النقد وحصى النّهر!
خيري منصور
تندّر ناقد عربي قبل أعوام بقوله ان هناك روائيين وشعراء من العرب بدأوا يكتبون نصوصا تصلح للنقد البنيوي، ودليلهم الى ذلك تلك الجداول والحواسيب التي تعامل بها نقاد مولعون بالبنيوية لأنها تعفيهم من أي تقييم او إبداء رأي، وبغض النظر عن جدية او سخرية هذا القول، فهو لم يكن بعيدا تماما عن ظاهرة أدبية يمكن رصدها، والأهم من هذه الأقوال على اختلاف النوايا التي تصدر عنها ما كتبه الراحل هشام شرابي عن المجتمعات النيئة وذات البُنى الفجّة التي تسعى الى التفكيك قبل أوانه، ورغم ان الراحل شرابي لم يحدد أدبا بعينه الا انه كان يرصد مناخا سائدا، وحالة من تعاقب الموجات الحداثوية التي لا تصل الى اليابسة رغم انها تندفع باتجاهها وتوشك ان تلامسها. وغاب عن البعض ان هناك بنيويات لا بنيوية واحدة، كما ان هناك واقعيات لا واقعية واحدة، فالبنيوية الشكليّة التي لا تعبأ كثيرا بالمكونات الاجتماعية وأنماط الانتاج المهيمنة ليست كالبنيوية التكوينية التي كان غولدمان من اكثر الذين جسّدوها تطبيقيا، والواقعية السحرية او الفائقة التي سماها غارودي ‘ واقعية بلا ضفاف’ ليست هي الواقعية الفوتوغرافية شديدة الفقر والتي تقترض من الواقع بدلا من ان تسلّفه او تضيف اليه، وهناك واقعية تستدعي الحدس لوصف ما سيكون وليس ما كان، منها بعض قصص تشيكوف التي جاء ابطالها الحقيقيون من المستقبل وكأنهم يتذكرونه. ان النقد بوصفه افرازا حضاريا مركبا لا يمارس بالفطرة، او بالانطباعية المحكومة باللاغائب، خصوصا بعد ان قدمت الحفريات في مختلف حقول المعرفة ادوات اضافية للنقد، وأصبح التأويل متاحاً بحيث يغني النّص المنقود ويجعله متعددا وذا مستويات مختلفة في القراءة، ومن أمثلة هذا التأويل ما كتبه القس الفرد اوبراين عن رواية ‘ الطاعون’ لألبير كامو، وما كتبه باركر عن رواية ‘ العجوز والبحر’ لإرنست همنغواي حيث للميثولوجيا بُعد قابل للتقصي في الروايتين، ومن الأمثلة العربية على التأويل الذي يرتكز الى حفريات معرفية وقرائن ما يمكن قوله عن رواية ‘ الطريق’ لنجيب محفوظ، وسيد الرحيمي الأب الغائب الذي يقضي ابنه صابر معظم ايامه في البحث عنه هو المعادل الروائي لشخصية تاريخية دينية، هي جمال الدين الافغاني، وأسوأ ما يتردى فيه النقد التابع في حقبة ما هو الأدلجة القسرية او الارتهان لمنهج ما، لهذا قال من نسب اليه النقد الاسطوري بأنه فوجىء بهذا التصنيف، وكل ما في الأمر انه كان يقرأ قصيدة لوليم بليك بعين ثالثة .
‘ ‘ ‘
النقد العربي الآن، يصعب وضعه في سلّة واحدة، فمنه الاكاديمي الداجن، ومنه الموسوعي المغامر ومنه الثرثار الذي يتغذى على النصوص ويعيد انتاجها بعد حذف جمالياتها، لكن حالة الفوضى، والخلخلة التي تعصف بالنسيج العربي كلّه، تحول دون رسم الحدود ولو بقلم رصاص بين هذه الانماط من النقد خصوصا بعد ان تعرض النقد الادبي الى تسطيح مجاني، وتحول الى وجبات سريعة منزوعة الدسم في الصحــافة التي تبحث عن علف يومي كي لا تكون بيضاء، ولو كان للنقد الجاد وهو ابداع يوازي الابداع في النصوص دور في التصدي لما يصدر بتعاقب أميبي لما كان المشهد على ما هو عليه الاحصاء والرصد المحايد، وفي حالات اخرى اصبح مرتهنا لناشر او مؤسسة او تيار او حزب، فهو يرى نفسه موظفا، وينبغي لاستمراره على قيد وظيفته ان يعرف الحدود والخطوط الحمر جيدا كي لا يدفع الثمن !
أذكر ان ناقدا تساءل باستغراب عن خلوّ ميادين وشوارع عواصم العالم من تمثال لناقد، وسرعان ما تبنى غراهام هيو هذه الملاحظة واجاب قائلا: لأن النقد يتعامل مع حصى النهر لا مع النّهر، لهذا يفضّله شحيح التيار او جافا لأن الحصى عندئذ ستتضح تماما في القاع، لكن هذه الملاحظات وما يماثلها تقع في تعميم يظلم استثناءات خالدة، لأن ما كتبه البروفسور باورا عن لوركا وكفافي أدرج في عداد الابداع، وكذلك ما كتبه جون فليتشر عن الرواية الوحيدة للامبيدوزا وهي رواية ‘ الفهد’، عندما قال بأن هناك روائيا قد يعيد الى مصطلح الانجاز اعتباره المسلوب بعمل واحد، وهذا ما فعله ايضا الناقد فيليب يونغ عندما تقصى السيرة الذاتية لارنست همنغواي في مجمل اعماله من خلال خط متصاعد بدءا من عمله الأول .
نعرف ان النقد لم يعد قنطرة بين المرسل والمرسل اليه حسب التوصيف الكلاسيكي لمهنة النقد، لكن ما حدث هو ان الدليل الجاهل بشعاب النصّ يقتاد المتلقي الى جهة خارج البوصلة، وهي ليست الجهة الصعبة المحرّمة، او المسكوت عنها، وقد استوقفني قبل فترة ما كتبه ناقد عربي عن شاعر عربي، وهو مجرد رسالة تصلح للمجاملة المتبادلة، او تسديد دين ما، او مجرد مقايضة، وكان في تلك الرسالة ـ المقالة من القصور في فهم الشعر ما يكفي لاعتبارها نموذجا في اللانقد عن اللاشعر، لأن نقيض الشعر الحقيقي ليس النثر او حتى الصمت، انه ما يكتب باسم الشعر من هذيان او زفير مرسل، وما كان لمثل هذه المواقف ان تحدث لو ان للنقد حضوره الفاعل وبالتالي هيبته وجديته، وعدم تفويته مثل هذه المناسبات التي تعيد نقد الشعر الى ما قالته ام جندب عن علقمة الفحل وامرىء القيس !
‘ ‘ ‘
اثنان من أبرز شعراء العرب في النصف الثاني من القرن الماضي، قالا بأنهما لم يستفيدا من أي نقد كتب عنهما، رغم وفرة ما كتب، هما أدونيس ومحمود درويش، ولمعرفتي بالشاعرين عن كثب فإن النقد الذاتي الذي مارسه كلاهما على شعره كان يفوق بأضعاف النقد الذي كتب عنهما .
والنقد ليس مجرد مهنة يتورط بها صاحبها بعد ان تدركه ولا يدركها، بل هو كما قلنا من قبل الافراز الحضاري الاشدّ تعقيدا، فهو لا يشترط المعرفة والحساسية والمهارة فقط، بل النزاهة أيضا، اذ يندر ان نجد في نقدنا العربي ما يشبه النقد الذي كتبه ماثيسن عن اليوت، رغم الاختلاف الجذري بينهما ايديولوجيا، ولا أظن ان محاكم العالم باستثناء المحاكم العربية عرفت قضايا متعلقة بالنقد الادبي، بحيث يشكو شاعر من ناقد مثلا لأنه تطاول على نصّه، ظنّا منه بأنه والنّص الذي يكتبه شيء واحد، وما من سبيل لفك الارتباط بينهما .
هذه مناسبة لاعلان حقيقة لا تقبل التأجيل او التقنيع او التمويه وهي ان الفساد في بُعده الثقافي يبدأ من المؤسسة التي تتخصص في فِقه التجهيل وتحتكره ثم يتعهده ويتولاه النقد، حين يناط به ان يسمي الغزال أفعى والغراب يمامة، خصوصا في بلدان تصل الأميّة المعرفية والثقافية فيها حدّا كارثيا، فَتَنوبُ النخبة عن الناس في بثّ حساسية وذائقة سرعان ما تتسلحان بقوة الاعراف والتقاليد الصارمة. ان الناقد الأكبر الذي ترفع له القبّعات الآن هو الاعلان سواء كان مباشرا عن عمل ما او يتولاه ناقد ذو موهبة ومران في صياغة اعلانات الناشرين، لهذا تطفو بقوة سحرية أعمال معينة ويتداول الناس عناوينها بمعزل عن المضامين، وقد يتباهون في اقتنائها او ادعاء قراءتها لاسباب لا علاقة لها بالثقافة .
في مثل هذه الأحوال يصبح للنقد جدوى وضرورة عليه ان يكرّسهما ميدانيا وتطبيقيا، لأنه عندئذ يدافع عن هذه المهنة التي كان لها ذات يوم قداسة القضاء، لكنها تدنّست حتى أصبحت مجرد بضائع مهرّبة تباع على الارصفة وقد تكون مجهولة المصدر، والنقد الأدبي ليس مستوطنة او جزيرة مكتفية بذاتها. انه من عائلة نقدية لها أبعادها في السياسة والفلسفة والعقل ومجمل الحراك الثقافي، لهذا فالفساد الذي شمل النقد الأدبي بدأ من جذور أبعد، هي جذور نقد السلطة، وأنظمة الحكم والعقل السياسي الذي أصابه الشلل، وكل فروع هذه العائلة النقدية ذات صلة عضوية بالحريات والديموقراطية، بحيث يقبل المنقود ما يقال عن اعماله، ولا يعتبر ما يقال عن نصه بأنه يستهدفه شخصيا وينال من كرامته الآدمية .
‘ ‘ ‘
اذا كان لا بد من مقاربَة تطبيقية في هذا الشجن النقدي المزمن، فهي تتلخص في قراءتين متباعدتين لشاعر عربي قديم وشاعر فرنسي معاصر..
الاول هو تميم بن مقبل الذي سطح النقد المدرسي أمنيته لو ان الفتى حجر …
والثاني يوجين غيفيليك الذي يقول :
اذا ابتسم لك حجر
هل ستجرؤ على الحديث بذلك؟
ان حجر تميم بن مقبل لم يتسع نقديا ليشمل كوكبا بساكنيه، لكن حجر غيفيلك الذي ابتسم وبالتالي ‘ تأنسن’ تنامى نقديا ولدى المرسل اليه الذي يقرأ النصوص تأويليا ليشمل عالما بأسره .
ان نقدا أسيرا للأهواء، ومتورطا بنزعة المُمالأة والاسترضاء، واتقاء المخاطر وتجنّب الجهر بالحقيقة هو افراز عضوي بامتياز لثقافة ملقاة على قارعة الدولة .
القدس العربي