقه..
– كما أكدت في المقالة الأولى أؤكد هنا، أن الديمقراطية وحرية الرأي تضمن بالنسبة لي، برنامجا انفصاليا، ولدي نموذج حزب رابطة الشمال الإيطالية، ولكن أوافق عليه أو لا أوافق فهذه قضية أخرى. ولهذا البرامج الانفصالية، يكون لها حوامل سياسية وممارسات سياسية مختلفة، عن حوامل تحاول..التشاطر في أن تبقى كما يقال في المثل الشعبي” رجل بالبور ورجل بالفلاحة.
والموضوع ليس نهائيا بل قابلا للنقاش والحوار من أجل قضية الديمقراطية في سورية، وهي للجميع بدون استثناء.
بروكسل
المسألة الكردية في سورية- تساؤلات.
غسان المفلح
بداية لابد من الاعتراف” أن سورية دولة- أمة وليس دولة قوميات وأثنيات وطوائف، وهذه الدولة ذات السيادة غير المجزأة، هي الدولة الديمقراطية، هذا فضاء يحكم تفكيرنا، بعيدا عن التعصبات من أي نوع كان، ولا تحمل هذه الدولة أي بعد رسالي، ينزع عنها حياديتها السيادية.
ليس عيبا الاعتراف، بأن الأفق النظري والمعرفي في الحقل السياسي، ملغم تماما بموازين القوى، أكثر مما هو منفتح على المسألة القانونية والحقوقية، وهذا أمر يجعلنا، في كثير من الرياء، بدل العودة إلى الواقع المنتج للفكر السياسي، بتفاصيله المتعجرفة، نعود إلى خلاصات هذا الفكر بعدما، نضدته موازين القوى، وقولبته، بما لا يسمح برؤية تفاصيل الواقع الذي أنتج هذا الفكر وأنساقه اللغوية والخطابية. على هذا الأساس يمكننا القول” أن الفكر السياسي السوري، هزيل إلى حد أنك تقف دوما أمام أسئلة الواقع، وأنت في حالة من الاختناق تبعا، لمجريات العملية السياسية في الدولة السلطانية. المعارضة السورية تحتقر الدولة، تماما كالسلطة القائمة، ولا تفهم السلطة وعلاقتها بهذه الدولة! لأن الدولة القائمة، هي حالة انتقالية، إما لدولة عربية، أو لدولة إسلامية، أو لدولة عدالة اجتماعية، أو لدولة كردية- ما يتعلق بالشق الكردي من هذه المعارضة.فأية دولة نريد؟
هزالة الفكر السياسي السوري، لا تتعلق بدعوات ثقافوية، أو ننطلق من موقع ثقافي، يحوز على رضا المثقفين، وإنما ننطلق من أن هزالة هذا الفكر، هو إدعاءه الطهرانية المزيفة، والمتوارثة من أنساق أيديولوجية بائدة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى هذه الطهرانية تمثل أهم ملمح في عجز هذا الفكر السياسي، في أن يحوز على ديناميكيته الخاصة في التقاط التفصيل السياسي المرتبط بالقوى الفعلية على الأرض وأهميته. كما تتعلق برؤية هذا الفكر الموروثة من أن السياسة موقف ايديولوجي فقط! وليست حركية معقدة في هذا الزمن العولمي، أو العالمي وكل ما يترتب على هذه العالمية.
الحديث أننا نريد دولة قانون ومؤسسات وديمقراطية وحقوق إنسان، هو انفتاح موضوي- من الموضة- أكثر منه انفتاح على آليات اشتغال الفكر المتبني لهذه الصيغ، التي أخذت بعدا شعاراتيا، نتيجة للإفلاس في امتلاك قوة التغيير لدى هذه المعارضة بكل أطرها المعلنة. هذا الإفلاس وانسداد أفق التغيير، يدفع بعضنا لمراجعة مفرادته، وثقافته السياسية، ومرجعياته الفكرية، بينما يدفع بعضنا الآخر، إلى الهروب إلى الإمام، لاعتبارات شتى، بقوالب شعاراتية جديدة، لإدخالها القاموس السياسي، الهزيل سوريا أصلا، إلى حيز التداول المغلق على دائرة الاستبداد.
إن دخول المسألة الكردية في سورية الآن إلى نفق شعاراتي، لا يتناسب مطلقا، لا مع تفاصيل الواقع السوري، ولا مع واقع موازين القوى، بل هو مرفوعا، إما ليبراليا، داخل قالب قوموي، او داخل قالب حقوقي، فيصبح هذا القالب النموذج، رافعا للفكر السياسي نحو انعزال كلي عن واقع الدولة السلطانية القائمة، لنلاحظ الان انه حتى كلمة السوري قد غابت عن معظم الرمزيات السياسية الكردية. كما كانت ولازالت غائبة عن رمزيا الأحزاب القومية والإسلامية وبعض اليسارية وكلها أصبحت آفلة، إلا من عقول عجائزها- نحن- وهذا ما جعل الخلط مستمرا وقائما، بين المنتجات الفكرية السياسية، لواقع مختلف، الأمة المواطنة، المسألة القومية، الدولة، السلطة إلى آخر المفاهيم التي لم نستطع حتى اللحظة تبيئتها بما يجعلنا جزء أصيلا من هذا العالم.
السؤال الآن من يبيء هذه المفاهيم؟ أية إرادة فكرية وسياسية يمكن أن تقف خلف هذه التبيئة؟ هل هي قوى المعارضة المأزومة بفعل واقع الاستبداد؟ أم هي السلطة التي تنتشي تماما، بزيادة منسوب التخلف عند المجتمع عموما، والفقر السياسي والفكري عند المعارضة السورية خصوصا؟ بعد هذه الأسئلة كيف يمكننا العودة لنقاش المسألة الكردية في سورية؟ كنت في أوقات سابقة قد كتبت عما أنتجته التجربة العراقية، ولخصت ما افرزه ميزان القوى من تعدد سيادي في العراق، افضى على اضمحلال السيادة الواحدة لصالح سيادات جزئية، لا يجمعها أي مفهوم عما يمكننا تسميته” الدولة- الأمة، أو الأمة- الدولة” ولنلاحظ الآن ونتابع مجريات العملية الانتخابية، ما الذي يمكننا استنتاجه، كل تلك السيادات تريد” مزيدا من استقلاليتها السيادية الجزئية، ومزيدا من الاستيلاء على الثروة العراقية- كثروة قومية، لكي تتحصن أكثر في إقطاعياتها السيادية. الدولة العراقية، وسلطة حكومتها، لا سيادة لها على أقليم كوردستان العراق، بينما فعاليات الأقليم وزعاماته، لها حصة في السيادة على كل العراق. لنلاحظ الخلاف على مسألة البشمركة، اهم جزء من جيش العراق، ام هم جيش خاص بالأقليم لا يأخذ تعليماته إلا من الفاعل السياسي في الإقليم، هل يقدم ضابط بالبشمركة، التحية لقادة الجيش العراقي مثلا؟
وكذا الأمر ينطبق على مليشيات إيران في العراق، والمليشيات المتواجدة في المناطق السنية، كيف ستتدخل الجامعة العربية من أجل جبهة السياسي العراقي صالح المطلق؟ ولماذا؟ كيف تحتفي وسائل الإعلام تارة بمغادرة السيد مقتدى الصدر العراق، وتارة بعودته من إيران؟ استخدام العنف والإكراه، كاستخدام من صلاحية الدولة فقط، نجده الآن في العراق مبعثر بقدر تبعثر سيادة الدولة العراقية؟ هذا ما أراه، وأتمنى أن يصحح لي أحد ما هذه الرؤية، وهل هذه التجربة يمكن أن تكون نموذجا لنا في سورية؟
قل الكردي وقل الكوردستاني، قل حكما ذاتيا، أو فيدرالية المفاهيم لا يدفع أحد ثمنها نقودا، بل هي ملقاة على قارعة الفقر المريع الذي نعيش سياسيا وفكريا، في ظل موازين قوى كاسحة لصالح الاستبداد. ما الذي يمكن أن تسببه هذه الزوابع الشعاراتية؟
أليست ملفوظة الكوردستانية هي بديلا عن ملفوظة السورية؟ أم هي إضافة مجانية في السوق الشعاراتي المفتوح؟ مثال”لا تكن شريكا بالصمت و قل لا لسياسات النظام العنصرية ضد الشعب الكوردي في سوريا” عموما هذه عبارة تذيل بها كل حملة تضامن مع معتقل كوردي سوري، بينما القمع والتمييز يطال كل الشعب السوري بكل تلاوينه لماذا؟
وهل فعلا الواقع الجيوسياسي، والجيو ديمغرافي في شمال سورية، يتناسب فعليا مع هذا النوع من الملفوظات؟ وهل فعلا النقاش يتم على قاعدة الاندماج في الأمة السورية- الدولة؟ أم أنه شيء آخر؟ ثم ماذا يعني شعار القومية الثانية، أو الثالثة في البلاد؟ ما الذي يضمنه هذا الإقرار سواء كان إقرارا سياسيا من قبل السلطة أو المعارضة؟ أم إقرارا دستوريا من الدولة، إذا لم يكن هناك ميزان قوى يدعمه؟ ومن أين يأتي ميزان القوى هذا في سورية، في ظل هذا التعقيد العياني والملموس في وضعية شعبنا الكردي في سورية؟
رغم أن مقاربتنا هذه تتسم بنوع من التساؤلات، التي يمكن لها أن تساعد على توسيع آفاق الحوار حول هذه المسألة، إلا أننا نؤمن أن” الدعوة الليبرالية تُسهِّل اندماج الجماعات والأقليات بمفهوم الأمة- الدولة، من خلال الاعتراف لها داخل نظام مُواطنية مُتعددة ثقافياً وسياسيا بحقوق جماعية محدودة بقيود تحمي حرية الفرد في خياراته بما فيها حريته بالخروج من جماعته «الأصلية» بما لا يتعارض مع السيادة الواحدة والوحيدة للدولة القائمة، ضمن هذا المنظور يمكن للخطاب السياسي أن يجد مبتغاه، في اللعب على ساحة مفتوحة، ساحة تجيز التعدد السياسي، لكنها أبدا لا تهدد الوحدة السيادية للدولة الديمقراطية المعاصرة.
بقي أن نشير إلى ملاحظة، نحن لسنا ضد طرح أي برنامج سياسي، بما فيه حق الانفصال، ولكن على أرضية الوضوح الكامل، وليس اللعب بالحقل الشعاراتي بطريقة تثير البلبلة ولا تنتج طحينا، ومع ذلك لانعتبر ما تقدم هو رأيا نهائيا غير خاضع للمراجعة النقدية دوما وأبدا.